لا أحد بإمكانه أن يُنكر ما يُروَّج له إعلاميا من أنّ نظام طهران ما بعد ثورة 1979 نظام قويّ يقوم على سياسة مواجهة محيطه الإقليمي والعالميّ عبر سعيه إلى تنمية قدراته العسكريّة والاقتصاديّة وتهيئة أغلب بناه التحتيّة لخوض هذه المواجهة مستغلاّ في ذلك كلّ ما يحتاز من عناصر قوّة جغرافية كانت أو بشريّة أو اقتصاديّة. فإيران تتحكّم في أكثر من 40% من الممرّات المائية العالمية التي تُستغلّ خاصة في نقل المنتوج النفطي على غرار مضيق هرمز، ولها حجم مبادلات تجارية مرتفع مع بعض دول الاقتصادات الكبرى، حيث بلغ التبادل مع الصين أكثر من 30 مليار دولار في السنوات القليلة الماضية ومع العالم الإسلاميّ ما يزيد عن 50 مليار دولار، هذا بالإضافة إلى مخزونها النفطيّ الكبير الذي يقدّر بـ 138 مليار برميل، واحتياطيّها من الغاز البالغ 29 تريليون متر مكعب، واقتراب منتوجها من الألمنيوم من حاجز 200 ألف طن، إلى جانب نموّ إنتاجها لبعض المصنوعات الثقيلة الخدماتية والعسكريّة. وهو أمر شجّع هذه الدولة على الزيادة في عديد قواتها البريّة العاملة حيث بلغ 350.000 فردا بنسبة 44% من القوات العسكرية الجمليّة. وبالإجمال، تشير جميع هذه المعطيات إلى أنّ إيران تمثّل قوّة كبرى في منطقة الخليج العربيّ. ولكنّ ما يظهر من وجه هذه القوّة يخفي قفا لها ضعيفًا يسعى النظام السياسيّ إلى إخفائه.
ولئن نجح أسلوب التقيّة الذي اعتمده النظام الإيراني لخوض كلّ معاركه السياسيّة، فإنّه فشل في أن يحميه من تضخّم حجم احتقاناته، بل كشف عن مناوراته التي يستثمر فيها البعدَ الدّينيّ لتجييش عواطف الناس في الداخل والخارج واستمالتهم إليه، وجعل منه نظاما سياسيا غير متصالح مع واقعه أولا ومع احتياجات مواطنيه ثانيا ومع طبيعة علائقه مع جيرانه ثالثا، لا بل هو الآن نظام بوجهيْن: وجه ثوريّ للتسويق الإقليميّ والخارجيّ تتجلّى فيه إيران نظاما قويا متحكّما في زمام أموره، يدافع عن الحريّة أينما كانت، ويرفع يافطات محاربة أعداء الإسلام، والدعوة إلى تحرير فلسطين وباقي بلاد الإسلام. وهذا الوجه التسويقيّ يُخفي وجها آخر داخليا مترهِّلا تغزوه التجاعيد وتأكله القروح والتعفّنات العسكريّة والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
فعلى المستوى العسكريّ، تشير تقارير أغلب مراكز البحوث المختصّة، على غرار ما نشر مركز الدراسات الدولية والإستراتجية بواشنطن في تقريره عدد 73 لسنة 2006، إلى أنّه بالرغم من التحسينات التي طالت تنظيم قوات الجيش الإيراني وإعداده ماديا، فإن هذه القوات ما تزال تعاني من قصور ملحوظ في مستوى قدرتها على صيانة المعدات الحربية وتوفير التدريب الكافي للموارد البشرية. كما أنّ مقدرات الجيش الإيراني تعتبر دفاعية في طبيعتها، حيث أن التدريبات والمعدات المتوفرة لا تؤهل هذه القوات للقيام بمهمات هجومية كبيرة خارج البلاد. ويذهب هذا التقرير إلى الاعتقاد بأن سلاح الجو الإيراني لا يتوفّر على قدرة مواجهة الدفاعات الجوية الحديثة وهو لا يستطيع اعتراض صواريخ كروز توماهوك الأميركية على سبيل المثال، هذا إضافة إلى تعدّد الجبهات الإيرانية التي تحتاج إلى حماية الدفاعات الجوية، حيث تمتدّ جغرافيتها على مساحات كبيرة. وعلى هذا، فإنّ عداء إيران لمنطقة الخليج العربي قد يكلّفها غاليا على المستوى العسكريّ.
أمّا على المستوى الاجتماعيّ، فإنّ الظروف المعيشيّة للمواطن الإيراني راحت تتأزّم بسبب غلاء المعيشة وتنامي البطالة وضآلة الدّخل الفردي القار مقارنة بما هو عليه الحال في دول مجلس التعاون الخليجيّ حيث يبلغ 4143 دولارا بينما هو لدى المواطن السعودي يتجاوز 13356 دولارا، ويبلغ في الكويت 43760 وفي البحرين 25255 دولارا وفي دولة الإمارات 73622 دولارًا. وهو أمر ألقى بظلاله على الجوانب الصحيّة والتعليمية وساهم في ظهور مجموعة من الآفات الاجتماعية على غرار انتشار ظاهرة الزواج خارج الأطر القانونيّة وارتفاع عدد مدمني المخدرات في إيران، حيث بلغ 1.2 مليون مدمن، وتشير بعض التقارير إلى أن أغلب هؤلاء من طلبة المعاهد والجامعات وتقل أعمارهم عن 32 سنة.
ولا يختلف الوضع الثقافي في إيران عن الأوضاع الاجتماعية فيها، إذْ تعدّ هذه الدولة من أولى الدول التي تمارس الرقابة على الإنترنت وتضيّق على الحريات الفرديّة، إذ تشير منظمة "مراسلون بلا حدود" إلى اعتقال السلطات لإيرانية للمدوِّنة برستو دوكوهكي ولزميلتيها مرضية رسولي وسهام الدين برغاني بتهمة نشر الدعايات المناوئة للنظام السياسي وتعريض الأمن القومي للخطر. وبحسب معلومات نفس المنظّمة، فإنه تم في العامين الماضيين اعتقال مائتين وخمسين صحفيًا، وهو ما دفع بالكثير من الإعلاميين إلى الهرب من وطنهم عبر الحدود التركية. كما يعمد النظام الإيراني إلى كبح طاقات مواطنيه الإبداعية كلّما رام هؤلاء نقد المؤسّسات الدينية أو السياسيّة أو غيرها، وذلك من جهة أنّ "مَنْ تمنطق فقد تزندق"، وهو ما جعل مخرجا سينمائيا عالميا مثل جعفر بناهي يصرّح بأنه يخشى أن يُضطر إلى التخلّي عن ممارسة الفن السينمائي بسبب استشراء وتغوّل الرقابة الفنية التي تتخذ من معاداة الثورة والخروج عن القيم الإسلامية سبيلا لقتل الإبداع. حيث تنص المادة 228 من قانون الجزاء الإسلامي على تبرئة الجاني "إذا ثبت للمحكمة أن القتيل مهدور الدم". ويُشير أحد الكتاب إلى أنه باسم هذا القانون أهدر البوليس السياسي الإسلامي دماء 180 مثقفاً إيرانياً سجلوا على "القائمة السوداء" الشهيرة، اغتيل منهم أربعة، ولولا تدخل الرئيس محمد خاتمي لكان أعضاء القائمة اليوم تراباً في التراب.
وبالتأليف، نقول إنّ زيارة السيد أحمدي جاد إلى جزيرة أبوموسى ليست إلا مناورة من المناورات التي تُظهر رغبة النظام الخفيّة في الهروب من مستقبله بعدما تضاعفت عليه الضغوط الدولية والإقليمية بسبب برنامجه النوويّ، بل هي نوع من "الماكياج" السياسيّ الذي يسعى به نجاد إلى تزيين نظامه السياسيّ وإخفاء ما فيه من تجاعيد مُحيلة على شيخوخته الثوريّة.
عبد الدائم السلامي
إعلامي وجامعي- تونس

الجمعة, أبريل 20, 2012

Posted in:
0 comments:
إرسال تعليق