الأربعاء، مايو 09، 2012

64 عاماً على النكبة: المسألتان الإسرائيلية والفلسطينية نتاجاً للمسألة اليهودية

بغضّ النظر عن كيفية نشوء إسرائيل (1948)، والجدل بشأن شرعيتها الأخلاقية والتاريخية والقانونية فقد نجم عن قيام هذه الدولة، التي جاءت بدعوى حلّ المسألة اليهودية، التي تتمثّل باضطهاد اليهود في أوروبا، نشوء عديد من المسائل، لعلّ أهمها المسألتان الإسرائيلية والفلسطينية، والمسألة المتعلقة بكيفية إدراك العرب للغرب.

فمنذ البداية وبدلاً من حلّ المسألة اليهودية في البلدان الأوروبية المعنيّة في مواطن اليهود ذاتهم، ضمن إطار النضال الديموقراطي في تلك البلدان، قامت الحركة الصهيونية بادّعاء صوغ حلّ "قومي" لهذه المسألة يتمثّل باقتلاع اليهود من بلدانهم وتوطينهم في أراضي شعب آخر.

ولهذا الغرض فقد تمّ استغلال الدين اليهودي في أغراض التعبئة، مع ترويج عديد من الأساطير من مثل "شعب الله المختار" وعودة اليهود من "الدياسبورا" (الشتات) إلى "أرض الميعاد"، التي هي "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض". عدا عن تسبّبها باقتلاع اليهود من مواطنهم، ومجتمعاتهم، وثقافاتهم السابقة، فإن فكرة "القومية" اليهودية انطوت على تناقض بيّن، فالقومية مفهوم سياسي حديث وتختلف عن الفكرة الدينية، وليس ثمة فكرة سابقة تدّعي التطابق بين الدين والقومية في الديانات السماوية أو الأرضية.

وحتى لو أخذنا الطابع الخاص للديانة اليهودية فإن الوحدات البشرية التي تتطوّر إلى مرحلة "القومية" يلزمها عوامل أساسية مثل الاشتراك في الثقافة والتاريخ والإقليم وطريقة العيش، في حين أن اليهود جاؤوا من عشرات البلدان على اختلاف لغاتها وثقافاتها وتواريخها وهوياتها.

مع كل ذلك فقد صنّعت الصهيونية نوعاً من رواية يهودية خاصّة تعتبر اليهود نوعاً من بشر عاشوا رغماً عن التاريخ والجغرافيا، كأنهم خارج الزمان والمكان، وهو أمر ما كان يمكن ترويجه حتى بين اليهود أنفسهم لولا اتكائه على العقيدة الدينية.وعموماً فقد تمكّنت إسرائيل، في ما بعد، بفضل ما تسميه "بوتقة الصهر" خاصّتها، المتمثّلة بإحياء اللغة العبرية والاستناد على سردية دينية للتاريخ، لإضفاء تبرير تاريخي وأخلاقي على قيامها، مع مؤسسات مثل: الجيش والجامعات والهستدروت والأحزاب والكيبوتزات والموشاف ومتحف "الهولوكوست" والصحف وغيرها، من تخليق مجتمع يعيد إنتاج ذاته، لا سيما بعد أن بات اليوم نحو 70 بالمئة من اليهود فيها من مواليدها.

المفارقة أن النجاح الذي حقّقته الصهيونية بإنشاء إسرائيل نجم عنه نفيها، فقد انتهى دور كيانات مثل "المنظمة الصهيونية" و"المؤتمر اليهودي العالمي" و"الوكالة اليهودية". وهذا ما عبّر عنه جدعون ليفي بالكلمات التالية: "الصهيونية صارت في الخامسة عشرة بعد المئة من العمر. وكان ينبغي أن تحال منذ وقت طويل إلى التقاعد ـ مثل كل عجوز انقضى زمانها ـ وبات عليها أن تنزل بكرامة عن منصّة التاريخ.

وهذا الأمر يسري أضعافاً، إذا كانت الحركة حققت أهدافها وغدت مجرد جثة في عام 2012، العام 64 للدولة، ليس هناك من يعرف بشكل صحيح، ما هو دور الصهيونية وما تعريفها، تلك البسطة الفارغة كان ينبغي إغلاقها منذ وقت طويل، فالصهيونية إلى السلة والدفن.

كل الأسئلة المعيبة التي بقيت مفتوحة وكل التحديات التي بقيت غير محققة، هي شأن الدولة والمجتمع اللذين أنشئا، كما في كل دولة ومجتمع، وباتت صلتها بالحركة الحاملة غير ذات شأن.هكذا فإن الصهيونية غير ذات شأن. لقد انتهى برنامج الصهيونية وبدأ برنامج النضال من أجل طابع الدولة وصورتها".("هآرتس 27/4).

حقّاً لقد ذهبت الصهيونية (ككيانية سياسية) وباتت صنيعتها إسرائيل هي النتاج المتجسّد لحلّ المسألة اليهودية في أوروبا، لكن هذا "الحل" ولّد المسألة الإسرائيلية، التي لا تتعيّن مقابل الفلسطينيين أو الدول العربية، إذ إنها هنا تخصّ اليهود في إسرائيل، ومعنى وجود دولتهم.

فبالنسبة لهؤلاء ثمة واقع من هوية إسرائيلية يجري تطويرها في مجتمع يعيش في إطار دولة متعيّنة، على التاريخ والثقافة والتاريخ والسياسة ونمط الحياة المشترك.

وبديهي أن هذه الهوية تمايز بين يهود "اليشوف" (إسرائيل) ويهود "الدياسبورا" ("الشتات")، ما يفسّر الجدل الدائر بشأن من هو اليهودي (الديني أم العلماني)؟ وبشأن اعتبار اليهودي الحقيقي أو الصهيوني الحقيقي، الذي يحقّ له التقرير في شؤون إسرائيل، إنما هو اليهودي الإسرائيلي، وبشأن التطلّب من يهود الخارج الهجرة إلى إسرائيل لإثبات يهوديتهم أو تقديم الدعم لها من دون التقرير في شؤونها؛ ويأتي ضمن ذلك، أيضاً، الجدل بشأن اعتبار إسرائيل مركزاً ليهود العالم أو أحد مراكزهم.

في الخلاصة وبدلاً من أن تتحوّل إسرائيل إلى دولة حلّ باتت دولة مشكلة، فهنا نشأت هوية إسرائيلية مدنية ومتجسّدة مقابل هوية يهودية دينية ومتخيّلة، وهذه الدولة بدلاً من أن تصبح الملاذ الآمن ليهود العالم، إذا بها أكثر مكان يشكّل خطراً على اليهود، بل إنها المكان الوحيد الذي يستعر فيه العداء لليهود لكونهم يهوداً، بسبب السياسات التي تنتهجها دولتهم.

وهذه الدولة بدلاً من أن تحمي اليهود وتقدّم الدعم لهم باتت هي بمثابة عبء سياسي وأمني واقتصادي وأخلاقي على يهود العالم، وعلى الدول التي تدعمهم.

فوق كل ذلك فإن المسألة الإسرائيلية ناجمة أيضاً عن الإخفاق في إقامة دولة يهودية خالصة، إذ ظلت إسرائيل بمثابة دولة "ثنائية القومية" (مع وجود الفلسطينيين) والأنكى إنها لم تحافظ على كونها دولة ديموقراطية سليمة، بتمييزها ضد الفلسطينيين بسبب الدين.

والمفارقة، أيضاً، أن تديين الصهيونية، بدل علمنتها، لم يؤثّر فقط في مفاقمة التمييز ضد الفلسطينيين وإنما أثّر أيضاً في التضييق على اليهود العلمانيين أنفسهم الذين باتوا يرون أنفسهم في دولة تبدو أكثر فأكثر دولة دينية أخرى.

هذا كله عزّز النقاش بين قطاعات من النخب الإسرائيلية بشأن جدوى إقامة دولة خاصة لليهود، فهذه الأوساط، بحسب توم سيغف، باتت "مع اقتراب يوم الاستقلال الرابع والستين حائرة وتتساءل...هل إسرائيل مجرد خيار واحد من خيارات كثيرة، أم أن مكان شعب إسرائيل في أرضه؟...هل النتاج الاقتصادي، التنظيمي، العلمي، الفني والسياسي الذي أنشأته خلال جيلين أو ثلاثة، على أرض أميركا جالية يهودية مهاجرة...يقلّ حقاً...عن ذلك الذي أنتج في إسرائيل بمساعدة اقتصادية وسياسية حيوية من أبناء تلك الجالية؟". ويحوم فوق هذا النقاش السؤال: هل نبقى أم نرحل؟" ("هآرتس" 27/4).

المسألة الثانية وهي الفلسطينية تبدو متشعّبة وتتعلّق بالفلسطينيين الذين تشبّثوا في أراضيهم عند قيام إسرائيل (1948)، وباتوا يشكلون اليوم 24 بالمئة من مواطنيها، فقد شكّل هؤلاء عامل كبح لإمكان تحوّل إسرائيل إلى دولة يهودية خاصة، كما أن نضالهم ضد التمييز ضدهم كشف حدود الديموقراطية الإسرائيلية وطابعها العنصري.وثمة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة (1967) الذين يعيشون في ظل الاحتلال الإسرائيلي، والذين تثير مقاومتهم تعاطف العالم، وتعرض إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية.وفوق هذين ثمة قضية الفلسطينيين اللاجئين حيث تشكّل قضية حقّ العودة عقبة رئيسة في إمكان تطبيع إسرائيل وجودها في المنطقة، أو بشأن إمكان عقد تسوية تختزل قضية فلسطين في الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ عام 1967، وتستبعد قضية اللاجئين الذين تشكل روايتهم، وقضيتهم، أساس الهوية والوطنية الفلسطينية المعاصرة.

عدا ذلك فإن المسألة الفلسطينية تخصّ البلدان العربية المستقبلة للاجئين، وهي بلدان لا يمكن أن تطبّع أو ترسّم تسوية مع إسرائيل، بدون تسوية وضع اللاجئين.

أما المسألة الثالثة الناجمة عن إسرائيل فتتعلق بإدراكات العرب للغرب، ذلك أن وجود إسرائيل بات يشكّل عبئاً سياسياً وأخلاقياً (عدا عن كونه عبئاً أمنياً واقتصادياً) على الدول الغربية، إذ لا يمكن النظر إلى الدول الغربية، من منظور معظم مواطني البلدان العربية، من دون أخذ الدعم الذي محضته هذه الدول لإسرائيل في الاعتبار، وهو أمر يثقل على تخليق علاقات سوية، أو سليمة، بين العرب والغرب بما في ذلك تشكيل إدراكات أكثر موضوعية عن الغرب يحتاجها العرب للمصالحة مع ذاتهم ومحيطهم وعصرهم.

ماجد كيالي

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية