الأربعاء، يوليو 21، 2021

"جوليو دوهيت": الإيطالي المُعتدّ وبدايات القوة الجوّية

توطئة

يتتبّع عبد الجواد عمر في هذا النص بدايات دخول القوة الجوية في تشكيلات الحروب، كما يتناول تنظير "جوليو دوهيت" لأهميتها وضرورة جعلها قسماً مُستقلاً عن أقسام الجيش الأخرى تتضمّن إفراد ميزانيةٍ خاصّةٍ لها، ثمّ ينتقل للحديث عن ظروف الحرب التي عاشها "دوهيت" ودعته للإيمان العميق بالقوة الجوية وقدرتها على حسم الحرب وجعلها قصيرةً. وتظهر الآراء بين مؤيّدٍ ومعارضٍ لتنظيراته، لم تحسم الخلاف حول نقاط الضعف والقوة إلا حروبٌ فعليةٌ خاضتها قوى عظمى مع حركات مقاومةٍ تحرّريةٍ متواضعة التسليح.

 

*****

 

قبل أكثر من قرنٍ ظهرت أداةٌ جديدةٌ في ساحة المعركة على صورة طائرةٍ ميكانيكيةٍ مأهولة، استُخدمت في البداية كأداة استطلاعٍ ورصدٍ فعالة، خاصّةً إذا ما قورنت بما سبقها من المناطيد المستنِدة إلى الهواء الساخن في تحليقها فوق أرض المعركة. تقاطع دخولُ تلك الطائرة إلى أرض المعركة مع كتابات الضابط العسكريّ الإيطاليّ "جوليو دوهيت" التي برز فيها تخوّفُه وتوجّسُه من شموليّة الحرب ورصدُه لتبدّل أدواتها وشكلها؛ فبعد أن كانت الحروب تستند إلى الجيوش فقط أصبحت تُقحم المجتمع فيها برُمّته، وهو ما أفصح عن بزوغ البُعد الثالث في الحرب. [1]

ليس من المُستغرب أن أوّل محاولةٍ كبيرةٍ لفهم وتفسير استخدامات وتوظيفات القوّة الجوّية ازدهرت في شبه الجزيرة الإيطالية. في الحقيقة كان الجيش الإيطاليّ أوّل من استخدم القوّة الجوية في الحرب، بالتحديد على يد الملازم "جوليو جافوتي"، الذي ألقى بثلاثِ قنابل يدويّةٍ على مواقعَ للجيش العثمانيّ في الصحراء الليبية. [2] أقنعت تجربةُ الجيش الإيطاليّ في ليبيا هيئةَ الأركان العامة بضرورة مواصلة تطوير قوّتها الجوّية، وعيّنت "جوليو دوهيت" -وكان يحمل رتبة رائد- قائداً للقوّة الجوّيّة في ذلك الوقت. [3] لقد ارتبط اسم "دوهيت" بشكلٍ وثيقٍ بتاريخ الفكر العسكريّ بسبب تجربته كقائدٍ للقوّة الجوّية الإيطاليّة، وكتاباته التي كان لها الأثرُ الكبير في ظهور مقارباتٍ معرفيّةٍ جديدةٍ من خلال تناوله موضوع الطائرة الآلية وتأثيرها المُحتمَل في الحروب.

إن الأفكارَ التي صاغها "دوهيت" وضعته بقوةٍ كواحدٍ من الشخصيّات المركزية في تطويرِ النظريات المرتبطة بالقوة الجوّية. وتشكل كتاباتُه جزءاً لا يتجزأ من البرامج الأكاديميّة التي تتناول القوة الجوّية وتاريخها، وتفلح دوماً بخلق جدلٍ واسعِ النطاق بين المختصّين في هذا المجال. يقول "كلاوديو سيرج": "كان دوهيت في كثيرٍ من المواقع خاطئاً، ولكن غالباً ما تتم الإشارة له"؛ [4] أيّ أنه بالرغم من الجهد الحثيث لتفكيك ونقد وإظهار الإشكاليّات الأخلاقيّة والعسكريّة في كتابات "دوهيت"، إلا أنّك ما تنفكّ تجده حاضراً في النصوص المختلفة المتعلّقة بتاريخ القوة الجوّية وجدليّاتها. كان "دوهيت" متردّداً من النتائج والعواقب التي سيخلّفها استخدامُ الطائرة الميكانيكية في الحرب حتى أنه دعا إلى حظر القوة الجوّية في أحد نصوصه الأولى، [5] لكنّه سُرعان ما غيّر موقفه مُقدّماً أطروحةً مطوّلةً في أهمية القوة الجوّية وضرورة استخدامها وما تعنيه من "تغيّرٍ ثوريٍّ شاملٍ في الحرب". [6]

نشأة "دوهيت" الفكريّة

غلب على شخصيّة "دوهيت" التعجرفُ وكثرةُ الاحتجاج على قيادة الجيش ومنافسيه وذكاءٌ حادٌّ عزّز من غروره وأدّى في نهاية المطاف إلى سقوط حَظْوته وتأثيره في الجيش الإيطاليّ. لعب هذا العيبُ التراجيديّ في شخصيّة "دوهيت" دوراً كبيراً في احتواء تأثيره على تطوّر القوة الجوّية في إيطاليا وجعل من مقولاته النظريّة والإجرائية محطّ جدلٍ ورفضٍ واسعٍ في بُنى الجيش الرافضة أصلاً للتغيير، خاصّةً عندما طالب بجعل القوة الجوّية سلاحاً مُستقلاً، بما يعنيه ذلك من تخصيص ميزانياتٍ خاصّةٍ لسلاح الجوّ. لم يقف الأمرُ عند الانتقاد الداخلي؛ فقد وصل سخطُ "دوهيت" على ما اعتبره فشلاً من قبل قيادة الجيش الإيطاليّ إلى درجةٍ دفعته باتجاه إرسال مذكّرةٍ إلى مجلس الوزراء ينتقدُ فيها الجيش وقيادتَه، في مُخالفةٍ صارخةٍ للبروتوكولات العامّة أدّت إلى محاكمته العسكريّة والزجّ به في السجن مدّة عام.

يقول "ميلينغر": "أدّت أساليبُ "دوهيت" في دفع قضية القوة الجوّية إلى تحقيق عكس المُراد تحقيقَه من أهدافٍ". [7] لقد كان "دوهيت" مقاتلاً فكريّاً شرساً لكنه لم يبنِ التحالفات، فظلّت كتبه ومسرحياته وروايته ومقالاته الحيّز الوحيد الذي استطاع فيه الانتقامَ من أعدائه. وقد يكون لأثر تلك الصراعات جانبٌ إيجابيٌّ بأن دفعت "دوهيت" نحو المزيد والكثيرِ من الكتابة. فكما يُعلّل "سيرج" في مراجعته لحياة وأفكار "دوهيت" بقوله: "تقدّم كتاباتُه رؤيةً أو ربّما سيناريو أكثر من كونها نظريةً تقنيةً أو علميةً… إن كتابات "دوهيت" أقربُ بكثيرٍ إلى الرؤيةِ من المُخطّط". ودونما شكٍّ، تأثّرت كتاباته بشكلٍ مباشرٍ بالمنافسات والاشتباكات المرتبطة غالباً بطبيعة شخصيته المُعتدّة والمغرورة. [8]

إلى جانب الدافع التنافسيّ الذي أثّر على طبيعة المساهمة الفكريّة لـ"دوهيت"، شكّلت التغيّرات التاريخية عاملاً ضاغطاً ومؤثراً على نصوصه. باختصارٍ، كان "دوهيت" نتاج سياقِه الجغرافيّ والاجتماعيّ والاقتصادي؛ بحيث أن أفكارَه نبعت من الخصوصيّة الجغرافيّة والسياسيّة لإيطاليا. مثلاً، لوحِظ عند "دوهيت" نوعٌ من القصور والمحدوديّة في فهم المسارات التقنيّة العسكريّة والتنبؤ بها؛ فهو لم يتوقع أبداً التطورَ في الآليّات المُدرّعة. يعزو "ملينغيز"  ذلك القصور إلى ارتباطِ المكننة عند "دوهيت" بالقيود الجغرافيّة والسياسيّة الخاصّة ببلاده. [9] ذلك أن إيطاليا -كشبه جزيرة- لطالما انهمكت بحماية طرق الملاحة والتجارة المرتبطة بالساحل الطويل الذي تمتلكه؛ بينما كانت جبالُ الألب حامياً حقيقياً لأيّ "توغلٍ" يأتي من جهة الشمال. لذا، لم تستثمر إيطاليا -كما غيرها- بالمركبات المدرّعة والآليّات المُحصّنة، فيما رأت في القوّة الجوّية عنصراً فاعلاً في حماية سواحلِها ونقاط ضعفها البريّة الوحيدة؛ الحدود مع فرنسا.

بعيداً عن الخصوصية الإيطالية، مثّل عصرُ "دوهيت" عصرَ التغيّرات السريعة والكبرى؛ فبعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى تصاعدت التطوراتُ التقنيّة واتّسعت طرق التواصل والتنقل، وصولاً إلى صعود الشيوعيّة في روسيا وتراجع دور ومركزيّة الإمبراطوريّة البريطانيّة. بحث "دوهيت" في التطوّرات والتحوّلات الحاصلة في الحرب وعن الإمكانيّات والآفاق التي تفتحُها القوّة الجوّية باعتبارها ثورةً حقيقيةً وغيرَ مسبوقةٍ في الشؤون العسكريّة، فكتب: "ما زلنا نعوّلُ على الحدود الضيقة للبصيرة البشرية، وبالرغم من ذلك يمكننا أن نؤكد، بكلِّ يقينٍ، أن الحروب المستقبليّة ستكون مختلفةً بشكلٍ جذريٍّ عمّا سبقها." [10]

لقد آمن "دوهيت" بأنّ الحرب تتّجه نحو الكليّات؛ بمعنى أنّ دائرة أهدافها ستتجاوزُ حدود ضرب البُنى العسكريّة لتصلَ إلى استهدافٍ متعمّدٍ وواضحٍ للحياة المدنية. كما يؤكد "أنّ الأشكال السائدة من التنظيم الاجتماعيّ أعطت الحرب طابعاً وطنياً كلّياً... في نطاق قوّة البصيرة البشرية نرى الآن أن الحروب المستقبليّة ستكون شاملةً في الطابع والنطاق". [11] سيُثبت التاريخُ أنّ هذه النبوءةَ خاطئةٌ؛ فالحربُ ستتخذُ أشكالاً متعددةً، بما في ذلك أشكالاً محدودةً يوّظف فيها الضعيفُ ما يمتلك في تحدّي القوّة العسكريّة الكُبرى.

لا نستطيع لومَ "دوهيت" كلّياً على هذا الخطأ، فقد تكون مبالغتُه في نبوءاته نابعةً من الرعب الذي شهده في الحرب. ما زالت الحرب العالمية الأولى تشكّل في الأدبيّات العسكريّة متلازمةً لما سبّبته من رعبٍ على خطوط التماس بين الجيوش المُتحارِبة. في حين اتخذت الحربُ طابعاً كُلّياً من حيث مشاركة المجتمع برُمّته في إنتاج أدوات الحرب أو في خوضِ غمارها على الخطوط الأماميّة، لكنّها شهدت كذلك موت الآلاف لأجل التقدّم عدّة أمتارٍ أو لمنع التراجع عدّة أمتارٍ. كانت الحرب تُخاض من مواقع ثابتةٍ وامتزجت فيها الأجسادُ في خنادقَ ضيقةٍ وطويلة، وكانت المعضلة الأساسية التي تواجه القائد العسكريّ تكمنُ في كيفية تخطّي تلك الحدود الصارمة للمعركة التي اتخذت شكل الخندق في ذلك المنعطف التاريخيّ للحرب.

إلى حدٍ بعيدٍ، تشكّلت أفكار "دوهيت" المؤيّدة بشدّةٍ للقوة الجوية من تلك التجربة الأليمة في الحرب العالمية الأولى. فيما دفع الجمود والفشل في مختلف أشكال التكتيكات الهجوميّة العديدَ من واضعي الاستراتيجيّات إلى الخروج باستنتاجٍ مفادُه أن القوة العسكرية -الأسلحة الناريّة وعدد الجنود والهياكل التنظيمية واللوجستيّة - ليست كافيةً لإنهاء المعارك وإتمام المهام العسكريّة بنجاحٍ. [12]

أوضح "دوهيت" أن التقنيّة التي قَدّمت للبشرية المدافعَ الرشاشة والغازات السامة وما إلى ذلك من أدواتٍ عسكريّةٍ أعطت ميزةً وأفضليةً لحالة الدفاع في الحروب البرّية. ويعلّل "ميلينغر" مقاربة "دوهيت" على النحو التالي: "على الرغم من اقتناعه بأنّ التكنولوجيا منحت منظومة الدفاع الأفضليّة في الحرب البرّية، في حين تكمُن المفارقة لديه أنّ التكنولوجيا أيضاً على شاكلة الطائرة ستُنهيها." [13] هذان الافتراضان الرئيسيان؛ أن الحرب الحديثة تأخذ الطابع الكلّي وأن التكنولوجيا جعلت الحروب البرّية والبحرية الهجومية غير مجديةٍ، رسّخا الكثير من نظريّات ونبوءات "دوهيت" حول استخدامات وتوظيفات القوة الجوّية. باختصارٍ، قدّمت القوة الجوّية حلاً ومخرجاً لمتلازمة الخطوط الدفاعية التي يصعبُ اختراقُها؛ ذلك أنها تستطيع تخطّي الخنادق وخطوط المواجهة الثابتة، كما يُمكنها الضربُ في عُمق فضاء العدوّ المدنيّ والصناعيّ والعسكريّ.

هنا يكمُن الطرح الرئيسيّ لـ "دوهيت"؛ بما أنّ القوات البرّية والبحرية لا يمكنها إنهاءُ الحروب بسرعةٍ، فإنّ استخدام القوة الجوّية كوسيلةٍ لتجاوز ساحة المعركة واستهداف البنية التحتية للعدوّ والمركز الصناعيّ وشبكات النقل والمواصلات والإمدادات، هي الطريقة الأكثر إنسانيةً وسرعةً في إنهاء الحروب. ويربطُ "دوهيت" تحقيق هذه النتائج السريعة بثلاثة قضايا مترابطةٍ:

أولاً؛ يتطلّب الفوز السريع بالحرب تشكيل سلاح جوٍّ مُستقلٍّ يقوده طيّارون أكفّاء ومُختصّون، فيقول في هذا الصدد: "لتحقيق النصر على العدوّ… علينا تنظيم القوة الجوّية في إطار سلاحٍ منفصلٍ". إذ رأى "دوهيت" أنّ تنظيم القوة الجوّية تحت سلاح البحرية أو تحت قيادة القوة البرّية يعني توظيفها بما يخدم العمليّات الهجينة، لكنّ ذلك لن يُؤدّي إلى استغلالها وتوظيفها بالشكل الأنسب والأفضل في ضرب معنويّات العدوّ وتدمير قدرته على شنّ الحرب، أيّ في استهداف العمق الصناعيّ والمدنيّ.

ثانياً؛ من أجل الانتصار السريع في الحرب يجبُ أن تُبنى الاستراتيجية العسكرية على قاعدة التفوّق الجوّي من لحظة البداية. وقد حثّ "دوهيت" على تدمير "الأعشاش والبيض على الأرض"؛ [14] بمعنى أن يتمّ استهداف مكامن القوة الجوّية لدى العدوّ قبل أن تعلو عن الأرض، فيتعذّر على الخصم إعادةُ استخدامها في سيرورة الحرب. [15]

أما أخيراً، وبعد تأمين السيطرة الكاملة على الجوّ، يحثّ "دوهيت" على الاستهداف المباشر لخمسِ عناصرَ أساسيّةٍ من الأهداف الحيوية عند العدوّ، تتضمّن المراكز الصناعيّة وعُقد النقل المحوريّة والبنى التحتية الهامّة والكبرى (الكهرباء والماء والطاقة)، والمباني الكبيرة، وأخيراً وليس آخراً؛ المدنيين. بالفعل، أكّد "دوهيت" في أكثر من موضعٍ على أنّ استهداف المدنيين مهمٌ وضروريٌّ ويتّخذ شكلاً من أشكال الأولوية:

"لا يُمكن أن يحدث الانهيار الكامل للبنية الاجتماعية إلا في بلدٍ يتعرّض لهذا النوع من القصف القاسي من الجوّ... لوضع حدٍّ للرعب والمعاناة، سينهض الناس بأنفسهم ويطالبون بإنهاء الحرب...". عندها فقط يمكن كسبُ الحرب بشكلٍ فعّالٍ وسريعٍ وإنسانيٍّ وبدون الجمود الدمويّ التي أنتجته الحرب العالميّة الأولى. بهذا المعنى، تشكّل السيطرة التلقائية على الجوّ عند "دوهيت" العاملَ الأساسيّ في تحقيق النصر. [16]

قصور "دوهيت" 

وضعت أفكارُ "دوهيت" الاستراتيجيةَ العسكريةَ في معضلةٍ من أكثر من زاويةٍ. فمن ناحيةٍ؛ ساهمت في إعطاء القوة الجوّية أهميّتها المُستقلة بعيداً عن دمجها مع الأسلحة الأخرى. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، اصطدمت تلك الأفكار مع العديد من المنظومات الأخلاقية والقانونية المنادية بفصل المدنيّ عن العسكريّ، والتي تمّ تعميدها في اتفاقيات "لاهاي" ولاحقاً في اتفاقيات "جنيف" حول أخلاقيات وقوانين الحرب. بالرغم ممّا سلف، إلا أنّ أدبيات "دوهيت" تُحيلنا بالتحديد إلى الكيفية التي تعاطت بها أطرافُ النزاع في الحرب العالمية الثانية. وقد تكون القنابل التي حرقت طوكيو وديرزدن، أو حتى تلك التي أُلقِيت على هيروشيما وناغازاكي أفضلَ مثالٍ على معنى القصف الاستراتيجيّ كما لم يتصوره "دوهيت" بنفسه، والذي كتب في مقالٍ قصيرٍ عشيّة الحرب العالمية الأولى:

"لقد ذكرنا مراراً وتكراراً أن الحرب الحالية قد قلبت كلّ الأفكار العلمية التي سادت في السابق حول الحرب. حدث هذا بشكلٍ أساسيٍّ لأنّ الدراسات العلميّة للحرب تركّز على التاريخ والماضي، بدلاً من مراعاة ظاهرة الحرب المُتعلقة بالظروف الحالية ... فنُّ الحرب في مُجمله لا يمكن فصله عن السياق الاجتماعي الذي ستحدث فيه الحرب". [17]

إذاً، تشكّلُ الحرب بالنسبة لـ"دوهيت" ظاهرةً معقّدةً لا يمكن النظر إليها من زاويةٍ أخلاقيةٍ قاصرةٍ أو من زاويةٍ تأريخيّةٍ بمعزلٍ عن البُعد الاجتماعيّ والمستقبليّ. والبُعد الأخير يتجلّى في إحالته الدائمة إلى فكرةٍ أساسيةٍ مفادها أنّ الحرب التي علينا أنّ نفكر فيها هي الحرب القادمة. وقد اتّسمت كتاباتُه بأنها غير تاريخيةٍ ومستندةٌ أساساً إلى التفكير المتعمّق في إشكاليّات المعركة الحاليّة ومحاولات الخروج منها. لهذا نجد "دوهيت" مُبالغاً في ثقته بقدرة القصف الاستراتيجيّ، كعاملٍ وحيدٍ، في تحقيق النصر على حساب الاستخدامات الهجينة القيّمة. [18]

قد يغفرُ له كَوْن الحقبة التي كتب وعاش ومات فيها، لم تشهد حضوراً ودوراً ذا أهميةٍ للقوة الجوّية، بل يمكنُ القول إنّ معظم مقترحات "دوهيت" لاستخدامات للقوة الجوّية كانت ما زالت طورَ التطوير والاختبار. [19] لهذا السبب تحديداً أطلق "كلاوديو سيرج" على "دوهيت" لقب "نبيّ القوة الجوّية" لما تضمّنته أفكاره من صياغةٍ مستقبليةٍ -مُتخيّلةٌ بغالبيتها- حتى وإن كان لها أساسٌ ماديٌّ في الواقع. [20]

كانت أحد أهمّ افتراضات "دوهيت" مُحاجَجتُه بأن جميع الحروب شاملةٌ وكلّيةٌ؛ فهي تشمل أنظمةً اجتماعيةً كاملةً، وقد نكون في القرن الواحد وعشرين أقربَ إلى كلّية الحرب من بدايات القرن العشرين. صحيحٌ أن العديد من الدول توجّهت إلى إعادة هيكلة الجيوش بحيثُ أصبحت لا تعتمد على التجنيد الإجباريّ، لكنّ بالرغم من ذلك، يبدو أنّ الحرب تتّخذ طوراً نفسياً وإعلامياً وسياسياً وحتى عسكرياً على نحوٍ أصبح فيه الجميعُ هدفاً أو جزءاً من العمليّات العسكريّة.

وقد كان لدوهيت الفضلُ في الإضاءة على أهميّة إنشاءِ سلاحٍ جويٍّ مستقّل يُعنى في البُعد الثالث للحرب ويُستَثمر في بناء استراتيجيّاتٍ حوله. بالفعل أصبحت دعوتُه لإنشاء قوةٍ جويّةٍ مستقلّةٍ داخل هيكليّة الجيش الحديث أشبهَ بالفطرة السليمة. وقد نكون نحن في فلسطين والعالم العربيّ أفضلَ من يعرف أهمية الحفاظ على التفوّق في الجوّ وما يعينه من خساراتٍ فادحةٍ خلال العديد من الحروب، كانت أهمَّها حربُ عام 1967 عندما نجح الكيان الصهيونيُّ بإخراج القوة الجوّية المصرية والسورية والأردنية من المعركة مُنذِرةً بنكسةٍ لم نتعافى من نتائجها السياسيّة والاجتماعيّة حتى يومنا هذا. 

لعلّ أكثر أفكاره إثارةً للجدل تلك التي ارتبطت بنجاعة وأهميّة القصف الاستراتيجيّ. في هذا السياق، كتب "ميلنغر" جدليّته بشكلٍ يعطي تلخيصاً ملائماً لأهمّ ما قدمه "دوهيت"؛ فمن جهةٍ، انضوت مبادئ "دوهيت" الأساسية على تنبؤاتٍ عسكريةٍ دقيقةٍ، ومن ضمنها أنّ الجوّ سيُصبح ساحةً عنيفةً وحاسمةً، وأن الدولة التي تتحكم في الجوّ ستتحكّم في الأرض أيضاً، وأن الطائرة ستحمل الحرب إلى جميع الشعوب في جميع الأماكن، وأن الآثار النفسية المُترتّبة على القصف الجويّ ستكون كبيرةً. [21] من جهةٍ أخرى، يخلُص "ميلينغر" إلى أن "دوهيت" أثبت خطأه في العديد من المجالات؛ مثلَ مدى الضرر المعنويّ للمدنيين من وراء القصف، حيثُ تتوفّر دلائلُ عدّةٌ على أنّ القصف يُنتج، في حالاتٍ كثيرةٍ، تضامناً اجتماعيّاً أوسع وقدرةً على الاحتمال وإرادةً أكبر على المواجهة. علاوةً على ذلك، بالغَ "دوهيت" في تقدير أثر القصف الاستراتيجيّ وقدرته على إنتاج نهايةٍ سريعةٍ للحرب. [22]

كما وضع "دوهيت" تصوّراً مثالياً عندما كتب عن تأثيرِ الغارات والقنابل بالحرب، مع إهمالٍ واضحٍ ليس فقط لقوّات العدوّ وقدراتها وردودها المُحتَملة، ولكنّ أيضاً للعوامل التي يمكن أن تُعرقِل مثل هذه المهامّ. كما يضيف "سيرج" قوله: "في عالم "دوهيت" كلُّ شيءٍ مثاليٌّ؛ الطائرات تُسقِط حمولتها بشكلٍ مثاليٍّ دون أخطاءٍ أو قاذفاتٍ أو تداخلٍ بين القوّات، وجميع الأهداف ذاتُ بنيةٍ موحّدةٍ. [23]

انهارت هذه الرؤية المثالية على بوتقة الحرب الفعلية؛ فقد أثبتت التدابير الدفاعيّة - للرادارات، وصواريخ أرض-جو، ومكافحة الحرائق، والملاجئ والنفق... إلخ- قدرتَها على تحييد القوة الجوّية بل والتغلّب عليها أحياناً. كما أن المعارك الجوّية  نشبت بين الطائرات العسكرية بشراسةٍ خلال الحرب العالمية الثانية، ما يثبت خطأ "دوهيت" بمكانٍ ما. خلال الحرب، قُتل أكثر من 80,000 شخصٍ من الطيارين والأفراد العاملين في سلاح الجوّ من القوات الجوّية الملكية والقوات الجوّية الأمريكية، وفُقدت المئات من القذائف والطائرات. [24]

