محمد العلي
في مطلع الألفية الثالثة وقع في سورية حدث جلل فريد من نوعه كان يمكن أن يشكل تحولاً مهماً لو كُتِبَ له الاستمرار والتوسع، وربما جنب بشار الأسد نهايته المحزنة التي بشره بها الرئيس الروسي ديمتري ميدفيدف!.
وما هذا الحدث الجلل إلا أول ترخيص رسمي يعطى لصحيفة مستقلة في سورية، منذ 1963م، بعد أربعين سنة لا حياة فيها إلا للتقدم والاشتراكية والصحف الثورية، هذه المستقلة اليتيمة الأولى والأخيرة هي جريدة 'الدومري' الساخرة لصاحبها فنان الكاريكاتير العالمي الشهير علي فرزات، والتي لاقت رواجاً كبيراً من فور صدورها، وطبع منها ستون ألف نسخة، تنفد من السوق بعد أربع ساعات من عرضها، قد تلقاها الناس بلهفة كما يتلقى الظمآن الماء البارد، وكنا نقرؤها يومذاك ولا نصدِّق أعيننا، هل هذه جريدة سورية حقاً ؟. ونذهب في تفسير الحدث مذاهب شتى، وربما نظر بعضنا إلى المجلة ودورها كالعادة بعين الريبة والحذر، وأنها تكمل الدور الذي كان يضطلع به 'غوار الطوشة' من تنفيس الاحتقان عند الشعب وامتصاص نقمته، كيلا ينفجر!.
نعم، 'الدومري' كانت تطوراً خطيراً بكل المقاييس بالنسبة لدولة البعث التي لا ترى فيها إلا جريدة (البعث) ونسخها الكربونية المكررة عنها (تشرين) و (الثورة) وهلم جرَّا، حيث لا يمكنك أن تعثر على شيء مستقل أبداً؛ لا جريدة ولا كاتباً ولا شاعراً ولا شيخاً ولا رساماً ولا مذيعاً ولا محللاً ولا دكتور جامعة إلا أن يكون تابعاً (إمعة) لا يقول (لا) قط ولا (أفٍ)، ولا يحتج مطلقاً رغم أن الإنسان كائن محتج، ولا يعترض على سياسة ولا اقتصاد ولا سلم ولا حرب.
أقضَّت 'الدومري' مضاجع الحكومة على سبيل الحقيقة لا المجاز، حتى أفضى وزير الإعلام عدنان عمران لفرزات قائلاً: 'أنا أبقى يومين قبل إصدار 'الدومري' محروماً من النوم!!'. ولذلك لم يطل عمر الجريدة المستقلة كثيراً فقد ضاقت السلطات السورية ذرعاً بـ 'الدومري' الساخرة الناقدة، لتبدأ حملة التضييق على الجريدة وصاحبها، وصولاً إلى إغلاقها عام 2004 م، بعد عددٍ مميز منها هو آخر أعدادها، وحمل عنوان 'الإيمان بالإصلاح' بالخط العريض على صفحتها الأولى، اعتبره رئيس تحريرها السبب الرئيس لإيقافها بل هو القشة التي قصمت ظهر البعير.
أرأيت لب المشكلة، وأين الخلل؟. وهل عرفت لماذا لا يصدِّق السوريون وعود الأسد بالإصلاح ولا يحملون قراراته محمل الجد؟. لأنهم بالتجربة الطويلة يعلمون علم اليقين عقمه وعجزه وعدم قابليته للإصلاح!!!. فإذا ضاق صدره بجريدة مستقلة فهل يتسع لإعلام حر وبرلمان حر وقضاء مستقل وتداول للسلطة؟. وكما يؤكد رسام الكاريكاتير أن قضيته مع الحكومة السورية 'هي أنهم يريدون شيئاً يشبههم وأنا أردت شيئاً يشبه الناس' ويتساءل قائلاً: 'في ظل هذا المناخ كيف يمكن أن نبدع؟!. وكيف يمكن أن تكون صحيفة 'الدومري' جريدة ناقدة وساخرة ومستقلة؟'.
الدول لها أعمار وأطوار تمر بها، ولكل أجل كتاب، والظلم مؤذن بخراب العمران كما قرر ابن خلدون، والدولة الأسدية قد حان أجلها بظلمها وبغيها حسب السنن الكونية والتاريخية، ولو أن 'الدومري' كُتِب لها الحياة حتى هذه اللحظة التي يتحشرج فيها النظام السوري ويلفظ أنفاسه الأخيرة، فلربما وهبته عمراً مديداً وعيشاً سعيداً، ووهبت السوريين أيضاً. نعم لو استمرت هذه الخطوة وتبعتها خطوات أخرى أتاحت للسوريين هامشاً من الحرية يتنفسون منه، ووازاها خطوات أخرى في محاربة الفساد وتقليص رقعته إلى حد معقول، لما وقعت الواقعة ولرضي السوريون برئيسهم وحكومتهم، وقالوا: 'منحبك' ولو أضمروا شيئاً آخر لا يعبأ به ولاة أمورنا!.
بعد 'الدومري' تفككت علاقة فرزات بالأسد الابن، هذه العلاقة الحميمة التي ترجع إلى أواخر أيام الأسد الأب، خلال تحضيره لوراثة السلطة، لتنتهي بطلاق بائن بينونة كبرى بعد أن تجاوز فرزات الخطوط الحمراء في رسوماته التي تناولت علية القوم ومنهم إمبراطور اقتصاد العائلة الحاكمة رامي مخلوف والرئيس الأسد نفسه، والرسم الأخير الذي رسمته أصابع الفنان قبل تكسيرها من شبيحة الأسد يصور فيه الأسد هارباً من مدينته وهو يستوقف سيارة فيها القذافي، ويسأله أن يحمله معه!. فكان لا بد من تأديبه على الطريقة الأسدية الهمجية، حيث اختطفه قطعان الشبيحة، من ساحة الأمويين في قلب دمشق على مقربة من بيت الشبيح الأكبر، وعذبوه تعذيباً سادياً وحشياً، وخصوا أصابع يديه المرهفة الحساسة، بمزيد من الضرب مع تعمد تكسيرها جزاء وفاقاً، وهم يقولون له: 'سنكِّسر أصابعك التي ترسم بها!'. وقال فرزات: 'إن آخر كلمة سمعها منهم: (هذه المرة سنكتفي بهذا القدر)' أي تهديد بالقتل في المرة القادمة فيما لو أساء الأدب !.
لا شك أن صورة رسام الكاريكاتير التي رأيناها على شاشة العربية كانت مرعبة لكنها تؤكد في الوقت نفسه مدى شعور النظام باليأس والخوف، كما تثبت فقدانه للسيطرة على الأمور وأن بشار الأسد يسير على خطى عمه القذافي شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
القدس العربي
0 comments:
إرسال تعليق