الأحد، يوليو 22، 2018

لماذا بكى القادة الفلسطينيون عبد الناصر؟


ربما لأنهم أحبوه كثيرا.. ربما لأنهم ظلموه كثيرا.. ربما لأنهم شعروا باليتم بعد وفاته المفاجئة.. ربما لأنهم اختلفوا معه بحدة واتفقوا معه برضى وقناعة.. ربما لكل ذلك بكى قادة الشعب الفلسطيني على اختلاف فصائلهم ومواقعهم عبد الناصر، كالأبناء الذين تركهم والدهم فجأة أيتاما ورحل الى العالم الآخر، وهو يبذل جهده في حمايتهم من نهش الذئاب في أجسادهم الطرية، صافحا لهم ظلمهم وتنكرهم له وتهجمهم الظالم عليه، في أعقاب موافقته التكتيكية على مبادرة روجرز صيف 1970 ( وزير خارجية الولايات المتحدة حينها) وذلك كي يتمكن من بناء جدار الصواريخ الممانع للطائرات الاسرائيلية، ومواصلة اعداد الجيش المصري لتحرير الأرض العربية المحتلة. وما تمكنوا من فهمه ومجاراته في التكتيك، ورغم ذلك اعتبر معارضة الجانب الفلسطيني لمبادرة روجرز شرعية، وأبدى تفهمها له حيث أبلغ أحد معاونيه حرفيا ” أنا لا أعترض على المقاومة الفلسطينية أن تهاجم المبادأة لأن ذلك حقها.”(1) لكن هجوم الاعلام الفلسطيني طال عبد الناصر شخصيا وليس المبادرة فقط مما دعاه لاغلاق محطة فلسطين من القاهرة، لكنه ورغم كل الاساءات الشخصية أعاد فتحها بعد الهجوم عليهم في الأردن، وترك فترة النقاهة الشخصية ليقوم بواجبه بانقاذ الشعب الفلسطيني من حمام الدم.
لقد ارتبط اسم عبد الناصر بفلسطين قبل أن يقوم بثورته التاريخية على رأس تنظيم “الضباط الأحرار”، في ثورة 23 يوليو 1952، وذلك منذ أن شارك في حرب فلسطين وتم حصاره وفرقته العسكرية في الفالوجا بالقرب من اللد، ورفض الاستسلام لعصابات المنظمات الصهيونية واستطاع أن يعود الى مصر بعد تفاوض الند للند. وفي تلك الحرب اكتشف عبد الناصر وزملاؤه فضيحة الأسلحة الفاسدة وبدأ التفكير في القيام بحركة تمحو العار وتقيم نظاما وطنيا. وبعد نجاح الثورة رفع عبد الناصر القضية الفلسطينية الى المحافل الدولية واعتبرها قضية العرب الأولى وفي العام 1955 قال بأن الحديث عن “سياستنا الخارجية لا يكتمل إلا إذا تحدثنا عن فلسطين.” واستمر طيلة حياته يحمل تلك القضية وهو الذي قال فيها ” ان حقوق شعب فلسطين حقوق عربية قبل ان تكون فلسطينية واننا نشعر أن واجبنا الرئيسي وواجبنا المقدس هو أن نستعيد حقوق شعب فلسطين.”
في أيلول 1970 انفجر الخلاف بين الملك حسين والفصائل الفلسطينية في الأردن، وانزلق الى القتال المسلح وارتكبت المجازر بحق الفلسطينيين. في هذا الوقت كان عبد الناصر يخضع لفترة نقاهة نظرا لتراجع حالته الصحية، واصرار الأطباء لأن يبتعد قليلا عن المسؤوليات ويأخذ قسطا من الراحة. لكن كيف يخلد للراحة وهو المسكون بهواجس وقضايا أمته، وما أن علم بخبر المجازر ورغم الهجوم الاعلامي والسياسي الذي تعرض له من جميع الفصائل الفلسطينية لقبوله مبادرة روجرز، الا أنه عاد مسرعا الى القاهرة في سباق مع الزمن لايقاف نزيف الدم العربي في الأردن، وبدأ اتصالاته المكثفة ونجح بعقد مؤتمر قمة سريع، حضره الزعماء العرب ونجح في احضار ياسر عرفات الى القاهرة متنكرا، وتوصل فيه الى اتفاق لوقف اطلاق النار بين الطرفين وبحضور الملك الأردني والقائد الفلسطيني، وبعد هذا النجاح ونتيجة للارهاق الكبير الذي تعرض له نتيجة الجهود الكبيرة والمضنية التي قام بها، أصيب بنوبة قلبية قاتلة وضعت حدا لحياته مساء 28 أيلول 1970، وكان خبر وفاته بمثابة ضربة صاعقة أصابت الفلسطينيين وقادتهم الذين خرجوا يبكونه في كل بلدة ومخيم.
عبد الناصر شهيد الثورة الفلسطينية
يشهد القادة الفلسطينيون على وقع خبر وفاة عبد الناصر عليهم، فيروي صلاح خلف ( أبو اياد)، الرجل الثاني في حركة فتح، في كتابه ” فلسطيني بلا هوية” (ص 149) أنه تلقى الخبر بينما كان مع زميله فاروق القدومي في القاهرة في اليوم التالي لتوقيع الاتفاق مع الملك حسين، واذا بالاذاعة المصرية توقف البث وتقدم آيات من الذكر الحكيم وبدأ الهمس الى أن أكد لهما بعض الصحفيين بأن عبد الناصر مات وهو الذي قبل ساعات أنقذهم من الموت، فقام أبو اياد بتحرير برقية تعزية باسم حركة فتح ” وجاء في الرسالة ما فحواه، ان عبد الناصر الذي يجسد تطلعات وأحلام الأمة العربية كلها، سقط في ساحة الشرف، وستظل أفكاره محفورة في ذاكرة الأجيال المقبلة من الشعب الفلسطيني الذي أعاد اليه كما أعاد لكافة الشعوب العربية الأخرى، الكرامة والأمل..”
ويروي أبو اياد أن ياسر عرفات وخليل الوزير ومحمود عباس علموا بالخبر بينما كانوا في دمشق، ويقول أنهم انفجروا بالبكاء فور سماعهم بالخبر، ويشهد أنه لما التقى أبو عمار في القاهرة الذي حضر للمشاركة في جنازة الزعيم رأى “الدموع لا تزال تنهمر من عيني أبي عمار”.
ويذكر جورج حبش، أمين عام الجبهة الشعبية أنه كان في بيروت ” وجاءت وفاة الرئيس عبد الناصر خلال أسابيع الانتظار الثلاثة التي أمضيناها في بيروت قبل عودتنا سرا الى الأردن. وأتذكر جميع التظاهرات العفوية التي خرجت عند اعلان نبأ وفاته في الاذاعات. لقد نزل الملايين الى الشوارع ليبكوا فقدان ذلك القائد الكبير. بكيت بكاء مريرا وأنا اسمع الهتافات التي كانت تطلقها الجماهير، وتذكرت عندها لقاءاتي مع ذلك القائد التاريخي الكبير والشجاع الذي سجل له التاريخ كونه قد مثّل مرحلة أساسية من مراحل انبعاث الأمة العربية.” (2)
ويقول نايف حواتمة، أمين عام الجبهة الديمقراطية، عن خبر وفاة عبد الناصر عندما وصله وهو في مخيم الوحدات في عمان، مع كمال عدوان ويوسف القطناني وخليل الوزير ( حبش ذكر ان ابا جهاد كان في دمشق!) ” جاءنا نبأ رحيل عبد الناصر ليلا، الظلام الدامس يلفنا، فلا كهرباء ولا ماء..وعلى هدى قنديل الكاز كتبت نعي عبد الناصر للشعب الفلسطيني وأحرار العالم وغلبت عليه النزعة العاطفية.”(3)
ولم يكن غريبا أن يطلق قادة الشعب الفلسطيني على عبد الناصر، لقب ” شهيد الثورة الفلسطينية” وهو الذي قال عنها أنها ولدت لتبقى.. واليوم يعيش العرب وليس الفلسطينيون فقط حالة من اليتم، حيث لا يجدون الأب والقائد المسؤول الذي يوقف شلالات الدم العربية العبثية.

1-  وردت في كتاب “من محاضر اجتماعات عبد الناصر العربية والدولية 1967-1970” لعبد المجيد فريد (ص 227) وفي كتاب “عبد الناصر وقضية فلسطين” فيصل حوراني (ص 39).
2- جورج حبش، “الثوريون لا يموتون أبدا”، حاوره: جورج مالبرينو، دار الساقي، بيروت، ص 99-100
3- نايف حواتمة يتحدث..دار الجليل، عمان، ص 102
زياد شليوط
كاتب من فلسطين
عن موقع صوت العروبة

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية