الأربعاء، يوليو 11، 2018

ما الذي جعل ساعة أيلي كوهين مهمة لإسرائيل؟

صاحبها هو الآن كومة عظام نهشها الدود في مكان مجهول تحت الأرض. وليس هناك ولو ربع احتمال على أن بتلك الساعة رموزا أو شيفرات سرية قد تحتوي على معلومات أو أسرار يمكن أن تخدم إسرائيل أو تفيدها في شيء. ولا دليل أيضا على أنها قد تصنف ضمن القطع الثمينة، أو التحف النفيسة التي قد تعرض في المزادات بأرقام فلكية.

فما الذي جعلها إذن بين ليلة وضحاها، وبعد أكثر من نصف قرن من مواراة صاحبها الثرى تحتل مكانة تضاهي أو تفوق مكانة ساعة جيمس بوند الشهيرة؟ وعلى افتراض أن ساعة جيمس بوند بقيت مهمة بعد غيابه، فهل كان من الأهمية بمكان أن يبذل الإسرائيليون الغالي والنفيس، ويخصصوا قسما كبيرا من وقتهم ومالهم، مثلما ذكرت مصادرهم لأجل استعادة ساعة جاسوسهم أيلي كوهين بأي ثمن وطريقة كانت؟

ما الذي دفعهم ليغامروا حتى يقتنصوا بالأخير ساعة يد لا تقدم ولا تؤخر؟ والأهم من ذلك، لماذا طغت نبرة الزهو والانتصار بشكل صارخ على إعلانهم الخميس الماضي الفوز بها، وكأن الأمر لا يتعلق بغرض شخصي بحت يخص عميلا أعدم قبل خمسين عاما، بقدر ما يعني التوصل لتحقيق إنجاز عسكري واستخباراتي، قد تكون له تداعياته في المستقبل؟ هل كان الإسرائيليون حريصين على التسويق الإعلامي لخبر استعادة ساعة إيلي كوهين بتلك الطريقة الاستعراضية المعتمدة، أكثر مما كانوا مصممين بالفعل على استعادتها؟ وهل قصدوا من وراء تلك المبالغة اللفظية توجيه أكثر من رسالة لأكثر من طرف محلي أو إقليمي في الوقت نفسه؟ لقد ظل الأمر على أي حال في العواصم العربية سيان، ولم تثر ساعة الجاسوس الإسرائيلي الأشهر عربيا، أدنى اهتمام رسمي أو شعبي، وسط كم المشاكل والأزمات التي تطوقها من كل جانب.

ولعل ذلك التمهل في الرد على ما تعلنه أو تقرره أو تنفذه إسرائيل مهما عظم أو صغر شأنه، صار عادة عربية رسخت بمرور الوقت، وتحولت إلى ما يشبه التقليد الثابت الذي لا يكسر.

فمن الصعب إن لم يكن من المستحيل أن يظهر أي تعليق في تلك العواصم حول أي مسألة على علاقة من قريب أو بعيد بإسرائيل، من دون أن يستغرق الوقت الضروري الذي يجرب فيه خبراء لغة الإشارة كل مهاراتهم وبراعاتهم في أن يخرجوا في الأخير ببيان مبهم وفضفاض يكون مفتوحا على كل التأويلات والقراءات الممكنة. لكن الخبر الذي أعلنه الموساد الإسرائيلي الخميس الماضي حول تمكنه من خلال «عملية خاصة» استعادة ساعة اليد التي ارتداها الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، الذي أعدم في سوريا منتصف الستينيات، كان على ما يبدو خارج نطاق تغطيتهم تماما، وأدنى بنظر المتحدثين الرسميين وغير الرسميين من أن يستحق عناء التقليب عن اليمين وعن الشمال، واجتراح عملية قيصرية صعبة، للخروج بتعليق أو توضيح أو تعقيب حوله، بل لعله بنظر البعض منهم كان أشبه بالمزحة الصيفية الثقيلة، التي جعلتهم يقولون بينهم وبين أنفسهم إن شر البلية ما يضحك، ويتساءلون بشيء من السخرية والتهكم عما يجعل هؤلاء الإسرائيليين يبذلون كل تلك الطاقة الخلاقة لاستغبائهم، حتى بواسطة ساعة يد قديمة لا تساوي أرخص الساعات السويسرية التي يملكون.

وربما زادوا على ذلك وقالوا إن كنا قد فقدنا الأكبر والأغلى والأهم، هل سيضيرنا أن نفقد الآن الأدنى والأصغر والأقل أهمية؟ وهل سيهم الشاة سلخها بعد ذبحها؟ ولكن ألا يكمن الشيطان دائما وأبدا في التفاصيل البسيطة والصغيرة؟ وهل من الضروري دائما أن تكون كل الخسائر والهزائم العربية الكبرى مبررا أبديا لليأس والقنوط وللتقصير في الاهتمام بما يبدو بالمقارنة بها مسائل أقل تأثيرا وأهمية؟

إن واحدة من نقاط قوة الإسرائيليين هي في الاستثمار الإعلامي والنفسي الجيد لبعض الوقائع والأحداث المهمة، وغير المهمة، والحقيقية والمختلقة، وتضخيمها بشكل يخدم فقط خططهم وأهدافهم، ويحول الأنظار ولو جزئيا عن جرائمهم وانتهاكاتهم وخروقاتهم المستمرة منذ أكثر من سبعين عاما لكل المواثيق والقوانين الإنسانية. ومن الصعب إن لم يكن من المستحيل عليهم هنا أن يغلقوا ملفا إلا بعد أن يستنفدوا منه وللآخر أقصى ما يمكنهم من معلومات وتفاصيل، قد تكون أوراقا للضغط والمساومة والمناورة وقت اللزوم. إنهم ينفثون أرواحا اصطناعية في تلك الملفات القديمة تجعلها تستعيد حياتها وتظهر فقط بشكل مفاجئ عند الحاجة. وربما كان ملف الجاسوس كوهين واحدا منها، لكن ما الغاية من إخراجه الآن بالذات؟ وما المصلحة في ذلك وهل أن اختراع قصة الساعة يؤشر إلى شيء ما؟

ليس من باب الرجم بالغيب أن نتوقع أن تكون المسألة أعمق مما تبدو عليه في الظاهر. فأي سبب جعل الاختيار يقع على الساعة، في الوقت الذي كانت فيه هناك على الأقل فرضية أخرى، وهي أن يحصلوا مثلا أو حتى يخرجوا بقصة وهمية حول تمكنهم من الحصول على رفات أيلي كوهين نفسه، الذي ظلوا يطالبون به منذ إعدامه منتصف الستينيات في دمشق؟ ألم تكن الظروف في سوريا وعلى مدى السنوات السبع الأخيرة مناسبة جدا لهم حتى يحققوا واحدا من أهدافهم المعلنة في استعادة الرفات وتكريم العميل، الذي خلدوا اسمه في أكثر من شارع وميدان؟ فهل عجزوا حقا عن ذلك؟ أم انهم لم يكونوا راغبين أصلا في التوصل لتحقيقه حتى لا يغلق الملف بالشكل الذي لا يخدم أهدافهم؟ لعل ما قاله شاموئيل زئيف، وهو عميل سابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، ومؤلف كتاب «وحيدا في دمشق» حول سيرة الجاسوس الإسرائيلي، من أن «القصة الكاملة عن أيلي كوهين لم تكتب بعد، وستكتب فقط بعد أن يعقد السلام مع سوريا». يؤكد أن كل ما يتعلق بالجاسوس الإسرائيلي من قريب أو بعيد لا يرتبط بالماضي فحسب، بل بالمستقبل أيضا.

وقد يكون التضارب المعتمد في التصريحات الإسرائيلية حول ساعة إيلي كوهين، بين ادعاء الموساد بان الحصول عليها هو ثمرة «عملية خاصة»، وحديث أرملة الجاسوس عن صفقة تم بموجبها شراء الساعة في م وهو ما ينسجم مع التحضيرات الواسعة التي تجري الآن لتحويل باقي الملفات الوطنية والإنسانية الحقيقية، التي تخص الضحايا الفعليين، أي الفلسطينيين، بالدرجة الأولى إلى مزادات وصفقات قرن تفرض فيها تسويات اكثر سوءا وكارثية. إن ساعة إيلي كوهين قد تشير هنا أيضا إلى قرب نهاية الوقت الضائع في سوريا، والاستعداد لزمن التفاوض والصفقات المباشرة بين تل أبيب ودمشق، لا حول ملف كوهين فقط، بل حول ملفات الشرق الأوسط الكبير أيضا. أما لماذا ترسل إسرائيل إشاراتها تلك بمثل ذلك الأسلوب الملتوي والغامض؟ ربما علينا أن نسأل جيمس بوند.زاد، دليل على أن هناك رغبة في الربط المتعمد بين ملف ظاهره إنساني بحت، يتعلق برفات الجاسوس، وملف سياسي بالأساس سمته المزادات والصفاقات الإقليمية والدولية.

القدس العربي

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية