توجت المصالحة الاثيوبية – الاريترية بزيارة قام بها لاسمرة رئيس الوزراء الاثيوبي الجديد ابي احمد حيث كان في استقباله الرئيس اسياس افورقي، الرجل الذي لم تعرف اريتريا زعيما غيره منذ استقلت في العام 1993.
كان لا بدّ من الدور الذي لعبه الشيخ محمد بن زايد وليّ عهد أبو ظبي كي تقتنع اثيوبيا واريتريا بان مصلحتهما المشتركة تكمن في مصالحة وعلاقات طبيعية في ظلّ التكامل الالزامي الذي فرضته الجغرافيا على البلدين.
جاءت المصالحة بعد سنوات طويلة من القطيعة والجفاء تخللتها حرب عبثية بين العامين 1998 و2000 سقط فيها ثمانون الف قتيل في اقلّ تقدير. لا تزال أسباب تلك الحرب مجهولة الى يومنا هذا، خصوصا انّه كان مفترضا ان يكون اسياس افورقي وملس زيناوي، رئيس الوزراء الاثيوبي وقتذاك، حليفين حقيقيين في ضوء العلاقة الشخصية، وحتّى علاقات القربى، القائمة بينهما. كانا رفاق سلاح منذ ثمانينات القرن الماضي، أي قبل ان تستقل اريتريا وقبل ان يسقط الديكتاتور الاثيوبي منغيستو هايلي مريم. كانت والدة زيناوي اريترية وهو ينتمي الى القومية نفسها التي ينتمي اليها افورقي (القومية التيغرية). كانا في خندق واحد خلال حكم منغيستو الذي ادْى سقوطه في 1991 الى استقلال اريتريا في وقت لاحق. سارت كلّ الامور بين افورقي وزيناوي استنادا الى الاتفاقات والتفاهمات القائمة بينهما عندما كانا زعيمين لتنظيمين ثوريين يخوضان الكفاح المسلّح.
كان افورقي زعيما لـ"الجبهة الشعبية لتحرير اريتريا" وزيناوي زعيما لـ"الجبهة الشعبية لتحرير التيغري". من بين هذه الاتفاقات والتفاهمات بين الرجلين إعطاء الاريتريين حق تقرير المصير في مرحلة ما بعد خروج منغيستو من اديس ابابا. هذا ما حصل بالفعل. استقلت اريتريا، لكنّ الصديقين ما لبثا ان تحوّلا الى عدوّين لدودين، كلّ منهما للآخر، في غياب العدو المشترك، كما لو ان العداء لمنغيستو كان الامر الوحيد الذي يجمع بينهما!
عانت المنطقة طويلا من التوتر الذي تسبب به العداء المستجد بين افورقي وزيناوي. لم يتعلّم أي منهما من تجارب الآخرين ومما يدور في العالم، خصوصا من تجربة المانيا وفرنسا وكيف ان الحروب لا تجلب سوى المصائب وان التعاون بين الشعوب الجارة اهمّ بكثير من الحدود بين الدول. لو بقيت المانيا تطالب بمقاطعتي الزاس ولورين اللتين كانتا داخل حدودها التاريخية، لما كانت تشكل اليوم مع فرنسا العمود الفقري للاتحاد الاوروبي.
المهمّ الآن ان ثمّة وعيا لدى الرئيس الاريتري ورئيس الوزراء الاثيوبي، وهو اول رئيس وزراء مسلم في بلده، بانّ هناك حاجة الى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين اسمرة واديس ابابا بعيدا عن الحساسيات. ليس معقولا ان يكون بلد مثل اثيوبيا غير قادر على استخدام الموانئ الاريترية وليس طبيعيا ان تكون اريتريا في عداء مع اثيويبا وان تبقى مستنفرة عسكريا خوفا من هجوم يمكن ان تتعرض له من البلد الذي كانت في الماضي جزءا لا يتجزّأ منه. هناك مجال للتعاون والتكامل بين بلدين وشعبين هما في واقع الحال شعبا واحدا، بل شعوب واحدة.
ليس القضاء على التناحر بين اثيوبيا واريتريا مسألة مرتبطة فقط بضرورة توقف استنزاف كلّ منهما للآخر. هناك ما هو ابعد من ذلك بكثير. ستتحرر اثيوبيا من اضطرارها الى ان تكون تحت رحمة ميناء جيبوتي وستستفيد اريتريا من عودة الحياة الى مينائي عصب ومصوّع اللذين يعتبران بين اهم الموانئ على البحر الأحمر.
فوق ذلك كلّه، يمكن لاثيوبيا واريتريا لعب دور في استعادة الصومال عافيته بعد قرابة أربعة عقود على انهيار الدولة هناك. ما لا يمكن تجاهله ان اثيوبيا اضطرت في مرحلة معيّنة، في ايّام ملس زيناوي، الى التدخل في الصومال لمنع تمدد الحركات المتطرفة في هذا البلد.
ليس مستبعدا ان تشكّل المصالحة الاثيوبية – الاريترية حجر الزاوية لنظام امني شامل في المنطقة الممتدة من بحر العرب الى قناة السويس. لعبت اثيوبيا في الماضي القريب دورا كبيرا على الصعيد الإقليمي وذلك في عهد الامبراطور هيلاسيلاسي وبعد الانقلاب عليه في العام 1974 وصولا الى تحولها جرما يدور في الفلك السوفياتي. ليس سرّا ان اثيوبيا كانت تؤثر دائما في اليمن. ارتبطت في مرحلة معينة بعلاقات اكثر من متميّزة مع اليمن الجنوبي، خصوصا في عهد علي ناصر محمّد بين 1980 و1986. كان هناك نوع من وحدة الحال بين اديس ابابا وعدن في ظلّ رعاية سوفياتية لشبكة من القواعد العسكرية أقيمت في المنطقة. إضافة الى ذلك، ليس سرّا ان اريتريا استُخدمت في العام 1995 في عملية استهدفت خلق ازمة لعلي عبدالله صالح في مرحلة ما بعد انتصاره في حرب الانفصال صيف العام 1994. هناك ما جعل اريتريا تقدم وقتذاك على مغامرة احتلال جزيرة حنيش اليمنية وجزر يمنية أخرى في البحر الأحمر لاسباب ما زالت اسرارا لدى أسياس افورقي.
في كلّ الأحوال، يظل السؤال المطروح كيف البناء على المصالحة الاثيوبية – الاريترية التي تبقى اكبر بكثير من مصالحة متى وضعت في اطارها الإقليمي الواسع، خصوصا في ضوء التحولات التي يشهدها اليمن حيث تدور معركة مصيرية محورها ميناء الحديدة الذي تصرّ ايران على بقائه تحت سيطرتها عبر الحوثيين. الأكيد انّ ما حصل بين اسياس افورقي وابي احمد، بدءا بإعادة فتح سفارة اريتريا في اديس ابابا وسفارة اثيوبيا في اسمرة يبشّر بالخير. يمكن ان يشير ذلك الى دخول قيادتي البلدين، اللذين كانا في الامس القريب بلدا واحدا، مرحلة النضج السياسي.
اذا كانت الحساسيات ذات الطابع الشخصي أوصلت اسياس افورقي وملس زيناوي، الذي توفّى في العام 2012، الى حرب طاحنة ثم الى قطيعة بين البلدين، فان المصالحة بين الرئيس الاريتري ورئيس الوزراء الاثيوبي الجديد يمكن ان تؤسس لمرحلة جديدة. في أساس هذه المرحلة الدور المحوري لاثيوبيا واريتريا في النظام الأمني الذي يحمي خطوط الملاحة في المنطقة كلّها، من خليج عُمان الى البحر الأحمر. سيعتمد الكثير على مدى التفاهم الذي سيتكرّس بين زعيمي بلدين في حاجة الى خوض حرب مشتركة على الفقر ومن اجل المحافظة على الاستقرار الإقليمي وحمايته ومكافحة الإرهاب وصولا الى إقامة علاقة ذات طابع إيجابي مع السودان ومصر اللذين يتشاركان مع اثيوبيا في مياه النيل.
ليست قمة اسمرة حدثا عاديا بأيّ شكل، خصوصا اذا وضعت في اطارها الإقليمي امنيا واقتصاديا وسياسيا في الوقت ذاته في وقت اصبح فيه البحر الأحمر منطقة واعدة خصوصا مع بدء العمل بمشروع "نيوم" في سياق "رؤية – 2030" للامير محمد بن سلمان وليّ العهد في المملكة العربية السعودية.
0 comments:
إرسال تعليق