تقدّم معظم تقييمات القصف الاستراتيجيّ وأثره على معنويّات العدوّ نتائجَ مُختلطة. على سبيل المثال، يقدّم مسحُ القصف الاستراتيجيّ الأمريكيّ لعام 1945 نظرةً متفائلةً للقصف الاستراتيجيّ من حيث أثره على البُنية الصناعية الألمانية في الحرب، ما أدّى بحسب التقييم الأمريكيّ إلى تهاوي الاقتصاد الألماني. في نفس الوقت، تقول نتائج المسح إن الأثر على معنويات المدنيين لم يكن بحجم التوقعات، وإن القصف الاستراتيجيّ لألمانيا لم يترك أثراً كبيراً على حالة التضامن الاجتماعيّ وإرادة المجتمع الألمانيّ في القتال. قدّم مؤرّخون آخرون تقييماتٍ أكثر قتامةً من المسح الأمريكيّ، وكان من بين هؤلاء "ريتشارد هالون"، الذي ادّعى "أن القوة الجوّية الاستراتيجية في الحرب العالمية الثانية لم تستطع الوفاء بوعود "دوهيت"...فقد كانت تفتقر إلى الاستدامة ودقة التدمير للقضاء التامّ على الوسائل التي يمتلكها العدوّ لشنّ الحرب، ولم تحطّم معنوياته. لكنّ على الرغم من أنها خيّبت الآمال، فهذا لا يعني أنها فشلت". [25]

العنصر الثاني الأكثر مركزيّةً في مذهب "دوهيت" الجوّي هو أهمية الاستحواذ على التفوّق الجوّي؛ إذ يدّعي أن أولئك القادرين على تحقيق التفوّق الجوّي الكامل أو القريب سيخرجون منتصرين في أيّ حربٍ. يقوم منطق هذا الادّعاء على قاعدة أنّ استهداف عمق العدوّ سيؤدّي إلى تقليل زمن الحرب وبالتالي إلى انتصارٍ سريعٍ وأكثر إنسانيةً.

على النقيض من هذا الطرح، تُثبت الشواهد أنّ الضعفاء حول العالم استطاعوا التغلّب على ما مثّلته القوة الجوّية من سلاحٍ في يد القوى العسكرية الغربية الأكثر تفوّقاً تقنياً، وتمكّنوا في أحيانٍ كثيرةٍ من تحييد أثرها على ساحة المعركة. في فيتنام، بُنيت الاستراتيجية الأمريكية على عنصرين؛ أوّلهما البحث عن الأهداف وتدميرها (Search and Destroy Missions)، والثاني يتعلّق باستخدام القوة الجوّية لفرض ثمنٍ باهظٍ على فيتنام الشمالية وحلفائها من المقاتلين في الجنوب. تمتّعت الولايات المتحدة بالتفوّق الجوّي شبه الكامل، ومع ذلك فشلت في تحقيق أهدافها السياسية في الحرب. في الواقع، أُطلِقت ثلاث حملاتٍ جوّية ضد فيتنام؛ رولنغ ثاندر (Rolling Thunder)، ولينباكر1(Linebacker 1)، وليناباكر 2 (Linebacker 2)، واتّسمت بتصعيدٍ تدريجيٍّ حادٍّ ثم اتساع رقعة الاستهداف الأمريكي لفيتنام بناءً على تخوّفاتٍ أمريكيةٍ من تدّخلٍ أوسع للاتحاد السوفيتي في حال صعّدت الحملات الجوّية بشكلٍ سريعٍ.

لكنّ بالرغم من ضراوة الاستهداف وحجمه الواسع إلا أنه لم يحقق المُراد، وقد يكون ساهم في إحراز نوعٍ من أنواع التعادل الاستراتيجي مع جبهة التحرير الوطنية الفيتنامية "الفيتكونغ". حتى عندما تمّ استخدام القوة الجوّية في محاولةٍ لتعطيل خطوط الإمداد القادمة عبر شبكةٍ معقّدةٍ من التضاريس الصلبة، والمعروفة مُجتمعةً باسم "طريق هو تشي مينه"، لم تنجح مَهمّة سلاح الجوّ الأمريكي. وكما يؤكد "جورج هيرينج": "اعترفت التقديرات الأمريكية الرسمية بأنّ التسلّل زاد من حواليّ 35,000 جنديّ في عام 1965 إلى حواليّ 90,000 في عام 1967، حتى مع تزايد القصف". [26]

بعيداً عن فيتنام، قدّمت المقاومة في فلسطين ولبنان مثالاً واضحاً على كيفيّة التغلّب على التفوّق الجوّي الصهيوني واحتواء آثاره على أرض المعركة. يمكن القول إنّ المقاومة انشغلت على مدار الأعوام الثلاثين الماضية في إيجاد التصاميم الملائمة للتغلب على التفوّق الجوّي الصهيونيّ والتي تضمّنت الأنفاق والمُغر، وحلولاً تقنيةً لمعضلة الاستهداف المباشر لطواقم إطلاق الصواريخ من خلال إعادة تصميمها، بالإضافة إلى التعاطي الجادّ مع ما يمكن إنتاجه محلياً من "طائراتٍ" صغيرةٍ مكّنت الفلسطينيّ من امتلاك سلاح جوٍ للمرة الأولى، وإن لم يزل محدوداً.

خاتمة

يظلّ "جوليو دوهيت" شخصيةً مركزيةً في أصول وتطوّر نظريّة القوة الجوّية، خاصةً وأن أفكاره حملت رؤيةً مستقبليةً.  ومن المؤكد أنه قدّم مجموعةً عامةً من المبادئ التوجيهية لاستخدامات القوة الجوّية ما زالت مهمّةً في الوقت الراهن. في الواقع، دفع التقدم التكنولوجي في أنظمة الطيران، والتطوّر على صعيد القصف الدقيق والقدرة على تمويه وإخفاء الطائرات مصحوباً مع تنامي قدرات الحرب الالكترونية، إلى إعادة أفكاره نحو مركز النقاشات في أروقة البحث والإنتاج الفكري العسكري. كما أنّ الانتقال إلى أنظمة الليزر جعل من حلقات "دوهيت" في الاستهداف اليوم أكثرَ أهميّةً من الوقت السابق، بل يمكن القول إن العدوّ أصبح يمتلك القدرة على مُعايرة المجزرة من الجوّ، بحيث يكون الثمن مُتّسقاً مع حالة الاشتباك وطبيعتها. أليس هذا ما حصل في الشجاعيّة وخُزاعة؟ أليست عقيدة الضاحية، بما فيها من تهديدٍ بضرب واستهداف قرى بأكملها في حال اندلعت الحرب مرةً أخرى، مُجرّد عودةٍ إلى توجيهات "دوهيت"؟ نعم نحن نعيش في عالمٍ ساهم "دوهيت" في تخيّله. 

من هنا يمكنكم قراءة المقال بصيغة PDF

 

الهوامش

[1]  Keaney, Thomas. (2014). “Giliuo Dohet and His Critics”. H-Net Reviews in the Humanities and Social Sciences. P. 1.
[2]  Dundey, Robert S., (2011). “Douhet”. Air Force Magazine. P. 64 URL
[3] Ibid
[4] Serge, Claudio G. (1992). “Giluio Douhet: Strategist, Theorist, Prophet?”. Journal of Strategic Studies. 15:3, 351-366. Page 351.
[5] Mellinger, Philip. (1997). The Paths of Heaven: The Evolution of Airpower Theory. Air University Press.
[6] qtd in Hippler, Thomas. Bombing the People (Cambridge Military Histories) (p. 116). Cambridge University Press. Kindle Edition.
[7]  Serge, Claudio G. (1992). P. 355.
[8]  Ibid. p.353
[9]  Mellinger, Philip. (1997). P.  2.
[10] Douhet, Giliuo. (1921). Command of the Air. Pickles Partners Publishing. Kindle Edition.
[11]  Ibid, p.p 3-4.
[12]  Hippler, Thomas. Bombing the People (Cambridge Military Histories) (p. 255). Cambridge University Press. Kindle Edition.
[13]  Mellinger, Philip. (1997). P. 9
[14] ibid
[15]  Mets, David R. (1998). P. 11.
[16]   Douhet, Giliuo. (1921). Command of the Air. Pickles Partners Publishing. Kindle Edition.
[17]  Qtd in Hippler, Thomas. Bombing the People (Cambridge Military Histories) (p. 75)
[18]  Hippler, Thomas. P. 76.
[19]  ibid
[20]  Serge, Claudio G. (1992). P. 355.
[21]  Mellinger, Philip. (1997). P. xiv
[22]  Dundey, Robert S., (2011). P. 4
[23]  Serge, Claudio G. (1992). P. 357.
[24]  Dundey, Robert S., (2011). P. 4
[25]  Hallion, Richard. Storm Over Iraq: Air Power and the Gulf War (Kindle Locations 366-368). Smithsonian. Kindle Edition.
[26]  Herring, George (2013-09-04). America's Longest War: The United States and Vietnam, 1950-1975 (Page 184).

المصادر

Keaney, Thomas. (2014). “Giliuo Dohet and His Critics”. H-Net Reviews in the Humanities and Social Sciences. P. 1.

Dundey, Robert S., (2011). “Douhet”. Air Force Magazine. P. 64, URL.

Serge, Claudio G. (1992). “Giluio Douhet: Strategist, Theorist, Prophet?”. Journal of Strategic Studies. 15:3, 351-366. Page 351.

Hippler, Thomas. Bombing the People (Cambridge Military Histories) (p. 116). Cambridge University Press. Kindle Edition.

Douhet, Giliuo. (1921). Command of the Air. Pickles Partners Publishing. Kindle Edition.

Hallion, Richard. Storm Over Iraq: Air Power and the Gulf War (Kindle Locations 366-368). Smithsonian. Kindle Edition.

Herring, George (2013-09-04). America's Longest War: The United States and Vietnam, 1950-1975 (Page 184).

Mellinger, Philip. (1997). The Paths of Heaven: The Evolution of Airpower Theory. Air University Press.

Mets, David R. (1998). The Air Campaign: John Waarden and Classical Airpower Theorists. Air University Press. p.11

حرب البراغيث: هزيمة أمريكا في فيتنام

 

من غير المستغرب أن تكون حرب فيتنام هي الأكثر دراسة في تاريخ الحروب الحديثة؛ إذ إنّ الأدبيات الهائلة التي تناولت الحرب ترتبط بشكل مباشر بالفشل الذريع الذي منيت به الولايات المتحدة الأمريكية، ومن قبلها فرنسا، في تحقيق الأهداف السياسية المنشودة من الحرب. وفي الجهة المقابلة، شكّلت هذه الحرب نموذجاً حياً لثوار جنوب العالم من جميع التيارات السياسية والأيديولوجية، ودرساً ناجعاً لخصمٍ  ضعيفٍ   يواجه جبروت إمبراطورية عظمى ويخرج منتصراً.

استمرت الحرب على مدى أكثر من عشرة آلاف يوم، نالت فيتنام بعدها حريتها من الاستعمار الفرنسي، وأعادت توحيد طرفيها في دولة واحدة، مُسقِطَةً بذلك المشروع الأمريكي؛ الذي هدف إلى الإبقاء على فيتنام الجنوبية دولة تابعة وقابلة للحياة في قلب الهند الصينية.[1]  وقد أسفرت الحرب عن مقتل أكثر من ثمانية وخمسين ألف جندي أمريكي وما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين فيتنامي.[2]

وكان للتجربة الأمريكية في فيتنام أثرٌ  عميقٌ  على النهج الأمريكي في الحرب، وعلى ثقة النفس الأمريكية في فعاليتها وقدرتها على استخدام قوتها العسكرية لتحقيق أهداف سياسية وفرض نتائج سياسية تناسبها. كما أصبحت التجربة الأمريكية في فيتنام متلازمة نفسية (Vietnam Syndrome)، ما تزال حتى اليوم تؤرق صانع القرار الأمريكي، وتؤثر في منحى القرارات المتعلقة بدخول حروب جديدة أو الامتناع عنها.

تعددت النظريات التي تناولت أسباب الفشل الأمريكي في فيتنام وعجز الولايات المتحدة عن تحقيق أهدافها السياسية المنشودة من احتواء الشيوعية في جنوب شرق آسيا (الهند الصينية). تختلف  تلك النظريات من حيث نوع العوامل التي يتم تناولها باعتبارها أسباباً للفشل الأمريكي، إذ تفيد بعضها بأن الحرب كانت "خاسرة" منذ البداية، مرتكزةً أساساً على ضعف فيتنام الجنوبية اجتماعياً وسياسياً وعدم قدرة النخبة الحاكمة هناك على إرساء ميثاق اجتماعي فعّال، فيما تتناول نظريات أخرى القصور الجيوستراتيجي والبيروقراطي والتكتيكي لدى القوات الأميركية، ما قوّض الحرب من بدايتها وجعل منها معركة أمريكية خاسرة.

هناك رأي ثانٍ له نفس القدر من الأهمية يُحمِّل التدرج الأمريكي، والارتباك الاستراتيجي، والاستخدام غير الفعال للقوات الجوية جنباً إلى جنب مع أوجه القصور التكتيكية والعملياتية كسبب رئيسي للفشل. بل ترى تلك النظريات أن نتائج الحرب هي محصلة أخطاء بشرية ارتكبتها قيادة مدنية وجيش مطيع يفتقر إلى الأدوات اللازمة لخوض حرب أرضية وجوية في أدغال الهند الصينية.

ويحيل آخرون أسباب الفشل لنظرية الطعن في الظهر[3]، من خلال تسليط الضوء على الرفض الاجتماعي والإعلامي الذي رافق الحرب في الولايات المتحدة الأمريكية. من الواضح أن هذه الحجج ليست بعيدة عن السياق السياسي الذي تشكلت فيه؛ أي أن تفسيرات فشل الحرب تنبع بالضرورة من صراعات سياسية وبيروقراطية تُجيّر أسباب الهزيمة بما يخدم مصالحها البيروقراطية والسياسية في  داخل أركان السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية.[4]

يتناول هذا المقال الأسباب العديدة لانتصار فيتنام على الولايات المتحدة الأمريكية. وينقسم المقال إلى جزأين، يشرح الجزء الأول عوامل بداية التدخل الأمريكي وطبيعته، موضحاً أن الحرب كانت حرباً وجودية وتحررية بالنسبة للفيتناميين. بينما كانت بالنسبة للولايات المتحدة حرباً لإرساء قواعد نفوذ في منطقة هامشية، ضمن استراتيجية أكبر لاحتواء نفوذ الاتحاد السوفييتي. أما في الجزء الثاني، فسنفكك  مضامين الارتباك الاستراتيجي والعملياتي والتكتيكي الذي طغى على الوجود الأمريكي في فيتنام، ومقاربتها باستراتيجية سياسية وعسكرية فيتنامية مدروسة ومخططة جيداً؛ أي الاستراتيجية وعلاقتها بالأهداف السياسية.

وأخيراً، يخلص المقال إلى أن السبب الرئيسي لفشل الولايات المتحدة في فيتنام يكمن في عدم التماثل بين "الإرادة والصبر والقدرة على التحمل" لدى  الطرفين الرئيسيين في الحرب، الولايات المتحدة وفيتنام (جبهة التحرير الفيتنامية وشمال فيتنام)، عدا عن الضعف الاجتماعي والسياسي المتأصل في فيتنام الجنوبية كدولة قابلة للحياة.


مسوغات التدخل الأمريكي في فيتنام

جاء العدوان الأميركي على  فيتنام نتيجة عوامل تاريخية مختلفة حددت طبيعة الموقف والدور الأمريكي في ظل حرب باردة وضعت الولايات المتحدة وحلفاءها في مواجهة الاتحاد السوفيتي والصين. كان الصراع الأيديولوجي والجيوسياسي ما بين القطبين محورياً في جرّ الولايات المتحدة إلى التدخل في سياق الحرب القائمة في فيتنام، كما يذكر لوجيفال بوضوح، "إذا كان توجه هوشي منه (Ho Chi Minh) الشيوعي مهماً لدى أي عاصمة عالمية كبرى في تلك الفترة فكان في واشنطن"[5]. فاقم ذلك من أفكار على شاكلة نظرية أحجار الدينامو والتي رأت في انتشار الشيوعية في فيتنام منطلقاً لانتشارها في دول أخرى.

كما تأثر صناع القرار الأمريكيون بشكل كبير بالمناخ السياسي المحلي بعد الحرب العالمية الثانية، وهو مناخ معادٍ للشيوعية تجسد بانتشار المكارثية (McCarthyism)[6] ونقاشات محتدمة حول "خسارة الصين" للشيوعية، ونتائج الحرب الكورية التي أفضت إلى تعادل سياسي وجغرافي ما بين الولايات المتحدة من جهة والصين والاتحاد السوفيتي من جهة أخرى. ساهمت مجموع هذه العوامل بشكل كبير في دفع الولايات المتحدة نحو التدخل في فيتنام ومحاولة إنقاذ فيتنام الجنوبية من جبهة التحرير الفيتنامية.

تدخلت الولايات المتحدة في فيتنام على أسس غامضة ومتخلخلة وسوء قراءة لمقومات جبهة التحرير الفيتنامية الملتزمة بإعادة توحيد فيتنام. علاوة على ذلك، اتسم التدخل الأمريكي في فيتنام بجهلٍ عميقٍ للقوى الاجتماعية والثقافية في فيتنام، وأهمها قوة القومية الفيتنامية وتاريخها الطويل في مناهضة أشكال متعددة من الغزاة - الصين مثلاً - والمتأصلة بعمق في التاريخ الفيتنامي.

وصل سوء القراءة ذلك حد تجاهل الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي أدّت إلى صعود جبهة التحرير الفيتنامية في الجنوب، وتمردها على الدولة والدعم الذي حظيت به من شخصية مؤثرة وجوهرية في المخيال الفيتنامي الحديث، ألا وهو هوشي منه (Ho Chi Minh)؛ حيث أصرت الولايات المتحدة على اعتبار الحرب مؤامرة دولية كبرى يديرها الكرملين في روسيا.

كان العالم وفقاً لصناع القرار الأمريكي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين منقسماً ما بين خير وشر، وطغت على التفكير عند صناع القرار معادلة صفرية؛ حيث يعتبر أي تقدم للشيوعية هو خسارة للأمريكي والعكس الصحيح.[7] وقد دفع القلق حول فقدان "المصداقية" أمام حلفاء الولايات المتحدة  والتأثير المحتمل "لسقوط" فيتنام بأيدي الشيوعية على دول أخرى، وتداعياته على الساحة العالمية وصناع القرار الأمريكي للتدخل مباشرة في الحرب[8]. علاوة على ذلك، شكّلت مجموعة من التصورات الأمريكية حول المجتمع الفيتنامي "البدائي" وعدم قابلية صموده في مواجهة الماكينة العسكرية الأمريكية عاملاً رافداً آخر لدخول أمريكا الحرب.

بينما أدّت عوامل أخرى لتحجيم المشاركة الأمريكية، كان أهمها: الخوف من توجيه قوات كبيرة إلى فيتنام على حساب ميادين المنافسة السياسية  الأكثر أهمية في أوروبا وشرق آسيا، والتوجس من احتمال اتساع الحرب من خلال دخول الصين والاتحاد السوفيتي إلى جانب جبهة التحرير وفيتنام الشمالية. وقد كانت تلك التصورات مستمدة من التجربة الكورية أساساً ومن تطورها إلى حرب شاركت فيها كل من الصين والاتحاد السوفيتي. وقد أدّت هذه العوامل إلى تدخل أمريكي يعاني من الارتباك الاستراتيجي، لذا كان الخيار الأمريكي هو الدخول في الحرب من خلال تبني استراتيجية تدريجية تصاعدية وحذرة.[9]

التناقضات السياسية والاختلال الاستراتيجي

ومن أجل حلّ التناقض بين الرغبة الأمريكية في التوصل إلى أهدافها السياسية في فيتنام والمتمثلة ببقاء جنوب فيتنام دولة تابعة، واستخدام حرب محدودة مع قيود سياسية ثقيلة خوفاً من تصعيد شامل، اعتمد الأميركيون على قوة النيران أساساً. وكما يذكر هيرنغ بوضوح، "لم تضع الولايات المتحدة أبداً استراتيجية ملائمة للحرب التي كانت تقاتلها، وذلك جزئياً لأنها افترضت أن مجرد توظيف قوتها العسكرية سيكون كافياً"[10]. في الواقع، فإن الجدل ما زال قائماً حول طبيعة الحرب التي خاضتها أمريكا في فيتنام. هل كانت الولايات المتحدة تخوض حرباً تقليدية تستدعي استخدام مواردها العسكرية بكافة طاقتها، أم أنها كانت تخوض حرب عصابات غير تقليدية تستلزم استراتيجية تُبنى على أسس مكافحة التمرد؟ ما هو مؤكد هو أن الحرب لا يمكن تصنيفها بدقة، إذ استخدمت جبهة التحرير الوطني وشمال فيتنام كلا التكتيكين، حرب عصابات وحرباً تقليدية، في مختلف مراحل الحرب جنباً إلى جنب مع سياسة دبلوماسية ناضجة استغلت فيها التناقضات ما بين القوى الغربية، والاضطرابات الاجتماعية الداخلية في أمريكا والغرب عموماً لصالحها.[11]

استقرّت الاستراتيجية العسكرية الأمريكية على أساسين: استخدام القوات البرية في عمليات "البحث والتدمير"، والاعتماد على القوة الجوية في قطع الإمدادات ما بين الشمال والجنوب، بينما تقوم الأخيرة بقصف تدريجي وممنهج لفيتنام الشمالية على أمل أن القصف الثقيل والتدريجي سيحدث تغييراً في الحسابات السياسية لدى القيادة الثورية الفيتنامية. ووظفت القوة الجوية أيضاً في محاولات قطع طرق الإمداد، أهمها طريق هو شي منه (Ho Chi Minh) والذي عمّد بدماء الآلاف من الفيتناميين.

على الرغم من محاولات الولايات المتحدة الدؤوبة لتغيير مسار المعركة، إلا أن تفوقها في النيران والتكنولوجيا لم يحقق لها سوى الجمود على أرض المعركة، والذي بدوره لم يدم طويلاً؛ فطرق الإمداد بقيت تعمل، بل تزايدت نسب تهريب المقاتلين من الشمال إلى الجنوب،[12] بالإضافة للإمدادات العسكرية وغيرها من لوجستيات ذات أهمية على أرض المعركة في الجنوب.

حاولت الولايات المتحدة تغيير استراتيجيتها تحت شعار "فتنمة" (Vitenamization)، وهي استراتيجية ارتكزت على تدريب وتمكين القوات العسكرية الفيتنامية في الجنوب وإحالة أعباء المعركة لتلك القوات.[13] وقد عملت أيضاً على تكثيف حملاتها الجوية فوق فيتنام الشمالية باستهداف أوسع للبنى التحتية المدنية والعسكرية وبوتيرة أعلى. وقد أدت مجموعة الأحداث المتتابعة إلى إقناع القيادة العسكرية والسياسية الأمريكية بضرورة الانسحاب من فيتنام، كان أهمها هجوم تيت والذي رغماً عن فشله في تحرير مدن جنوبية هامة، إلا أنه أحدث صدمة نفسية لم تتعافَ الولايات المتحدة منها.

في حين عانت الولايات المتحدة من الارتباك الاستراتيجي والتكتيكي في خوض المعركة في فيتنام منذ بدايات دخولها الوحل الفيتنامي، وبالرغم من تفاوت القوى الهائل ما بين الفيتناميين والأمريكيين، إلا أن الاستراتيجية المتبعة من قبل الفيتناميين كانت ببساطتها فتاكة؛ استندت الاستراتيجية الفيتنامية إلى تحييد مكامن القوى الأمريكية بما في ذلك القوة الجوية من خلال بناء شبكة معقدة من الأنفاق، والمخابئ، واستخدام المتفجرات محلية الصنع، واستثمار كبير في صيانة وتطوير درب هوشي منه.

باختصار، نجحت جبهة التحرير الفيتنامية في تحويل الجغرافيا والطوبوغرافيا إلى أدوات قوية في حربها مع الولايات المتحدة وجنوب فيتنام. علاوة على ذلك، خاض الفيتناميون حرباً نفسية موجهة ومؤثرة استهدفت الروح المعنوية لدى الأمريكي ورغبة الأخير في مواصلة حرب مكلفة. وعملت أيضاً على ترسيخ وتقوية جبهتها الداخلية من خلال إجلاء السكان المدنيين من المراكز الحضرية الكبرى من بين أدوات هامة أخرى. ولذلك ليس من المستغرب أن نعرف أن ثمانية وثمانين بالمئة من جميع الاشتباكات ما بين جيش التحرير الوطني والقوات الأمريكية بدأت بمبادرة من قبل جيش التحرير الوطني.[14]

مع كل جندي أمريكي عائد في نعش، تقلصت الرغبة الأمريكية في مواصلة الحرب في فيتنام. وكانت المعارضة المحلية الأميركية آخذة في الارتفاع، وكانت الأصوات المتصاعدة من المتظاهرين في أمريكا وترابط تلك التظاهرات مع الحركات الاجتماعية والحقوقية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي أمراً محورياً أيضاً في سقوط المشروع الأمريكي في فيتنام.

فاز الضعفاء في هذه الحرب لأسباب متعددة، بعضها تاريخي، وبعضها متعلق بطبيعة القادة المعنيين، وبعضها متجسد في التكتيكات والاستراتيجيات المتبعة من قبل الطرفين، ولكن في نهاية المطاف ما ثبت حاسماً هو القدرة المهولة على التحمل عند شعب فيتنام من ناحية الخسائر البشرية الهائلة، والمراهنة على عدم قدرة الجيش الأمريكي على تحمل نفس العبء.[15]

ماذا تبقى لنا من حرب فيتنام؟

بعد واحد وأربعين عاماً على حرب فيتنام، وقف الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما بجانب تمثال للقائد الثوري هو تشي منه وأعلن فتح ترسانة الولايات المتحدة الأمريكية من الأسلحة لحليفها الجديد والصاعد في الهند الصينية. أن يقف رئيس أمريكا بجانب هو تشي منه يدل على أن أعداء الماضي أضحوا أصدقاء اليوم، وأن المعادلة الجيوستراتيجية في بحر الصين الجنوبي فرضت نفسها على فرقاء الأمس، المتوافقين على احتواء نفوذ الصين المتصاعد. بل يشكل رفع الحظر عن توريد الأسلحة الأمريكية نقلة نوعية في العلاقات الفيتنامية-الأمريكية يضعها في مسار جديد مختلف ومنقطع عن الملحمة العسكرية التي وضعت البلدين أمام مواجهة عسكرية وسياسية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي.

يفرض هذا الانقطاع عن الماضي سؤالاً مهماً، ماذا يبقى لنا من حرب فيتنام وتجربتها الثورية؟ كيف لنا أن نموضع انتهاء حالة العداء السياسي ما بين الولايات المتحدة وفيتنام والتقائهما في محاولة احتواء القوة الصينية أمام التطلعات الثورية الأممية التي رافقت حركات التحرر في العالم الثالث؟ لربما ما تبقى هو حرب الإرادة، الملحمة السياسية والعسكرية التي جسدها شعب فيتنام أمام أكبر ترسانة عسكرية في تاريخ الأمم، مضحياً بأكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي في سبيل الحفاظ على فيتنام موحدة ذات سيادة على كامل ترابها.

لربما ما تبقى من حرب فيتنام هو الدرس القاسي في التعامل مع العملاء، وفي عدم التراخي مع القريب (بني الجلدة)، قبل الغريب. ولربما الأهم من ذلك كله أن فيتنام شكلت نموذجاً في العمل السياسي والعسكري المترابط والمتسق مع الطبيعة الثقافية للمجتمع الفيتنامي، والتي ما زالت تشكل اليوم رؤية واقعية وإمكانية الانتصار في الحروب اللامتكافئة في مواجهة أعتى القوى السياسية العالمية والامبريالية. بمعنى آخر، تبقى هي النموذج.

 

****

الهوامش:
[1] Robert S. McNamara, In Retrospect: The Tragedy and Lessons of Vietnam (New York: Times Books, 1995), p 190
[2]أدت الحرب إلى مقتل أكثر من ٥٨ ألف جندي امريكي، بينما سقط في الحرب من ٣ الى ٤ مليون فيتنامي. انظر:Herring, George (2013). America's Longest War: The United States and Vietnam, 1950-1975 (Page xiii). McGraw-Hill Education.
[3] نظرية الطعن في ظهر تضع مسؤولية خسارة فيتنام للمعارضة الداخلية الأمريكية خاصة خصوصا من قبل النشطاء المناهضين للحرب ولصانعي القرار الأمريكي المتأثرين لهذه الضغوط المحلية.
[4]McMahon, Robert J. (2002) ‘Contested Memory: The Vietnam War and American Society, 1975–2001’, Diplomatic History, Vol. 26, No. 2, pp. 159–84.
[5] Leffler, Melvyn, and Westad, Odd Arne, eds. (2010) The Cambridge History of the Cold War, Volume 2: Crisis and Détente (Cambridge: Cambridge University Press) p. 282.
[6] المكارثية: سلوك سياسي ينسب لسيناتور الأمريكي جوزيف مكارثي والذي يشير إلى القيام بتخوين الأفراد والمؤسسات دون امتلاك أدلة واضحة على الخيانة المزعومة.
[7] Herring, George (2013). America’s Longest War: The United States and Vietnam, 1950-1975 (Page xiii). McGraw-Hill Education. p. 21.
[8] Gilbert, Marc. (ed.) (2002). Why the North Won the Vietnam War. Palgrave, p. 77.
[9] Summers, Harry G. (1982), On Strategy: A Critical Analysis of the Vietnam War (Novato, CA: Presidio Press).
[10] Herring, George (2013). America's Longest War: The United States and Vietnam, 1950-1975 (Page 177). McGraw-Hill Education
[11] Duiker, Birgham and Herring in Gilbert, Marc. (ed.) (2002). “Why the North Won the Vietnam War”. Palgrave.
[12] غير أن التقديرات الأمريكية الرسمية اعترفت بأن التسلل زاد من نحو 35 ألف جندي في عام 1965 إلى ما يصل إلى 90 ألف جندي في عام 1967، بالرغم من تزايد القصف الأمريكي التدريجي.
[13] Gartner, Scott. (Autumn, 1998). Differing Evaluations o Vietnamization. The Journal for Interdisciplinary History, Vol. 29, No.2, pp.243-262.
[14]  Krepinevich Jr., Andrew (1988). “The Army and Vietnam”.  The Johns Hopkins University Press. p. 188
[15] Culbert, David (Jul-1998). “Televisions Visual Impact on Decision-Making in the USA, 1968. The Tet offensive and the Chicago’s Democratic National Convention.” Journal of` Contemporay History, Vol 33, No.3, pp. 419-449.

الأحد، يوليو 11، 2021

احمد جبريل رجل كلّ الادوار السورية


لم يكن احمد جبريل، الأمين العام لـ"الجبهة الشعبيّة – القيادة العامّة" التي اسّسها في العام 1968 بعد انشقاق عن "الجبهة الشعبيّة" سوى استثناء فلسطيني. كان استثناء في كلّ شيء، بما في ذلك درجة العمالة للنظام السوري وصولا الى مشاركته بعد الثورة السورية في 2011 في معاقبة أهالي مخيّم اليرموك في دمشق عن طريق تهجيرهم والصاق تهمة "الداعشيّة" بهم.

حوّل احمد جبريل، الذي توفّى في دمشق أخيرا عن 93 عاما، فصيلا كاملا الى تنظيم عسكري في خدمة الأجهزة الامنيّة السورية. ما لبثت هذه الاجهزة ان طوّرت العلاقة بهذا التنظيم الفلسطيني مع استيلاء حافظ الأسد على السلطة ابتداء من 16 تشرين الثاني – نوفمبر 1970.

حولت الأجهزة السوريّة "القيادة العامة" امتدادا لها كي تقوم بما لا تريد هي القيام به والإعلان عنه. بكلام أوضح، كانت تلصق بـ"القيادة العامة" وجبريل شخصيا اعمالا وممارسات كانت تفضل الظهور في مظهر البعيد عنها. على سبيل المثال، وليس الحصر، لعب احمد جبريل نفسه، وهو خبير في المتفجرات، دورا في تفجير فنادق بيروت التي كانت منتشرة في منطقة الزيتونة البحرية. اشرف بنفسه في العام 1976، وقد شاهدته بعيني، على تفجير جدران كلّ فندق في الزيتونة من اجل الوصول، عبر فجوات كبيرة، الى مبنى لفندق آخر مرشّح للتدمير. رأيت في ذلك مدى حقد النظام السوري الذي اسّسه حافظ الأسد على بيروت. لم يكن احمد جبريل سوى تجسيد لهذا الحقد الذي استهدف المجتمع اللبناني ككلّ وكلّ ما هو مزدهر في لبنان.  

استطاع حافظ الأسد إدارة الأجهزة الامنيّة السورية المختلفة عن طريق جعل كلّ منها رقيبا على الآخر. كانت "القيادة العامة" جزءا لا يتجزّأ من المنظومة الامنيّة السوريّة في تحقيق طموحات الرئيس السوري الذي اتقن لعبة اللاحرب واللاسلم وذهب بها الى النهاية من اجل المحافظة على هيمنة الطائفة العلويّة على سوريا لا اكثر. بالنسبة الى حافظ الأسد، كان مطلوبا من السنّي ان "يخون" في حال وجد نفسه مضطرّا الى الذهاب الى سلام مع إسرائيل يوما. لذلك، لم يلتق، اقلّه في العلن، أي مسؤول علوي سوري مسؤولا إسرائيليا. التقى حكمت الشهابي، رئيس الأركان السوري امنون شاحاك رئيس الأركان الإسرائيلي، كما التقى قبل ذلك ايهود باراك. كذلك، التقى فاروق الشرع ووليد المعلّم ايهود باراك بعد ان صار رئيسا للوزراء الإسرائيلي...

حقّق احمد جبريل اختراقا في مصلحة النظام السوري لكلّ المنظومة الفلسطينية التي ادارها ياسر عرفات في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته، خصوصا في لبنان. كان هناك كره، ليس بعد كره، لدى النظام لـ"أبو عمار" الذي كانت تتنازعه رغبة البقاء في لبنان من جهة والمحافظة على القرار الفلسطيني المستقلّ من جهة أخرى. لم تدم اللعبة المستحيلة التي مارسها الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني طويلا. لم يحصل على القرار الفلسطيني المستقلّ الّا بعد مغادرته لبنان مضطرّا...

لا يمكن بايّ شكل الاستهانة بالدور الذي لعبه احمد جبريل منذ ما يزيد على نصف قرن، لا في مجال المزايدة على ياسر عرفات ولا في استخدامه في الحرب الدمويّة بين البعثين السوري والعراقي. كان اكثر فائدة بكثير من تنظيم "الصاعقة" الفلسطيني الذي لم يكن زهير محسن يخفي أنّه تابع مباشر للنظام السوري والذي كان في الوقت ذاته ممثله في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ولكن يبقى احمد جبريل حالة خاصة نظرا الى انّ تنظيمه استخدم أيضا من جانب ايران. ربطه حافظ الأسد طوال سنوات بمعمّر القذّافي الباحث دائما عن دور فلسطيني في غياب قدرته على تدجين ياسر عرفات... كما ربطه بايران.

ادّى احمد جبريل كلّ الأدوار المطلوبة منه لمصلحة النظام السوري الذي وفّر له التمويل من القذّافي في مرحلة معيّنة. وصل به الامر الى ان عرف كيف الاستفادة من النظام العراقي الذي كانت لديه عقدة "جبهة الرفض" في مرحلة واجه فيها النظام البعثي في بغداد ياسر عرفات معتمدا على منشقّ عن "فتح" اسمه "أبو نضال" تولّى تصفية عدد لا بأس به من الديبلوماسيين الفلسطينيين البارزين.

ارتبط اسم جبريل في مرحلة معيّنة بتفجير طائرة الركاب الأميركية التابعة لشركة "بانام" فوق لوكربي في كانون الاوّل – ديسمبر 1988. كان الاعتقاد السائد في أوساط مختلفة في الغرب ان "القيادة العامّة" المختصّة بالتفجيرات نفذت عملية لوكربي لمصلحة ايران التي ارادت الانتقام من اسقاط البحريّة الاميركية طائرة ركاب تابعة لمها من طراز ايرباص في مياه الخليج...

في النهاية، قررت الإدارة الأميركية تحميل ما كان يسمّى "الجماهيريّة الليبيّة" ومعمّر القذافي مسؤولية كارثة لوكربي، مستبعدة "الجمهوريّة الاسلاميّة" والنظام السوري و"القيادة العامة"، علما انّه سبق الجريمة اعتقال السلطات الالمانيّة خليّة تابعة لاحمد جبريل في فرانكفورت. كانت لدى هذه الخليّة التي على رأسها، استنادا الى السلطات الالمانيّة شخص اسمه حافظ دلقموني، أجهزة راديو من الحجم المتوسّط في داخلها مواد لا تنفجر الّا لدى وصول الطائرة الى ارتفاع معيّن.

طوال ما يزيد على نصف قرن، كان احمد جبريل رجل كلّ الأدوار التي صبّت في مصلحة النظام السوري. في جردة لما ادّاه، لا يوجد ما يشير الى ان "القيادة العامّة" أدت أي خدمة من ايّ نوع لفلسطين باستثناء تلك العمليات الانتحاريّة التي نفذتها انطلاق من جنوب لبنان. لم يكن لهذه العمليات، بما في ذلك عمليّة بواسطة طائرة شراعية، من جدوى سياسيّة من أيّ نوع. لم تكن تستهدف سوى المزايدة على "فتح" وتكريس لبنان "ساحة" لفصائل تعمل لمصلحة اطراف خارجيّة لا يهمّها مصلحته او مصلحة مواطنيه.

من لديه ادنى شكّ في ذلك، يستطيع ان يسأل نفسه، لماذا الوجود العسكري لـ"القيادة العامة" في مناطق لبنانيّة معيّنة مثل الناعمة او قوسايا. كيف يمكن لمثل هذا الوجود الذي كان يحميه السوريون وتحميه الآن ايران ان يساهم في تحرير فلسطين؟ لا وظيفة لمثل هذا الوجود غير الإساءة الى لبنان وطنا وشعبا خدمة لنظام سوري لم يدرك يوما انّ تخريب لبنان سيرتدّ عليه يوما. وهذا ما حدث بالفعل...

منذ ما قبل 1970 والى اليوم لم يفعل احمد جبريل سوى ذلك. اختص بالاساءة الى لبنان ولم يخدم فلسطين!

خيرالله خيرالله

الأربعاء، أبريل 14، 2021

بوسطة عين الرمانة وسوابقها.. بين الفلسطينيين والمسيحيين


 
  تعارف اللبنانيون على أن حروبهم الأهلية بدأت بما سموه حادثة أو مجزرة بوسطة عين الرمانة في ظهيرة الأحد 13 نيسان 1975. والمعروف أن مسلحين من حزب الكتائب اللبنانية في حي عين الرمانة المسيحي، هاجموا في تلك الظهيرة حافلة ركاب متوجهة إلى مخيم تل الزعتر الفلسطيني، فقتلوا 27 من ركابها الفلسطينيين... وانفجرت الحرب الأهلية.

لكن تلك  الحادثة - المجزرة، سبقتها، أقله منذ العام 1969، حوادث مماثلة، ومجابهات كثيرة بين المنظمات الفلسطينية المسلحة، التي أيدها وولاها الشارع الإسلامي، وبين الجيش اللبناني الذي أيده ووالاه الشارع المسيحي. وهكذا راح يتفاقم انقسام اللبنانيين وشقاقهم الطائفي والأهلي ويتسعان، وخصوصاً في بيروت ضواحيها المختلطة طائفياً. وقد لابس ذلك الشقاق احتقان وأحقاد وثارات راحت تتناسل في مناطق لبنانية كثيرة.

محمد أبي سمرا

عملاء وخطف ورصاص
أثناء اشتباكات أيار 1973 بين الجيش اللبناني ومسلحي المنظمات والميليشيات الفلسطينية في بيروت، حصلت موجة نزوح مسيحية مشهودة من حارة حريك. وخصوصًا بعد حادثة خطف ثلاثة شبان من أبناء عمتي التي كان منزلها وبستانها الكبير على تخوم مخيم برج البراجنة. فقد دهم فدائيون مسلحون بيت عمتي الذي كان أبو أسعد الفلسطيني المقيم في المخيم، يعمل في مزرعته بقّاراً (يعتني بالأبقار)، وجاء مع المداهمين، ربما ليدلهم إلى البيت. والأرجح أنه هو من صوّر لهم أن أبناء عمتي يملكون أجهزة اتصالات يتجسسون بها على اتصالات الفدائيين. ومصدر تصوره الساذج هذا - ولربما لابسه شيء من حقد "طبقي" على المسيحيين، أيقظته قوة الفدائيين الفلسطينيين الصاعدة - أن أحد الإخوة الثلاثة كان موظفًا فنيًّا في شركة أركسون لأجهزة الاتصالات الهاتفية وغير الهاتفية. وكان وأخويه يهوون تفكيك تلك الأجهزة وتركيبها واختبارها في بيتهم، الذي دهمه الفدائيون لخطفهم إلى المخيم، بتهمة اتصالهم بإسرائيل، بواسطة أجهزة لاسلكية متطورة لديهم في منزلهم. ولأن أحدهم كان يعاني من وهن في قلبه، أدت رجاءاتُ أمه وتوسلاتها الملتهبة فزعًا، إلى حمل المسلحين على تركه في حضنها، مكتفين باعتقال أو خطف أخويه.

لا أذكر مدة اختطاف الأخوين وغيابهما. لكنني متأكد من أن عمتي وزوجها وابنها المعتل القلب، هجروا منزلهم ومزرعتهم على تخوم المخيم الفلسطيني، ولجأوا إلى بيتنا، وأقاموا عندنا صامتين صمتًا مأتميًا شاركناهم فيه، حتى عودتهم إلى بيتهم بعد إطلاق سراح الأخوين. لكني لا أنسى ما حييت منظرهما حين عودتهما من الاحتجاز في المخيم: ثيابهما ممزقة، دم ينزف من وجهيهما، ورضوض وكدمات ظاهرة في مواضع من جسميهما. وهكذا تحققت في ابني عمتي نبوءة جارتها أم حسن الفلسطينية. فعمتي وأولادها أخبرونا أن أم حسن كانت أثناء زياراتها بيتهم، وتناولها القهوة معهم، تررد على مسامعهم ساخرة مازحة: "والله حتذوقوا زي ما ذقنا يا لبنانيي". وفي زياراتها تلك، كانت أم حسن تصطحب معها ابنتها الشابة أحيانًا. وحينما كان أبناء عمتي يسمعون أزيز رشقات نارية في الجوار، فيشتكون خائفين، متذمرين ومتسائلين عن أسباب إطلاق النار، كانت ابنة أم حسن تجيبهم قائلة: ما في رصاص، وين الرصاص؟! مش عم أسمع رصاص. آذانكم وتوهمكم أنكم تسمعون أصوات رصاص.

وبعد حادثة خطف ابني عمتي، استأجر والدي منزلاً صيفياً في عشقوت في كسروان، لا لنصطاف فيه فحسب، بل لنلجأ إليه كلما تجددت الحوادث المفاجئة والخوف من الفدائيين في حارة حريك. قبل ذلك كنا نهرب إلى بيت جدي لأمي في بزبدين بالمتن الأعلى. لكن والدي أخذ يتجنب أن نلجأ إلى بزبدين كلما دهمنا الخوف في بلدتنا الساحلية. فهو رأى مرة أخوالي المنتسبين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي ينقلون السلاح والذخائر في سيارتهم إلى بيت جدي ويخزنونه فيه. وما زال مشهد السيارة تلك، المزينة بالزوبعة وبشعارات الكفاح المسلح، حاضرًا في ذاكرتي، لمّا أبصرتهم يخرجون منها السلاح.

خوف وتعريب
ثم اختفى اسم مدرستنا سيدة الملائكة عن الأتوكار الذي كان ينقلنا إليها في بدارو، ويعيدنا منها إلى بيتنا في حارة حريك، مروراً في الشياح والغبيري. وكان الأتوكار يمرُّ في أحد أحياء الغبيري الشعبية الداخلية المكتظة، ليوصل تلامذة من السريان السوريين من آل معمرباشي. وأثناء مروره في ذاك الحي، أخذت زمرة من فتيان الشوارع ترشق أتوكارنا بالحصى. ثم طورت هذه الزمرة تقنيات شقاوتها الحاقدة على ما يمثله اسم المدرسة المدوّن باللغة الفرنسية على الأتوكار: راح بعض الفتيان يستخدمون "نقيفات" كاوتشوكية في رمايته بالحصى. ومرة أصابت حصاةٌ وجهي، فوصلت إلى بيتنا منتفخ العين. وبعد مدة قصيرة على تكرار مثل هذه الحوادث، أزالت إدارة المدرسة اسمها عن الأتوكار، ودوّنت في مكانه بالعربية: باص مدرسة. كأنما ما حدث لأتوكار مدرستنا كان خطوة أولى على الطريق الطويلة التي أدت أخيراً إلى تعريب لبنان.

وفي ذلك الوقت تضاعف تغيّر مظاهر الحياة اليومية وملامح العمران في حارة حريك: حلّ في حيّنا ساكنون جددًا، منهم عائلة جنوبية نزلت في الطبقة التي تعلو بيتنا في البناية. كانت تلك العائلة تضم عدداً كبيراً من أولاد جعلوا هدأة العيش في البناية من الذكريات. ومرة هوى صحن من شرفة بيت العائلة الجنوبية، فكاد أن يصيب أمي على شرفة بيتنا، قبل تحطمه على بلاطها وتطايره شظايا أمامها. وحين نزلت جارتنا للاعتذار من أمي، رأيت للمرة الأولى امرأة محجبة على نحو لم أره من قبل في نسوة حارة حريك، اللواتي لم يكن مظهر معظم المسلمات الخارجي منهن يختلف عن مظهر المسيحيات. فالمسلمات السافرات كنَّ كثيرات. أما اللواتي تضعن إشاربات على رؤسهن، فلم تكن هذه لتحجب شعرهن كله. وفي مناسبات العزاء المشتركة بين السكان "الأصليين"، غالبًا ما كان التمييز معدومًا بين مظهر المسلمات والمسيحيات اللواتي كان بعضهن يضع على رؤوسهن إشاربات في أوقات ذهابهن إلى الكنيسة.

ولا أدري اليوم لماذا يرتبط في ذاكرتي تغير حال جارنا جودت البسطاوي - زوج المرأة التي كانت تبدو في هيئة "أرتيست" تائبة أو متقاعدة - بتغير ملامح الحياة المحلية في الحارة، وتفشي الصخب والخوف فيها. فالنساء في حيّنا صرن يجفلن ويتراجعن عن شرفات بيوتهن، كلما أبصرن جودت على شرفة بيته، إذ أخذن يشاهدنه يخرج إلى الشرفة عارياً ويقوم بحركات نابية.

حرب على أعياد المسيحيين
اشتبكوا، نغّصوا العيد: هذه هي العبارة التي رحت أسمع أهالي حارة حريك المسيحيين يرددونها ويتبادلونها في النصف الأول من السبعينات، في أعياد الميلاد والجمعة العظيمة وعيد الفصح، وسواها من المناسبات، كالكرمس السنوي الذي كان يُنظّم في باحة الكنيسة أو في ملعب مدرسة راهبات حارة حريك. لا أدري لماذا راحت الحوادث والاشتباكات والاستنفارات المسلحة، تتكاثر في الأعياد المسيحية. حتى أن الأهالي أخذوا يعتبرون توقيتها مقصود، لتسميم حياتهم وترويعهم وحملهم على النزوح من بيوتهم وبلدتهم. وفي واحدة من حوادث إطلاق النار، أصيب شاب برصاصة في عموده الفقري، فانشلّت قدماه، ثم لم يلبث أن توفى بعد أشهر أمضاها مقعداً.

من نافذة صالون بيتنا رأيت مرة، شابًا دونجوانيًا يقود سيارته "الشلانجر السبور" منطلقًا "يشّفط" مختالًا بها في الشارع. وفجأة سمعتُ صوت رشقات نارية من جهة المخيم، وأبصرت الدونجواني يوقف سيارته ويخرج منها غاضبًا، ويغلق بابها بقوة، متلفتًا ومحدقًا في اتجاه المخيم. ثم سمعته يرفع صوته ويقول حانقًا: عالقة؟! عالقة ما هيك؟! عالقة؟! فعلمت أن مروره صادف أثناء استنفار المسلحين الفلسطينيين واشتباكهم في مخيم البرج وعلى تخومه القريبة من الحارة. نعم عالقة، أكيد عالقة، قال رجل كان يجلس على كرسي على الرصيف، مجيبًا الشاب، الذي التفت إلى الرجل، ثم أدار رأسه مجدداً ورفع يده مشيرًا نحو المخيم، وقال: عالقة، خلّيها عالقة، وك.... أختا ما تروق. وفي غضب دونجواني صعد الشاب إلى سيارته، وانطلق بها مسرعاً عائداً إلى حيث أتى.

مسخرة السلاح المأسوية
مشهد حارة حريك الصامت والحزين، ذاك الذي كنت أبصره بين العصر والمغرب من نافذة مطبخ بيتنا، راسخ رسوخًا أبديًا في ذاكرتي، كأنه المشهد الأخير لتلك البلدة ولطفولتي وصباي فيها. وهو مشهدٌ - حالةٌ متكررة راحت تنتابني، تشجيني وتقلقني، بعد عودتي من مدرستي في شارع بدارو إلى بيتنا في عصاري النهارات. لا أدي كم من الوقت والأيام ظل ذاك المشهد يتكرر: شحوب شفيف يفلِّف العالم، فيما يزوغ بصري، عبر نافذة مطبخنا، عائمًا على بيوت وبنايات تتخللها قطع من حقول وبساتين تتراءى ممتدةً متباعدة حتى حدود مطار بيروت الدولي. لكن الأكيد أن ذاك المشهد - الحالة انطبعا في حواسي وكياني سنوات قبل حادثة أو مجزة 13 نيسان 1975 بفلسطينيي بوسطة عين الرمانة الشهيرة، وظلا يتكرران طوال أيام حرب السنتين (1975 - 1976).

ومن الحوادث التي تزامن ذاك المشهد - الحالة، أتذكر سعيَ شبان مسيحيين من حارة حريك للحصول على بطاقات تفيد أنهم ينتسبون إلى منظمات فلسطينية مسلحة، ليتداركوا بها قلقهم وخوفهم أثناء تنقلاتهم اليومية بين بلدتهم وسائر أنحاء وجهات بيروت وضواحيها. وهي بطاقات يحملونها ويبرزونها لتؤمن لهم الحماية من الخطف في أوقات نصبِ حواجزَ مسلحةٍ فجأةً على الطرق، لخطف العابرين المتبادل على الهوية الطائفية. وكذلك من الحواجز الثابتة التي نصبتها بين الأحياء والمناطق المنظماتُ المسلحة الفلسطينية، وسواها اللبنانية اليسارية والعروبية الحليفة. وسختْ تلك المنظمات في توزيع بطاقاتها العسكرية التي تحمل أحيانًا رتبا عالية.

قبل ذلك كان أشخاص يقيمون ويعيشون على هوامش مجتمع حارة حريك المحلي، قد أخذوا يماشون تمدّد النفوذ الفلسطيني وسلاحه في بلدتنا، فيما كانت وتائر تحولها العمراني والسكاني تتسارع لتصير دائرة بلدية من ضواحي بيروت الجنوبية. ومن أولئك الأشخاص فلسطينيٌ مسيحي يدعى تادرس سطاس، متزوج من امرأة مسيحية من أهل الحارة "الأصليين"، ويسكن الزوجان قريبًا من البناية التي فيها بيتنا. وكان تادرس متواضع الحال، ويعمل دهانًا مثل سواه من فلسطينيي مخيم برج البراجنة المسلمين الذين كان بعضهم عمالًا زراعيين ووراقين وعمال ورش بناء. وبعض الجيران في حيّنا كانوا يشفقون على تادروس، فيما يعامله آخرون معاملة دونية مذِلَّةً، أسوة بسواه من العمال الفلسطينيين المسلمين. وبعد حيازة تادروس على قطعة سلاح من منظمة فلسطينية وبطاقة انتساب إليها، بدا كما لو أنه يسلك سلوكا ثأرياً من مذلّة وضعه السابق، فأخذ أحيانًا يحمل بندقيته الحربية ويتمشى بها في شوارع المحلة.

وأذكر من الساعين في الحصول على بطاقات منظمات عسكرية فلسطينية، شابًا من آل الشويفاتي، هاجر لاحقا إلى أستراليا. وكان على الحاصلين على تلك البطاقات أن يختاروا أسماء "حركية" تُدوّن على بطاقاتهم، ويُفترض أنها تخفي أسماءهم الأصلية المسيحية. لكن الشاب الشويفاتي جعل اسمه الطفولي الذي يدلّعُه به أهلُه وجيرانه (زوزو)، اسمًا "حركيًا" له، وهو تصغير لاسمه الأصلي (جوزف). والأغرب والأشد كاريكاتورية من اسم الشويفاتي الحركي، حصوله على بطاقة عسكرية برتبة عقيد في جيش التحرير الفلسطيني. ولمّا علم الدركي المسلم الذي يسكن فوق بيتنا في البناية برتبة زوزو العسكرية هذه، أخذ يسخر منه ويناديه: العقيد زوزو. ثم يسأله: كيفك سيادة العقيد زوزو اليوم، كيف أحوالك، أيمتى بدك تحرر القدس؟ وبدوره أخذ العقيد المزعوم يغيظ الدركي ممازحاً، فيجيبه: هلق واحد متلك دركي بشريطة واحدة (عريف)، صار لازم يضربلي سلام ويأديلي التحية العسكرية، يالله تأهب لشوف. لكن الدركي سرعان ما يجيب زوزو قائلًا: روح من وجهي وليه، واحد لاجىء فلسطيني، غور عن وجهي. وغالبًا ما كان هذا الحوار الهزلي يطلق قهقهات سامعيه من الجيران.

ومن حوادث تلك الأيام استدعاء والدي مرة مصلِّح أعطال أجهزة التلفزيون، الذي كان يعرفه ويستدعيه كلما طرأ عطل على تلفزيوننا في البيت. وكان المصلح شابًا شيعيًا من أبناء برج البراجنة. وحين حضر في تلك المرة الأخيرة إلى بيتنا، كان يحمل عدّة التصليح في جعبة عسكرية تحوي - إضافة إلى العدّة - طلقات أسلحة حربية وقنابل يدوية. فأثار ذلك استغراب والدي وخوفه، فقال له الشاب إنه يحمل بطاقة خاصة من أبو عمار (ياسر عرفات) الذي يصلّح له أجهزة الاتصال اللاسلكية في مكتبه. ولم يلبث الشاب أن أخرج علبة معدنية صغيرة من جعبته، وقال لوالدي: وهذه هدية خاصة من أبو عمار. ثم فتح الشاب العلبة وعرض علينا محتوياتها قائلًا: شوفو شوفو، هي مسدسات كاتمة للصوت. لم يصدّقه والدي، لكنه ظل مضطربًا خائفًا، فيما هو ينظر إلى تلك الأشياء المعدنية الصغيرة التي في أحجام وأشكال مستحضرات الزينة التي تضغها النساء في حقائبهن اليدوية في أوقات خروجهن من المنازل.

فجر التحرير والعودة
وأتذكر مشهد مظاهرة مسلحة لملثمين تسير وسط شارع حارة حريك الرئيسي في نهار عيد رأس سنة 1975. خلف المسلحين الملثمين مجموعات من شبان وأولاد، متجهين نحو ساحة البلدة. في مقدمة التظاهرة لافتة مدونة عليها عبارة: عام 1975 فجر جديد، عام التحرير والعودة.
وفي نهار الأحد 13 نيسان 1975، عادت أمي من سفرة سياحية، فاصطحبنا والدي في سيارته للغداء في مطعم في الجبل. عندما عدنا مساء من طريق غاليري سمعان متجهين نحو كنيسة مار مخايل في الشياح، رأينا رجال قوى الأمن الداخلي منتشرين بكثافة في الطرق والشوارع. وبدا الناس على حال من الترقب والقلق والحذر في حينا. فأخبر الجيران أمي وأبي بما حدث في عين الرمانة. وبينما جلست وأختي نشاهد التلفزيون في بيتنا، ذهب والدايّ إلى منزل أحد الجيران. وفي لحظة احتباس أنفاسنا حيال مشهد مرعب من المسلسل التلفزيوني، دوى انفجار هائل أرعد فرائصنا، واندفع جسمانا، أختي وأنا، من تلقائهما عن المقعد الذي كنا جالسين عليه في الصالون قبالة التلفزيون.

وكان ذلك الانفجار فاتحة زخات متقطعة من الرصاص، لم تلبث أن أخذت تعنف وتتواصل وتتخللها سلسلة من الانفجارات المتتالية في ساحة حارة حريك وعلى طول الشارع الرئيسي فيها. ومثل غيرنا من الأهالي خرجنا إلى شرفة بيتنا، فرأينا النيران تشتعل في المبنى القديم الذي فيه مركز حزب الكتائب وفي استديو التصوير تحته. وظلت الانفجارات وزخات الرصاص تتوالى حتى ساعة متأخرة من الليل، فيما الأهالي ينزرعون خلف نوافذ بيوتهم تنتابهم موجات من القلق والذعر حيال ما يحدث من حولهم ويشاهدونه: تفجير الصيدلية القريبة من الكنيسة، نهب المحال التجارية وحرقها، سرقة الأتوكارات من ملعب مدرسة الراهبات، إشعال النار في محطة المحروقات... ولمّا توقفت الانفجارات وزخات الرصاص، أنزلنا أبي وأمي من البيت إلى السيارة، وانطلق بها والدي إلى بيت جدي لأمي في بزبدين بالمتن الأعلى، فنمنا بقية ليلتنا هناك.
قبور للغرباء في ديار الخائفين
..وتزايدت موجات النزوح السكاني المسيحي من حارة حريك في حرب السنتين وتوسعت، بعدما رسمت جولاتها الأولى خطَ التماس الحربي وثبّتته المنظمات والميليشيات المسلحة في بيروت وضواحيها التي انقسمت شطرين طائفيين، غربية وشرقية. ونزح كثيرون من أهالي الحارة، فأقاموا في بلدة الحدث القريبة، وانخرط شبانهم في حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار. أما أسرتنا فعاشت جولات تلك الحرب وهدناتها متنقلة بين بيتنا في الحارة والبيت الذي استأجره والدي في بلدة عشقوت الكسروانية.

وفي حرب السنتين عرفتْ حارة حريك ظاهرة جديدة: استضافت مقبرتها قرب كنيستها دفن كثيرين من القتلى المسيحيين الغرباء، الذين لا يعرفهم بقايا سكانها وأهلها "الأصليين". كان أولئك القتلى مسيحيين غادروا بلداتهم وديارهم المسيحية في جبل لبنان، أو نزحوا منها خائفين، أو طاردتهم فيها وطردتهم منها الميليشيات المسيحية في بدايات الحرب وفي جولاتها المتلاحقة. فأقاموا وعاشوا مقاتلين متفرغين في أحزاب "الحركة الوطنية اللبنانية" و"قواتها المشتركة" إلى جانب ميليشيات المنظمات الفلسطينية، وسقطوا على جبهات القتال في بيروت الغربية وضواحيها وفي جبل لبنان، ولا أهل لهم في المناطق التي حاربوا وقتلوا فيها ليتعهدوا مراسم دفنهم.

وكان معظم القتلى الذين استضافتهم مقبرة حارة حريك من مسيحيي الحزبين الشيوعي والسوري القومي. وقتلوا كما دفنوا مهجّرين، لأن الميليشات المسيحية تسيطر على ديار أهلهم المسيحية. لذا راح مسيحيو حارة حريك -الخائفون و"الصامدون" في ديارهم التي تسيطر عليها أحزاب أولئك القتلى- يستقبلون مرة كل أسبوع أو أسبوعين قتيلًا مسيحيًا شيوعيًا أو سوريًا قوميًا مهجرًا من دياره ويستحيل دفنه فيها.

أما لغة حرب السنتين الأهلية وشعاراتها فكانت تقول إن أولئك المسيحيين المحازبين المهجرين، سقطوا في معركة "النضال الوطني"، "دفاعًا عن المقاومة الفلسطينية وعروبة لبنان وديموقراطيته ووحدته"، ضد من "يطعن المقاومين الفلسطينيين في الظهر"، و"لإحباط المؤامرة الانعزالية (المسيحية) الرجعية والصهيونية والإمبريالية لتقسيم لبنان".

ولم أدرِ آنذاك ولا أدري اليوم، ماذا كان يفكر أهالي حارة حريك المسيحيون ويشعرون، فيما هم يشيّعون أولئك القتلى إلى مثواهم الأخير في مقبرتهم القريبة من كنيستهم القديمة التي هجرتها مناسبات الفرح. وفتحت المقبرة والكنيسة أبوابهما لمآتم مستعجلة بائسة، موتاها شبانٌ مقاتلون "غرباء" لا يعرفهم أهل الحارة، بل يعرفون فقط أنهم مسيحيون قاتلوا وقتلوا في صفوف الميليشيات التي تخيفهم وتروعهم في بلدتهم المتأهبين للهجرة منها، والمتأهبة للأفول.

ولكن ليس من الصعب تخيّل مقدار القسوة والوحشة اللتين شعر بهما بقايا أهالي الحارة، فيما هم يشيّعون أولئك الغرباء إلى المقبرة. وكذلك القسوة والوحشة اللتين كابدهما أهل أولئك القتلى، فيما هم يتلقون أخبار مقتل أبنائهم الفارين من ديارهم، ودفنهم في مقبرة غريبة، بعد قتالهم وإطلاقهم نيران أسلحتهم على مناطق أهلهم، ديار الأعداء "الانعزاليين". وكان على أهلهم هناك في ديارهم، أن يكتموا أخبار مقتل أبنائهم حتى عن جيرانهم، وعدم إظهار حزنهم وحدادهم عليهم، لأن إظهارهما يعني أنهم يتعاطفون مع الأعداء. وقد يعرضهم هذا للطرد من ديارهم إلى ديار الأعداء.

ومثلما كانت مقبرة حارة حريك مثوى أخيراً لأولئك الغرباء، كانت أيضًا محطة للراغبين في الهجرة من سكان المناطق المسيحية إلى خارج لبنان. ومنهم أهل أولئك اليساريين المسيحيين، غرباء المقبرة والقبور، الذين يزور أهلهم قبورهم فيما هم يتهيأون للهجرة. فحينما كان مطار بيروت الدولي يُقفل في أوقات من حرب السنتين، كان الراغبون في الهجرة يأتون من مناطقهم المسيحية إلى الحارة، فيمكثون فيها بعض الوقت لانجاز معاملات هجرتهم، منتظرين أن يفتح المطار القريب ويُتاح منه السفر والهجرة إلى خارج لبنان. وما تزال أطياف وجوه كثيرة من أولئك العابرين في ديارنا حاضرة في ذاكرتي حتى اليوم.

نزوح أخير وانتحار
انتهت حرب السنتين بدخول القوات السورية إلى بيروت في خريف 1976، فأخذ ضباط سوريون أقاموا حواجزهم العسكرية ومراكزهم الأمنية في بلدتنا، يزورون بقايا سكانها المسيحيين في بيوتهم، لـ"طمأنتهم" وحضِّهم على "البقاء في ديارهم". أتذكر واحداً من أولئك الضباط جالسًا في صالون بيتنا، ويتحدث إلى والدي الذي كان صامتاً شارد الذهن تقريبًا. ومما قاله الضابط ذاك: نحن وإياكم قلب واحد. ورئيسكم المنتخب الياس سركيس سيوقع معاهدة دفاع مشترك مع الرئيس حافظ الاسد. وغداً سيشترك ابنك (أي أنا)، في دورات تدريبية معنا.

واشتد لون الحياة الرمادي في تلك السنوات بين أعوام 1976 و1980، على الرغم من بقاء بعض رفاقي في الحي وفي مدرسة سيدة الملائكة في بدارو، فيوصلنا والدي معًا إليها صباحًا في سيارته، ويعيدنا منها إلى الحي في عصاري النهارات. وكان لي في المدرسة رفاق يقيمون في شارع سامي الصلح ورأس النبع، فنتبادل الزيارات البيتية. وفي أعياد ميلادنا كان المحتفى به يقيم له أهله حفلة "بارتي" بيتية، يُدعى إليها تلامذة وتلميذات الصف. وكنت أشعر أن أهلنا يوهموننا ويوهمون أنفسهم بأن الحياة ليست رمادية، ولا زالت على سابق عهدها.

وفجأة وصل والدي مرة إلى مدرستي في بدارو، قبل موعد انصرافنا المعتاد منها، ومصطحباً في سيارته جارنا الدركي المسلم المقيم في البناية التي بها بيتنا. وكان قلقاً خائفاً، وقال إنه أتى لاصطحابي وأختي من المدرسة، خشية منه علينا من موجة خطف اجتاحت بعض المناطق القريبة من خطوط التماس التي اندلعت عليها اشتباكات مفاجئة. ومن بدارو إلى حارة حريك في السيارة، أخذ جارنا الدركي يدل والدي إلى الطرق الداخلية والفرعية التي عليه أن يسلكها، ليتلافى الرئيسية التي قد تكون أُقيمت عليها حواجز للخطف الطائفي. وقرب معمل لافروتا في الشياح، رأيت من نافذة السيارة واحداً من المشاهد التي لا أنساها: رجال وشبان معصوبو العيون، أيديهم خلف ظهورهم، مصطفون ووجوههم إلى جدار أمامهم، وخلفهم جمع من المسلحين الغاضبين الموتورين. لا أدري لماذا تخيلتني في مكان أحد أولئك الشبان المصطفين أمام الجدار، والموشكين في استسلام على مغادرة الحياة والعالم، عالمنا الذي لا تفصله عن صخب الحياة ودبيبها وفوضاها ورعبها فيه، أكثر من بضعة أمتار.

ولم نعد نطيق الحياة في حارة حريك. حتى جيراننا المسلمون أخذوا ينصحوننا صراحة بأن نغادر: إذا حصل شيء سينكِّلون بكم، أخذ بعضهم يقول لنا، لحملنا على المغادرة. ولأن والدي كان يحدس، ربما، ما يخبئه لنا القدر في حال مغادرتنا نهائيًا بيتنا وبلدتنا، كان يقول لناصحيه: ولو! نحن أخوة، ونحن في حمايتكم. ولمّا قال مرة جارنا الشيعي الأقرب لوالدي: العين بصيرة واليد قصيرة، يا جار، ونحن مثلكم لا نستطيع أن نفعل شيئاً؛ قرر والدي الرحيل للإقامة نهائياً في بيتنا الصيفي في عشقوت الكسروانية.

لكننا لم نغادر وحدنا، بل في موكب من عشرين سيارة من بقايا عائلات حارة حريك المسيحية. كان الجميع موقنين أن خروجنا هذا هو الأخير الذي لا عودة لنا بعده إلى حارة حريك.

شقيق الرجل البسطاوي الذي يسكن في الحارة قريباً من بيتنا، ويعمل محاسباً في مجلة "الحوادث"، كان في تنظيم "المرابطون" العسكري، ومن عناصر الحاجز المشترك مع المسلحين الفلسطينيين، في محلة الطيونة، حيث كان علينا أن نعبر خط التماس متجهين إلى المناطق المسيحية. أمر مسؤول الحاجز سائقي السيارات العشرين بالنزول من سياراتهم واللحاق به إلى مقره، فمشوا خلفه صامتين واجمين. بعض النساء والأولاد في السيارات، اجتاحتهم نوبة من البكاء، فجلب لهم شقيق الرجل البسطاوي أكواباً من الشاي.
وحين عاد والدي إلى سيارتنا مطأطئ الرأس صامتاً، رأينا دموعاً حبيسة في عينه، ثم بكى فيما هو يروي لنا ماذا جرى في المكتب. قال إن عناصر الحاجز أخذوا يؤنبون الرجال المزمعين على المغادرة، قائلين لهم: أنتم تتركون دياركم وبيوتكم بملء إرادتكم، وغدًا يُقال وتقولون إننا نحن من يهجر أهالي حارة حريك المسيحيين ونطردهم ونحتل بيوتهم. لذا لن نسمح لكم بالمغادرة، إلا إذا وقّع كل منكم مستنداً يفيد أنه غادر من تلقاء نفسه وبإرادته ورغبته الكاملتين، من غير ضغوط ولا إكراه. وقال والدي إنه وقع المستند، كمن يوقع قرار إعدامه، لكن بلا اكتراث.

ووصلنا إلى عشقوت حاملين بعض الثياب والكتب وكل ما لدينا من صور فوتوغرافية. وبعد مدة قصيرة علمنا أن منزلنا في حارة حريك احتلته عائلة شيعية من الجنوب.

ولم يشأ أبي وأمي أن نتابع تعلمنا، أختي وأنا، في مدرسة جديدة بعشقوت أو قريبة منها، حرصًا منهما على عدم أشعارنا بانخلاعنا النفسي من بيئتنا التربوية والاجتماعية. وظل والدي يستيقظ ويوقظنا في الخامسة فجرًا، ليوصلنا بسيارته إلى مدرستنا سيدة الملائكة في بدارو، ويذهب إلى عمله في شركة رسامني لبيع السيارات في الشياح، جنوب عين الرمانة.

لكن جو مدرستنا في بدارو سرعان ما بدأ يتغير: غاب عنها زملائي القدامى، وانتهى الاختلاط الطائفي السابق بين تلامذتها، فصاروا في غالبيتهم الساحقة مسيحيين، من فرن الشباك وعين الرمانة وبدارو، فلم يبق في صفي سوى تلميذ واحد من قدامى رفاقي المسلمين. كان منزل أهله في محلة الطيونة. لكنه سرعان ما تغيب عن المدرسة، وهاجر مع أهله إلى السعودية. وبعد سنة دراسية، عاد إلى مدرستنا، لكنه بدا شخصًا آخر غير الذي كانه من قبل. وربما غيرته إقامته في السعودية، فصار منطوياً على نفسه، وأطلق لحيته عن تديّن جديد غامض لا عهد لنا به نحن التلامذة. وقد يكون هذا ما حمل الخوري في مدرستنا على أن يقول له مرة إنه راغب في تعميده في الكنيسة. فجاوبه ذاك التلميذ قائلاً: شو بدك ياني احترق بالنار؟! وبعد مدة قصيرة انقطع عن الحضور إلى مدرستنا، وقيل إنه انتقل إلى مدرسة أخرى. وفي مطلع العام الدراسي التالي، سألت تلميذًا مسلمًا في المدرسة عن رفيقنا القديم وأحواله، فصمت ثم قال فجأة: انتحر.

 

الأربعاء، فبراير 03، 2021

خيانة الحزب الاقطاعي الجنبلاطي وطعنهم للمرابطون خدمة لمصالح جنبلاط الضيقة ١٩٨٤

إشتراكيين بعد التفجير الذي حدث لمبنى إذاعة صوت لبنان العربي (حسان العسراوي، حاتم أبو خير، جهاد الشحف، عصام العنترازي)

في تاريخ ١٥ أو ١٦ آذار ١٩٨٤ دخل إذاعة صوت لبنان العربي الناطقة بإسم حركة الناصريين المستقلين - المرابطون مسؤولين إعلاميين من الحزب التقدمي الإشتراكي بحجة التعرف على بعض وسائل البث في الإذاعة والإستيضاح عن بعض التقنيات من أجل الإستفادة منها في إذاعة صوت الجبل.
إشتراكي عند كورنيش المزرعة
 

بعد الإطمئنان والمزاح والسلام سأل شوقي ماجد (أبو ربيع) عن سبب زيارة المسؤولين الإشتراكيين فكان جواب الشباب من إذاعة صوت الجبل هو "عن معلومات تتعلق بكيفية إستلام الأخبار من الوكالات" غير مقنع لأبو ربيع الذي هزّ رأسه دون أي كلام. إذ أن الإعلاميين حقيقة كانا يستكشفان المبنى للتحضير للهجوم.
إشتراكيين عند نزلة برج أبي حيدر، ٢٤ آذار ١٩٨٤    
 
في ليل ٢٢/٢١ آذار ١٩٨٤، أي بعد أربعة أو خمسة أيام من هذه الزيارة شنت عناصر من الحزب التقدمي الإشتراكي هجوما على مقر المرابطون قرب مسجد عبد الناصر وإذاعة صوت لبنان العربي وتوسعت الإشتباكات لتشمل كورنيش المزرعة وأحياء الكولا وبرج أبي حيدر وبربور والبربير وطريق الجديدة وأدى هذا الهجوم لأضرار في مبنى صوت لبنان العربي ومسجد عبد الناصر واستشهاد 
إشتراكيين في بربور، ٢٨ آذار ١٩٨٤

 
المسؤول العسكري في قوات المرابطون شوقي ماجد (أبو ربيع)، ووجيه ناصر (أبو عاشور)، ومصطفى ميرزا (عصام السماك)، وتوفيق توتنجي (كمال حاج حسن)، ومصطفى عبيدي (إسماعيل ميسرة).

واستمرت الإشتباكات لغاية آخر شهر نيسان ١٩٨٤ وسقط فيها عدد من القتلى في الحزب التقدمي الإشتراكي هم سعد عبد الله حلاوي، ومحمد رحال، وحسين سبيتي، وخليل أبو مجاهد، وطارق الجوهري، 
 وحسني أحمد عمصي، وسامر خليل مرعي، ونبيل معروف زين الدين، وعلي شلهوب، ومعين مجيد عيد، ورفيق علي كرنيب، وهايل سامر الأشقر، وحاتم الزهيري الذي سقط هذا الأخير في هجوم شنته لاحقا عناصر حركة المرابطون في ٢٢ تموز ١٩٨٤.
عصام العنترازي (أبو سعيد) يتوسط عناصره ويبدو جمال كراره (أبو هيثم) في الخلف مرتديا أبيض ويحمل جهاز اللاسلكي ونبيل زين الدين مزودا ببندقية M16A1 قتل لاحقا في المعركة
 
 
قتلى الحزب الاشتراكي
 
 



سامر مرعي
خليل أبو مجاهد

عماد غلاب
نبيل زين الدين

حسين سبيتي

حسني أحمد عمصي

محمد رحال

طارق الجوهري
علي شلهوب


حاتم الزهيري

هايل سالم الأشقر

معين مجيد عيد

عباس ابراهيم فقيه

علي كرنيب
رمزي أبو الحسن


كمال القاضي

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية