الأربعاء، ديسمبر 26، 2012

حزب الله وحركة أمل ... التنافس فالتنافر

يشملُ الجانب الخفي في حزب الله أشكال وآليات ووسائل التربية الدينية، كما يشملُ التنظيم الأمني والعسكري؛ فإنّ التأريخَ لشقَّيه هذين غير ممكن إلاّ إذا قام بذلك بعضُ مَنْ كانوا في الحزب منذ البداية وحتى أواسط التسعينيات من القرن الماضي على الأقلّ. والمادةُ الموجودةُ أو المعلَنةُ في الثمانينيات، تشملُ تصريحاتٍ وخُطَباً متناثرةً للأمينين العامَّين الأولين، ويغلب عليها الجانب السياسي، والتحشيد والتحريض على العدو الصهيوني، وعلى عملائه بالداخل، وهي لا تكاد تذكر شيئاً عن التنظيم الداخلي للحزب، باستثناء ما عُرف فيما بعد عن مجلس شورى الحزب، ومكتبه السياسي، وفيما بعد أيضاً عن اللجان القِطاعية والتنظيمات الفرعية المختلفة، والتي لا شكَّ أنها نشأت بالتدريج.

فالمعروف أنّ التنافُس ثم التنافر بين الحزب وحركة "أمل" ظهر منذ سنتي النشأة (1983، 1984). وذلك لأنّ البيئة واحدة وهي الطائفة الشيعية بلبنان، كما أنّ بعض الحزبيين الأوائل انشقّوا عن حركة "أمل"، فضلاً عن التوسع في سائر المناطق على حساب الحركة. وما تزال الاختلافات والتجاذُبات موجودةً بين الطرفين، بيد أنها تضاءلت كثيراً في السنوات العشر الأخيرة، لاستيلاء الحزب الجارف على الغالبية العظمى من ألباب الطائفة ومصالحها. وما يزال كثيرون يذكرون الاشتباكات المسلَّحة العنيفة بين الطرفين في الضاحية والجنوب في النصف الثاني من الثمانينيات، وفي غياب السوريين عن بيروت (1982-1987) وبعد عودتهم إليها، وغلبتهم المطلقة على الملفّ اللبناني على أثر اتفاق الطائف (1990-2005).

ومع أنّ الحزب ما ظهر في غفلةٍ عن سورية؛ إذ يبدو أنَّ خلاياه الأولى وتدريباته على أيدي الحرس الثوري كانت تجري بمنطقة البقاع (بعلبك وجوارها) الواقعة تحت السيطرة السورية؛ فإنّ السوريين لم يقدّروا –على ما يظهر- أنّ الحزب ستكون له هذه السطوة، وبخاصةٍ أنهم وقفوا دائماً مع حركة أمل، التي صارت ربيبتهم منذ دخلوا إلى لبنان العام 1976. وقد اختلف الحزب معهم ومع حركة أمل في حرب المخيمات ببيروت (1984-1986)، والتي خاضتها الحركةُ ضد مخيَّمي صبرا وشاتيلا، بحجة إخراج "العرفاتيين" منهما. وعندما دخلوا إلى بيروت ثانيةً أوائل العام 1988 سارعوا للاشتباك بمركزٍ للحزب في ثكنة فتح الله (محلة البسطا الفوقا) عندما كانوا يحاولون إزالة المظاهر المسلَّحة من قلب بيروت.

والواضحُ أنه في ما بين العامين 1988 و1990 انعقدت الترتيبات الاستراتيجية بين الرئيس حافظ الأسد والجمهورية الإسلامية، والتي جرى بمقتضاها "تقسيم العمل" بين الحزب والحركة على الساحة اللبنانية: الحركة لتولّي حصة الشيعة في النظام اللبناني، والحزب لكي يتولّى بمفرده مقاتلة إسرائيل.

يرى بعضُ الدارسين أن الحزب بسبب الطبيعة الدينية لولاية الفقيه، لا يستطيع إقرار دولة الكيان اللبناني بصيغتها الحالية. لكنّ هذا التناقُضَ –وإن برز داخل الطائفة الشيعية بين الحزب والحركة- لم يدخل في وعي الكيانيين اللبنانيين المعتدلين، ومنهم الرئيس رفيق الحريري. فقد رأى هذا الفريق أنّ التجربة الازدواجية نجحت في التسعينيات في ظل الوصاية السورية: دولة الحريري للإعمار والنمو وإدارة الشأن العامّ، ودولة حزب الله لمقاومة العدوّ الصهيوني. لكنّ تجربة الحزب على الساحة اللبنانية وفي التعامل مع النظام وطوائفه وأعرافه شهدت في الحقيقة أربع مراحل:

فليس هناك تجمعٌ شيعيٌّ في العالم العربي، أو الإسلامي إلاّ ونشأ فيه تنظيمٌ مُوالٍ للثورة الإسلامية، إمّا بوحي النموذج أو بالاتصال المباشر. والعراق ولبنان نموذجان بارزان لتنظيمات التواصُل أو الدفع المباشر. فقد سيطرت إيران على تنظيمات المعارضة الشيعية للنظام بالعراق بعد أن ألجأتْها لديها، وهي التي سمحتْ لها بالانضمام إلى جحافل الغزو الأميركي للعراق، ثم إنها هي التي تُسيطر معها فيه منذ العام 2003، وبالاشتراك مع الولايات المتحدة في البداية، وبالاشتباك معها منذ العام 2006.

لا شكَّ أنّ إيران أنفقت من الجهود السياسية والمادية في الحزب وعليه، ما لم تنفق مثله إلاّ بالداخل الإيراني وربما بالعراق. ولا ينبغي أن ننسى أنّ الجاذبية الإيرانية اليومَ، والتي تتعدى حدودَ الأقليات الشيعية في عالم العروبة والإسلام، مردُّها بالدرجة الأولى إلى حزب الله وتجربته في المقاومة وفي التنظيم والانضباط والتماسُك. ومن أجل هذا كلِّه؛ فإنّ تجربة حزب الله، ستؤثر إلى حدٍ بعيدٍ في مصائر الإشعاع الثوري الإيراني، وعلائق ذلك بالشيعة في العالم من جهة، وبالمصالح الوطنية والاستراتيجية الإيرانية من جهةٍ ثانية، وعلاقات إيران أخيراً بمنطقة الشرق الأوسط والخليج، والوجود الأميركي فيها. أما نحن العرب فإنها ستؤثر على التماسك الوطني في العديد من بلداننا. 

لذا تختلف الآراءُ في المدى أو المَدَيات التي يمكن أن يبلُغَها الحزب في تحديه للكيان اللبناني، وفي إمكانيات تلاؤمه معه أو عدم تلاؤمه. ولستُ أرى أنّ هناك أسباباً دينيةً أو مذهبيةً تحولُ دون تلاؤم الشيعة مع الكيانات التي يعيشون فيها خارج إيران، كما يقول عددٌ من الدارسين. فقد عاشوا فيها لقرون، وكانت لهم وما تزال خصوصياتهم وتقاليدهم الخاصة، شأنهم في ذلك شأن سائر فِرَق وديانات الأقلية والأكثرية. فالسنيون يشكّلون أكثرياتٍ ساحقةً في أكثر بلدان آسيا وإفريقية. ومع ذلك فإنَّ الأزمنة الحديثة شهدت انشقاقاتٍ عميقةً في صفوفهم ما تزال تفعلُ مفاعيلَها في مجتمعاتهم ودُوَلهم إلى اليوم، وستبقى مشكلةً كبرى غداً وبعد غد.

على أنّ هناك مَنْ لا ينظر إلى السبب الديني أو المذهبي، بل إلى الوضع الخاصّ لحزب الله، فقد نجح في مقاتلة إسرائيل، ونجح في توحيد الطائفة الشيعية اللبنانية من حوله، ولذلك فإنّ عنده فائضاً من الثقة أو من "القوة" ، لا يعرفُ تماماً كيف يتصرف فيه. هذا الوضع الثائر، تزيده غُلَواءً الحاجةُ إليه من إيران ومن سورية. وبحسب وجهة النظر هذه فقد عرفت طوائفُ لبنانيةٌ أُخرى هذا الإحساس من قبل وخاضت في أمواجه، وكانت النتيجة الهلاك أو التضاؤل والخضوع لشروط الكيان بعد طوال ثوران مثل الطائفتين المارونية والسنية.

1 comments:

Old Mourabit يقول...

السوريون، في ما مضى، لم يقدّروا أنّ للحزب كلَ هذه السطوة، وبخاصةٍ أنهم وقفوا مع حركة أمل، ربيبتهم منذ دخلوا لبنان السنة 1976.

خلاصة من بحث رضوان السَّيد 'حزب الله: الإيديولوجيا والتجربة والرهانات'، ضمن الكتاب 15 (مارس 2008) 'حزب الله' الصادر عن مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية