الخميس، مايو 19، 2011

صَدَقَ الشعراءُ و لو كذبوا: قصيدة نزار تفضح جريمة بشار.


كتب بواسطة عبد الرزاق قيراط

مقولة "أجمل الشعر أكذبه" تلخّص آليّة من آليّات الإبداع في الكتابة الشعريّة، فالنصّ لا يرقى إلى مرتبة الشعر إلاّ بها لأنّها أشدّ تأثيرا من بقيّة الشروط كالوزن و القافية مثلا فهما لا تكفيان لبناء قصيدة جميلة. كانت الوظيفة الجماليّة في القصائد العربيّة القديمة و الجديدة مضمونة بتلك المبالغات و المجازات التي يركب فيها الشاعر خياله ليشكّل الصورة الكاذبة قياسا بالواقع فيتلقّاها القارئ أو السامع بإعجاب يتجدّد مع كلّ قراءة. تتفوّق تلك الصورة رغم زيفها نظرا لعذوبتها وفي ذلك خلاصة اللذّة التي يضمنها النصّ لمن يعشق القراءة فيه.

لكنّ الصورة الشعريّة الكاذبة تخون كاتبها أحيانا حين تصبح نقلا مباشرا لواقع نعيشه. فشاعرنا الدمشقيّ نزار قباني لم يكن كاذبا في قوله و هو يحاكي السلاطين العرب:

أيها الناس: لقد أصبحت سلطانا عليكم،
فاكسروا أصنامكم بعد ضلال، واعبدوني…
أنا الأوّل و الأعدل و الأجمل من بين جميع الحاكمين ...

كلّما فكرت أن أعتزل السلطة، ينهاني ضميري ...

جميع الصور التي شكّلها نزار تنطبق اليوم على بشّار و كلّ الزعماء العرب الذين ارتقوا بأنفسهم إلى أعلى علّيّين حتّى كادوا يُعبَدون خوفا من بطشهم، و قد سحقوا فعلا كلّ من كفر بهم. مبالغتهم في التمسّك بالسلطة إلى حدّ استعباد الشعوب حوّل المجاز في قول الشاعر إلى حقيقة و أفرغ المبالغة الشعريّة من محتواها. لا يشفع الخيال لنزار فيما يكتبه و قد صار بطش حكّامنا بشعوبهم أبعد من أن يتصوّره المتخيّلون. بل أصبح القمع الذي نراه اليوم في الصور المهرّبة في الذاكرة الحافظة للهواتف المحمولة دليلا على لذّة من نوع آخر يمارسها الجلاّد و هو يمشي على جثث ضحاياه. فأين لذّة الذاكرة الشعريّة هنا؟ لعلّها تحوّلت إلى صدمة تثير حفيظة الشعراء و الـقرّاء معا.

هل نصدّق أنّ الشعراء يموتون و نزار يصف لنا ما حدث في بلدة "البيضا" منذ أسابيع حين مشى رجال الشرطة على أجساد المعتقلين و ركلوا رؤوسهم بلذّة متجدّدة مع كلّ ركلة. و يذكر لنا ذلك القبر الجماعيّ الذي اكتشفه متساكنو "درعا" في حقول كانت مهدا للحياة و النماء فإذا بها تصبح لحدا لشهداء الكرامة. شاهد نزار تلك الوقائع ببصيرة الشاعر فقال:
<< أنا أملككم كما أملك خيلي وعبيدي، وأنا أمشى عليكم مثلما أمشى على سجّاد قصري.... لا تضيقوا - أيها الناس – ببطشي، فأنا أقتل كي لا تقتلوني.. وأنا أشنق كي لا تشنقوني.. وأنا أدفنكم في ذلك القبر الجماعيّ لكيلا تدفنوني.. >>

صِدْقُ الصورة إلى حدّ المطابقة التامّة لِما يحدث في سوريّة أو ليبيا أو ما سيحدث في غيرها يشاكس الكتابة الشعريّة التي كانت تهيم بشاعرها في وديان الخيالات الجميلة فيغيّر قواعدها. لأنّ الواقع المذكور قبّح بصدقه ما كان جميلا بفعل الكذب.

و لعلّ نزار يكشف على لسان ذلك السلطان جريمته الشعريّة و هو يتخبّط بين الصدق و البهتان فيقف حاكمنا الجبّار معترفا بجرائمه الدمويّة حين راح يقتّل أبناء شعبه بعد أن فقد نهي الضمير و الشعور:

إنهم قد علّموني أن أرى نفسي إلهً

وأرى الشعب من الشرفة رملاَ

فاعذروني، إن تحولت لهولاكو جديد

أنا لم أقتل لوجه القتل يوماً

إنما أقتلكم .. كي أتسلّى

نكاد نرى كلّ حاكم مجرم قتل شعبه يردّد هذا الاعتراف و لكنّنا واهمون الآن على الأقلّ، لذلك سنقنع بالمحاكمة الشعريّة لهؤلاء الطغاة في انتظار أن يواجهوا مصيرهم بعدالة حقيقيّة. و هذا قد يكون قريبا فلم يعد بين خيال الشعراء الكاذب و صدق الواقع إلاّ نصّ مكتوب. فإذا انخرط الشعب في كتابة مصيره و مصير من يحكمه يصبح المستحيل ممكنا أو كما قال الشابيّ: إذا الشعب يوما أراد الحياة ـ فلا بدّ أن يستجيب القدر.

عبد الرزاق قيراط – تونس.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية