الحديث الثانى
لست فى صدد الدفاع عن جمال عبد الناصر، فالرجل بما أعطته له جماهير هذه الأمة، وبمكانته - لازالت - من تقديرها، فى غنى عن دفاعى أو دفاع غيرى عنه، ولعلى لا أتجاوز إذا قلت إننى واحد من الذين لا يعطون لأحد شرف تبرئته قبل أن يعطوا لأحد حق اتهامه!
وبالتالى فإننى لست هنا بصدد تفنيد حكاية الخمسة عشر مليوناً من الدولارات التى تبرع بها الملك سعود أو أقرضها لمصر ولمجهودها الحربى سنة 1967 والتى قيل أن جمال عبد الناصر أخذها لنفسه ووضعها فى حساب له فى الخارج...
ومهما يكن فلقد تكفلت لجنة التحقيق الخاصة التى شكلت تحت ضغط شعبى غاضب فى مصر بإظهار وجه الحقيقة فيها، وأبرزت من وثائق الدولة الرسمية ومؤسساتها المصرفية ما أثبت بغير شك ولا لبس أن تبرع الملك سعود بخمسة ملايين دولار ظل موجوداً فى حساب التبرعات التى يشرف رئيس الجمهورية على توجيه صرفها، وأن الحساب كله انتقل من إشراف جمال عبد الناصر بوصفه رئيساً للجمهورية إلى إشراف أنور السادات حينما ولى المسؤولية بعده.
ثم إن الملايين العشرة من الدولارات التى قدمها الملك قرضاً لمصر فى ذلك الوقت، جرى توقيع الاتفاق بشأنها وجرى التصرف فيها بواسطة وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية ووزارة الخزانة والبنك المركزى المصرى، وإنها دخلت ميزانية الدولة وتحركت فى كل مراحلها من القبض إلى الصرف فى إطار مطالب الدولة وبواسطة أجهزتها الرسمية المتخصصة.
ومع ذلك فإن الموضوع مازال يغرينى بمناقشته، ولكن من زاوية أخرى... الزاوية "البوليسية" فى القصة - إذا جاز ذلك التعبير - تكفلت بها لجنة التحقيق الخاصة وجلت من تفاصيلها ما كانت حملة التشويه تحاول طمسه.
والزاوية التى تغرينى - كما قلت - هى الزاوية الاجتماعية.. أقصد سلوك عبد الناصر أو سلوك أى إنسان غيره على ضوء مجموعة القيم التى آمن بها، والتى طبعت نمط حياته، واتجاهات سياساته وتصرفاته اليومية.
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا: هل كانت الثروة أو كان الغنى بين مجموعة القيم الاجتماعية التى آمن بها جمال عبد الناصر؟ ومن هذا السؤال تبرز أسئلة فرعية عديدة:
- لمن انحاز جمال عبد الناصر اجتماعياً... هل كان انحيازه للأغنياء أو كان انحيازه للفقراء؟..
إن أعدى أعداء جمال عبد الناصر لا يكفون عن اتهامه بالحقد على الأغنياء، ويعزون كثيراً من سياساته إلى هذا الحقد الذى يتصورونه.
ولم يكن جمال عبد الناصر حاقداً، ولكنه كان يرى الغنى الفاحش فى وسط الفقر المدقع جريمة لا تغتفر، وهكذا جعل هدفه الذى لا يحيد عنه تذويب الفوارق بين الطبقات.
ولو أنه وجد نفسه من الأغنياء - أو أوجدته مطامعه بينهم - لاختلفت تصرفاته، ذلك أن كل إنسان حريص على مصالح الطبقة التى ينتمى إليها، أو حتى تلك التى يتطلع يوماً للانتماء إليها. أى أن الذى يريد الثروة لنفسه يؤمن الثروة لغيره!
والذى يسعى إلى توسيع ملكيته الخاصة - وذلك أساس أى غنى - لا يسمح لنفسه أن يبتدع مبدأ التعرض للملكية الخاصة أو المساس بحقوقها.
وإذا كان جمال عبد الناصر قد تعرض لأموال الأغنياء لصالح الفقراء، وإذا كان قد تعرض لملكية من يملكون لصالح الذين لا يملكون - إذن فإننا نستطيع أن نتصور ببساطة أن جمع الثروة والحرص على الملكية التى تتراكم فيها الثروة، لم يكونا بين مجموعة القيم الاجتماعية التى آمن بها فى حياته أو لحياته.
ولقد كان بين المعايير الصارمة التى ألزم نفسه بها أن لا يملك أرضاً أو عقاراً، وكان يعتقد - واعتقاده صحيح - أن الملكية هى التجسيد العملى للامتياز الطبقى، ولم يكن ضد الملكية كمبدأ ولكنه كان ضد تجاوز الحدود فيها فى مجتمع أغلبيته الساحقة من المعدمين، وكان رأيه أن الحاكم فى مصر لا يجوز له أن يتملك لأنه بذلك يفقد قدرته على التعبير عن مصالح الأغلبية ويجد نفسه - مهما حسنت نواياه - يعبر عن مصالح الأقلية.
هل كان نمط حياته يزيد عن موارده وهل كان مضطراً إلى أن يجارى مستويات من المعيشة يراها من حوله مترفة ناعمة، ومجاراته لها تفرض عليه أن يبحث لنفسه عن مصادر أخرى لتمويل العجز؟
لم تكن للرجل - وهذه حقيقة عرفها كل الذين خالطوه فى مصر أو فى العالم العربى أو فى الدنيا الواسعة كلها - شهوة فى طعام أو شراب.
وكان أفخر الطعام عنده على حد تعبيره "لحماً وأرزاً وخضاراً" و"ماذا يأكل الناس غير ذلك؟ " كان تساؤله ذلك مشوباً بالدهشة والاستغراب حينما كنت أقول له فى بعض المرات مداعباً:
"إن الدنيا تقدمت ومع التقدم تطور المطبخ ولم يعد الطعام وسيلة للشبع ولكنه أصبح فناً من فنون الحياة "، وكان ذلك فى رأيه تجديفاً يكاد أن يقترب من الكفر بنعمة الله!
وكان نهاره وليله عملاً متواصلاً، وكانت لمسة الترف فى نهاره حينما يجلس للعمل فى مكتبه تسجيل لأغنية من أغانى أم كلثوم يدور وراءه خافتاً فى خلفية جو عمله، وكانت لمسة الترف فى الليل ذهابه إلى قاعة السينما فى بيته يشاهد فيلماً أو فيلمين قبل أن يأوى إلى فراشه.
وكانت مقاطعته للحياة الاجتماعية فى القاهرة مشهورة، وأتذكر أننى ناقشته فى عزلته كثيراً وكان رده:
إلى أين أذهب؟ ومع من أختلط؟ إن الذين يستطيعون دعوة رئيس الجمهورية هم القادرون... وهم يعرفون وأنا أعرف أن أفكارى تختلف عن أفكارهم، فلماذا أعذبهم وأعذب نفسى؟
- هل كان يريد ثروة يؤمن بها شيخوخته؟!
الغريب أن جمال عبد الناصر كان يعرف أنه لن يعيش طويلاً، ولربما من هذه النقطة يستطيع عدد من الباحثين أن يعثروا على السبب الحقيقى الذى دفع جمال عبد الناصر إلى محاولة تحقيق أكثر الكثير من المنجزات فى أقل القليل من فسحة الزمن.
وأتذكر أول مرة سمعته فيها يعبر عن هذا الشعور.
كنت أقول له ونحن نعيش أزمة من الأزمات الكبرى التى كان يعبرها واحدة بعد واحدة:
- "هل ستتاح لنا الفرصة يوماً لكى نجلس ونكتب معاً قصة ما حدث وحقيقته... ربما عندما تصل إلى سن الشيخوخة ولا تعود هناك مهام أو مشاكل، تتاح لنا هذه الفرصة.
نجلس معاً لنكتب القصة كلها".
وقال هو ببساطة:
- "سوف تكتبها وحدك... فما أظن أن العمر سيصل بى إلى مرحلة الشيخوخة!"
وقلت له:
- "لماذا تقول ذلك؟".
وكان رده:
- "لنكن عمليين... الذى يعيش نوع الحياة التى أعيشها ليس له أن ينتظر الشيخوخة وإلا كان " يخرف"!
هل كان يريد ثروة يؤمن بها حياة أولاده بعد حياته؟
كان ذلك أمراً لم يخطر على بال عبد الناصر... بل العكس، ذلك أنه كان يعتقد اعتقاداً جازماً لم يخالجه فيه شك أن أسرته لن تحتاج شيئاً من بعده، وأذكر - والله شاهد - مرة تحدثنا فيها عن أولاده ومستقبلهم وكان قوله:
"إننى أعرف الناس فى بلدنا وأعرف طيبة قلوبهم، وأعرف أنهم بعدى سوف يضعون أولادى فى عيونهم".
وعندما رحل جمال عبد الناصر كان كل ما تركه من حطام الدنيا قرابة أربعة آلاف جنيه، ألف وخمسمائة منها قيمة بوليصة تأمين على حياته عقدها قبل ذهابه إلى حرب فلسطين، ثم حساباً فى بنك مصر باسمه شخصياً كان رصيده حوالى ألفين وأربعمائة جنيه، وفى مقابل ذلك كان مديناً بحوالى ستة وعشرين ألف جنيه بقيت عليه من تكاليف بناء بيتين... بيت لكل واحدة من بناته تسكن فيه عند زواجها.
وكانت تلك مسألة تردد فيها طويلاً ثم أقدم عليها أخيراً مدفوعاً بعاطفة غلابة لا ترد فقد كان يحس بتقصيره فى الوقت الذى يعطيه لأسرته وكان يريدهم أحياناً أن يعرفوا أن انشغاله عنهم خارج إرادته وأن عليهم مثله أن يتقبلوا مقاديرهم.
وأريد هنا أن أمس نقطة بالغة الأهمية، تلك هى أن أسرة عبد الناصر - بناته وأبناءه بالذات - يمكن أن يُحسبوا عليه حتى مساء يوم 28 سبتمبر 1970، وأما بعد ذلك فحساب كل واحد منهم على نفسه.
ويوم رحل جمال عبد الناصر كانت ابنته الكبرى هدى تعمل فى سكرتاريته بمرتب قدرة ستة وثلاثون جنيهاً، وكان قرينها حاتم صادق يعمل معى فى مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بالأهرام بمرتب قدره مائة جنيه، وكان قبل ذلك فى سكرتارية رئاسة الجمهورية.
وكانت ابنته الثانية منى تعمل معى أيضاً فى دار المعارف المملوكة للأهرام بمرتب قدره ثلاثون جنيهاً، وكان زوجها أشرف مروان يعمل فى سكرتارية الرئيس للمعلومات موظفاً فى الدرجة السادسة بمرتب قدره اثنان وثلاثون جنيهاً فى الشهر.
وقد يسأل سائل:
لماذا كان عملهم معه... أو معى؟
وأسمح لنفسى أن أشرح السبب لأول مرة:
حينما تخرجت ابنته هدى وتخرج معها فى نفس السنة قرينها حاتم صادق من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة كان جمال عبد الناصر فى حيرة شديدة، وأتذكره يومها يقول لى:
- "لا أعرف ماذا يفعل حاتم وهدى، لا بد لهما بالطبع أن يعملا، ولا أستطيع أن أكلم وزيراً أو رئيس مؤسسة لكى يلحقهما بعمل عنده.. ولو تركتهما للظروف الطبيعية فإنى أعلم أن كثيرين سوف يتسابقون عليهما وهذه مفسدةً لهما فى هذا السن".
وسألنى بطريقة عابرة:
- "هل تستطيع أن تأخذهما معك فى الأهرام... معك أستطيع أن أتكلم بغير حرج وعندك أعرف أنهما لن يجاملا، فإنك بصداقتك لى لست فى حاجة إلى استغلالهما زلفى أو تقرباً".
وقلت له:
- "إننى أعرف الاثنين... وبالفعل أريدهما معى فى مركز للدراسات السياسية والإستراتيجية أقوم بتأسيسه الآن".
وبعد يومين اثنين من هذا الحديث، قال لى وبطريقة عابرة وسط حديث طويل على التليفون:
- "لا تفكر فى موضوع حاتم وهدى... لقد وجدت الأسلم أن أعينهما هنا فى الرئاسة حيث أستطيع أن أضمن ظروف العمل بما لا يفتح مجالاً لأى استغلال".
ومضت شهور... ومضت سنة... ومضت سنتان وجاءنى حاتم صادق يوماً وقد سمع عن خطط وخطوات إنشاء مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية ورغب أن يعمل فيه "لأنه يشعر أنه فى سكرتارية رئاسة الجمهورية لا يجد فرصة كافية لكى يتعلم ويجرب. ويخوض خبرة الحياة". وتحدثت فى الأمر مع جمال عبد الناصر فى مرة من المرات، وكان تعليقه:
إننى أعرف أن ظروف عمله هنا فى الرئاسة لا تعطيه الفرصة لإظهار طاقته على العمل، وإذا أردته معك فليكن، ولكنك تعرف كيف أفكر فى الموضوع".
وحين تخرجت "منى" من الجامعة الأمريكية - وكانت قد دخلتها لأنها لم تحصل على مجموع كاف يؤهلها لدخول الجامعة المصرية - وجدت جمال عبد الناصر يطلبنى على التليفون ليقول لى ذات صباح وهو يضحك:
- يظهر أننى سأقدم لك طلب استخدام لكى تأخذ "منى" فى أى عمل معك.
والتحقت منى بقسم نشر كتب الأطفال فى دار المعارف.
وبعد الرحيل عرض الرئيس أنور السادات على "هدى" أن تواصل عملها معه فى سكرتارية رئيس الجمهورية كما كانت مع أبيها، ولكنها استأذنته أن يسمح لها بالعمل فى الأهرام، فبقاؤها فى الرئاسة أكثر مما تستطيع تحمله عاطفياً، وإذن فإن أقرب شىء إلى الالتزام بمعايير أبيها هو أن تعمل معى.
وفى هذه المرة كان الرئيس السادات هو الذى طلب منى عملاً لـ "هدى". وفى ذلك الوقت كان أبناؤه الثلاثة خالد وعبد الحميد وعبد الحكيم فى سلك الدراسة: أولهم فى كلية الهندسة والثانى فى الكلية البحرية والثالث فى الثانوية.
هكذا كانت ظروف الكل وأحوالهم، ولست أعرف إذا كان فيها استغلال سلطة من جانبه أو أنها كانت عزوفاً عن استغلال السلطة من رجل كان يملك أن يشير بطرف إصبعه فإذا الكل يتسابق ليعطى أحسن المناصب وأوسع الفرص لأبناء جمال عبد الناصر.
تلك كانت ظروف الكل وأحوالهم عندما رحل... وحسابه عنهم يتوقف عند تلك اللحظة من الزمان، وأما بعدها فكل منهم مسؤول عن نفسه.
لكن الرجل، وتلك أمانة أمام الناس والتاريخ، لم يحاول تأمين حياة أولاده بعده، بل تركهم واثقاً "من طيبة قلوب الناس فى بلدنا، وأنهم بعده سوف يضعون أولاده فى عيونهم"!
هذه جوانب من تصرفات الرجل "كإنسان"، وهى واضحة فى تعبيرها عن مجموعة القيم الاجتماعية التى يؤمن بها، وعنها تصدر تصرفاته.
وننتقل منها إلى مجموعة أخرى من القيم الإنسانية تظهر فى تصرفاته كمشتغل بالسياسة.
... نتساءل مثلاً:
"من الذى يضع الأموال السائلة الطائلة تحت تصرف أصدقائه:
"المعسكر الرأسمالى أو المعسكر الاشتراكى؟".
لا يشك أحد فى أن التعامل مع المعسكر الرأسمالى أقرب إلى تحقيق مزايا مالية لا شك فيها لمن يبحث عن ثروة تكون تحت تصرفه خفية وبغير أن يعرفها أحد.
ولا نذهب بعيداً، ففى الوقت الذى تصور فيه الرئيس الأمريكى "دوايت أيزنهاور" أن النظام المصرى بعد الثورة على استعداد لمسايرة السياسة الأمريكية، بادر فوضع تحت تصرف سلطة الدولة العليا فى مصر ثلاثة ملايين دولار لكى تصرف سراً فى أى وجه تراه هذه السلطة ضرورياً لأمنها..
وأحدث تقديم هذا المبلغ لسلطة الدولة فى مصر وقتها دهشة واكتنفته ظروف مثيرة ثم تقرر توجيه المبلغ إلى بناء برج القاهرة وشبكة مواصلات مع العالم فيه، وأصبح برج القاهرة بعد هذه القصة رمزاً عالياً لسخافة السياسات الخفية للولايات المتحدة الأمريكية.
ولكن ذلك لم يوقف الأموال الضخمة المتدفقة أو المستعدة للتدفق على كل من يتوافر لديه الاستعداد ليساير.
ولقد ساير كثيرون فى الشرق الأوسط وخارجه، والقصص والروايات عن المبالغ الخرافية التى أصبحت توضع خفية تحت تصرف الذين يتوافر لديهم الاستعداد للمسايرة شائعة ذائعة فى دوائر لجان التحقيق فى الكونجرس الأمريكى..
وبينها مثلاً أن "الجنرال ثيو" رئيس فيتنام الجنوبية كان يحصل سراً كل سنة على مائة مليون دولار توضع تحت تصرفه بترتيب خاص بينه وبين الرئيس الأمريكى.
بل وأقرب من ذلك إلينا مكاناً وزماناً فلقد تسرب قبل شهرين سر إعطاء زعماء الحزب الديمقراطى المسيحى فى إيطاليا مبلغ ستة ملايين دولار فى شهر ديسمبر الماضى وقد قدمت إليهم من اعتمادات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
ولم يكن جمال عبد الناصر قريباً من التعاون أو التواطؤ مع هؤلاء الذين يعطون المال بغير حساب، ولو كان على استعداد ليساير لاغترف ما يحلم به وما لا يحلم به ولكانت عنده الأموال بغير حساب.
لكن اختياره الدولى... كان اختياراً مستقلاً بعيداً عن ذلك كله!
... ونتساءل مثلاً:
ما هى الأبواب التى ينفتح فيها باب الغنى على مصراعيه لمن يريد أن يمد يده إلى الثروة الملعونة؟
لا يختلف أحد فى أن أوسع أبواب الغنى لمن يريد هو باب مشتريات السلاح، وذلك باب أغلقه جمال عبد الناصر تماماً، فالحصول على السلاح من الاتحاد السوفيتى - مع أنه قرار سياسى بالدرجة الأولى - إلا أن بين آثاره الاجتماعية الكبرى أن باب الرشاوى والأرباح من تجارة السلاح الملعونة أصبح مسدوداً لا سبيل إلى النفاذ منه.
هل يغلق رجل يبحث عن الثروة من أى طريق مثل هذا الباب وهو باب الملايين... عشرات الملايين... مئات الملايين؟!
... ونتساءل مثلاً:
لعله أعد نفسه ليوم يضطر فيه إلى الهرب من موقف صعب، وحينئذٍ يجد فى مهربه ما يستطيع أن يعيش به؟
ولكن، هل كان "الهرب" فى طبعه؟
أعداؤه - قبل أصدقائه - يعترفون له بأنه كان مقاتلاً إلى النفس الأخير، ولو كان ممن تقصر هممهم عن تحديات عصرهم لأعفى نفسه - دون حرج - من معارك بعد معارك فرضتها عليه آمال الأمة وكان يستطيع ببساطة أن يجعل أذناً من طين وأذناً من عجين ويصد عن سمعه صوت النداء.
لقد انتخب لرئاسة الجمهورية أول مرة فى يونيو 1956 وكان فى استطاعته أن يعطى نفسه فرصة يتمتع فيها بمزايا المنصب وهى هائلة لمن يريد، لكنه بعد أقل من شهرين كان فى عين العاصفة بقراره تأميم قناة السويس.
وبعد حرب السويس كان أسطورة فى العالم العربى، فقد حقق للعرب أكبر وأكمل نصر حصلوا عليه فى تاريخهم الحديث، وواجه فى ساحة القتال ثلاث دول، بينها اثنتان من الدول العظمى فى زمانهما - بريطانيا وفرنسا - وصمد فى الميدان رغم تباين القوى العسكرية ولم يستسلم، ثم انطلق بالعمل السياسى من حيث توقف عسكرياً ووصل إلى هدفه كاملاً:
قناة السويس تحت السيطرة المصرية، والانسحاب البريطانى الفرنسى من بورسعيد كاملاً، والانسحاب الإسرائيلى من سيناء كلها ومن قطاع غزة لم يوضع للمساومة.
وكان فى استطاعته بعد السويس أن يعيش على ماضيه.. ماضيه يكفيه ويصنع منه أسطورة لم تسبق، ولا تلحق.
ومع ذلك لم تكد نهاية سنة 1957 تجىء إلا وقوات من جيشه تنزل فى اللاذقية تشارك مع الجيش السورى فى الاستعداد لغزو لسوريا كان يدبره حلف بغداد.
... هكذا وهكذا حياته من أول يوم حتى آخر يوم.
كان غيره معذوراً إذا استسلم أمام الإنذار البريطانى - الفرنسى يوم 30 أكتوبر 1956 وركب طائرة وهرب... لم يفعل وإنما قاتل.
وكان غيره معذوراً إذا خانته شجاعته الأدبية يوم الهزيمة فى 9 يونيو 1967 فترك بيانه للأمة مسجلاً وركب طائرة وهرب... لم يفعل وإنما بقى ليحمل "المسؤولية كلها" على حد تعبيره فى خطاب 9 يونيو 1967، وكانت المفاجأة بالنسبة له كاملة حين طالبته الأمة من الخليج للمحيط بأن يبقى وأن يواصل قيادة المعركة المستمرة، وبقى تحت شعار المراحل الثلاث: الصمود والردع والتحرير.
لم تجىء نهاية سنة 1967، نفس سنة الهزيمة، حتى كانت قدرة مصر الدفاعية قد استكملت.
فى سنة 1968، كان قادراً على الردع بمعارك المدفعية على جانبى القناة.
وفى سنة 1969 والنصف الأول من سنة 1970، كان يخوض حرب الاستنزاف التى يعتبرها المؤرخون العسكريون فى الدنيا كلها جولة الحرب الرابعة بين العرب وإسرائيل.
وكانت عينه على الجولة الخامسة فى الحرب العربية الإسرائيلية: جولة التحرير.
وكان يريد.. وأرادت المقادير شيئاً آخر... وأغمض الموت عينيه مساء 28 سبتمبر 1970!
... ونتساءل مثلاً:
ربما كان يريد من ثروة يكدسها فى الخارج أن تنفق فى يوم يضطر فيه إلى الحياة لاجئاً سياسياً خارج مصر؟
لقد كان مثل هذا الاحتمال خارج حساباته، وكانت له فلسفة واقعية غريبة فى صراحتها، وكان يقول:
- ليس لى مكان إلا واحد من اثنين: هنا فى مكتبى أعمل.. أو هناك راقداً فى قبر... حتى السجن - لو حدث شىء - لن تطول إقامتى فيه، فإنهم أذكى من أن يتركونى حياً".
وكان يضيف:
- أولاً فأنا لا أحب مهنة اللاجئ السياسى.
وثانياً فليس هناك بلد يقبلنى لاجئاً سياسياً لأنى سأكون "مطلوباً" بشدة من الأقوياء الذين حاربت نفوذهم فى بلادنا.
وثالثاً فإن هؤلاء الأقوياء سوف يطاردوننى إلى آخر الأرض إلى آخر العمر".
... ونتساءل مثلاً:
هل كان فى طبعه "الاستزلام" للأغنياء طمعاً فى أن يجودوا عليه بفضول أموالهم.
وهل كان رجلاً تهون عليه كرامته فيقبل مالاً من خصم قاتله فى مبدأ وضغط عليه حتى تنازل عن عرشه ثم فتح له باب وطنه لاجئاً تحت سلطانه: كالملك سعود؟
لقد كان بين مشاكل عبد الناصر أنه رجل شديد الكبرياء، وكبرياؤه وحدها كانت تكفيه عاصماً ضد مهانة الرشوة أو ذلك الاستجداء!
ولقد أردت أن أناقش الموضوع من زاوية مجموعة القيم التى أثرت فى تصرفاته كإنسان: اجتماعياً أو سياسياً.
ولم أشأ أن أتعرض للناحية البوليسية فى الموضوع.
ولم أشأ أن أسأل:
ألم يجد وسيلة للثروة غير شيكات من الملك سعود مسحوبة على بنوك عالمية... ألم يجد طريقاً آخر غير اتفاقيات رسمية تعقدها وزارة الاقتصاد وينفذها البنك المركزى المصرى؟
ولم أشأ أن أسأل:
ألم تكن تحت تصرفه خزائن مصر؟ ألم تكن تحت أمره اعتمادات بغير حدود لأوجه من النشاط السياسى معفاة من أى رقابة؟ ولم أشأ أن أسأل: لو أن له حساباً سرياً خارج مصر، حتى لو لم يكن فى هذا الحساب غير مليم واحد، فهل كان أعداؤه وهم الأقوياء فى هذه الدنيا - خصوصاً دنيا البنوك - عاجزين عن خزائنها وعن أرقامها؟
لم أشأ ذلك لأن هدفى لم يكن تبرئته من اتهام رموه به.
وقلت وما زلت أقول:
إننى واحد من الذين لا يعطون لأحد شرف تبرئته قبل أن يعطوا لأحد حق اتهامه!
0 comments:
إرسال تعليق