السبت، يوليو 21، 2018

«هنرددها جيل ورا جيل.. بنعاديكِ يا إسرائيل»

التاريخ منجم دروس وعظات، والذي لا يفهم ماضيه، ويستخلص دروسه، يكتب عليه أن يعيش في خطاياه إلى الأبد، والفارق عظيم جدا، بين أن نغرق في الماضي، ونتوه في دروبه ووقائعه وخططه ومؤامراته، أو أن نفهمه، ونجعله وسيلة محفزة لاسترداد المستقبل. 
وقد كان تاريخ المنطقة الحديث، في وجه من وجوهه، صراعا خفيا وظاهرا، بين أن تنهض مصر، أو أن تقوم إسرائيل، لمنع توحيد العرب وإضعاف مصر. 

وقد لا تكون من حاجة إلى قراءة التاريخ مفصلا من جديد، فقد ظهرت فكرة الدولة اليهودية في فلسطين ضمن وثائق حملة نابليون الفرنسية، وكانت هزيمة الحملة واندحارها عن مصر، ما سمح بالنهوض المنسوب لدولة محمد علي، وتكوين جيش مصر الحديث الأول، بقيادة إبراهيم باشا «ساري عسكرعربستان»، أي «أمير عام الجيوش العربية».

فقد كان جيش مصر هو جيش العرب وجيش الصحوة الحديثة، والالتفات القوي إلى وجود الأمة العربية، والرغبة في توحيدها بالصناعة والتطور والعلم الحديث، وهو ما شكل وقتها خطرا داهما على أوروبا الاستعمارية والدولة العثمانية المريضة، وانتهى لاجتماع الكل على ردع الجيش المصري، وصولا إلى احتلال بريطانيا لمصر، وعودة فكرة الدولة الصهيونية للظهور، أواخر القرن التاسع عشر على يد ثيودور هرتزل، وبدون أن تكون للقصة علاقة تطابق بالتدين اليهودي، فلم يكن هرتزل يهوديا متدينا، كما لم يكن نابليون المسيحي المتشكك، تماما كما لم يكن كامبل بانرمان رئيس الوزراء البريطاني في 1905، الذي ارتبط اسمه بوثيقة مشهورة، جرى إعدادها بعد فحص ودرس استمر لعامين حتى 1907، وخلصت إلى الأهمية القصوى لإقامة إسرائيل كدولة عازلة في فلسطين، تفصل مشرق العالم العربي عن مغربه، وتعيق دور مصر القيادي في التوحيد العربي.

ولم تمر سوى عشر سنوات بعد وثيقة بانرمان، حتى صدر وعد بلفور الأكثر شهرة، والذي تمر عليه اليوم مئة سنة، كانت مصر وقتها تحت الاحتلال البريطاني، وكانت مستعمرات بريطانيا لا تغرب عنها الشمس، وصدر الوعد المشؤوم في 2 نوفمبر 1917، قبل احتلال بريطانيا لفلسطين بشهر واحد، وفي سياق اتفاق «سايكس ـ بيكو» لتقسيم المشرق العربي، ولم يكن آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا العظمى وقتها، ورئيس وزراء بريطانيا لمرتين قبل عام 1905، من المتعاطفين مع اليهود، بل كان معاديا للسامية، وخصما لهجرة اليهود من شرق أوروبا إلى بريطانيا، غير أن كراهته لليهود، لم تلفت نظره عن القيمة الاستعمارية الاستعمالية الكبرى للحركة الصهيونية، وأصدر الوعد الذي عرف تاريخيا باسمه، ووضع حجر الأساس لإنشاء ما عرف في ما بعد باسم «دولة إسرائيل».

وفي سطور قليلة قاطعة، جرى توجيهها في صورة تصريح بريطاني إلى اللورد روتشيلد أكبر أغنياء اليهود المساندين للصهيونية وقتها، وجاء فيه بالنص «إن حكومة صاحب الجلالة، تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتحقيق هذه الغاية»، وقد كانت نسبة الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين العرب واصلة إلى 97% من إجمالي السكان وقت صدور وعد بلفور، ولم تكن نسبة اليهود تزيد على الثلاثة في المئة. 

والمعنى ببساطة، أنه ليس ثمة ترادف متطابق بين اليهودية والصهيونية، بل قامت إسرائيل ككيان وظيفي استعماري، توارثت دعمه رؤوس حركة الاستعمار الغربي، من بريطانيا، التي قادت عملية الإنشاء والتأسيس، والتي طلب بلفور من روتشيلد نصا «إحاطة الاتحاد الصهيوني علما» بتصريحه أو وعده، وكان يترأسه وقتها وايزمان، الذي صار فيما بعد أول رئيس لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، وبمصاحبة ديفيد بن غوريون أول رئيس للوزراء فيها، الذي كان ملحدا، وكان ينظر للأساطير اليهودية بصفتها مفردات صالحة للتبرير، وفلكلور يواتي هدف جلب وغرس اليهود في فلسطين، ولفت نظر تلاميذه وتابعيه إلى أهمية جذب فرنسا لتقوية قدرات إسرائيل، والاستعانة بها في النواة الأولى لبرنامج إسرائيل النووي، وبعد أن جرى قطع «ذيل الأسد» البريطاني في حرب السويس 1956، وانهيار مملكة فرنسا في الجزائر، بدعم حازم للمقاومة الجزائرية من مصر عبد الناصر، رسا المزاد الإسرائيلي عند القوة الأمريكية المهيمنة، بعد تراجع بريطانيا وفرنسا.

وكانت العين على ردع مصر، وعلى إجهاض حركة نهوضها، وعلى نحو ما جرى استهدافه في خطة عدوان 1967، والتكالب على تجربة عبد الناصر، كما فعلوها مع تجربة محمد علي، لكن الشعب المصري كان حاضرا هذه المرة، وصنعت ملايينه في 9 و10 يونيو 1967 معجزة جبارة، وأقام الشعب مع عبد الناصر جيش مصر الحديث الثاني، الذي خاض حرب استنزاف طويلة، كانت أساسا للعبور إلى النصر في حرب 1973، كان عبد الناصر قد غاب عن الدنيا قبلها بثلاث سنوات، ولم يشهد النصر الذي تحقق لجيشه، وكانت تلك هي ثغرة الأقدار، التي سمحت للسياسة بخيانة انتصار السلاح، وفتحت الباب لهزيمة تاريخية كبرى، انحطت فيها أوضاع مصر، ونهبت كما لم يحدث في تاريخها الألفي، وداس الذين هبروا فوق دماء الذين عبروا، وإلى أن كانت ما تسمى معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية الشبيهة في مغزاها التاريخى بمعاهدة لندن 1840، كانت معاهدة لندن نهاية لتجربة محمد علي، تماما كما كانت المعاهدة الجديدة بقيودها الثقيلة، نهاية لنهوض مصر الثاني المرتبط باسم جمال عبد الناصر.

ولم تكن القصة في الحالتين مجرد سيرة حروب وانتصارات وهزائم، بل كانت عنوانا لنهوض جامع ثم هزيمة جامعة، وهو ما يفسر مفارقة 1967 في علاقتها بنصر 1973، فقد كانت هزيمة 1967 نصرا خاطفا لإسرائيل وأمريكا معها، لم ينته إلى تحقيق عاجل لهدفه الجوهري، ولا منع نهوض مصر مجددا، وبطاقة تصنيع وتحديث ومقاومة وحيوية، كانت بلغت ذراها، وخلقت مجتمعا جديدا من قلب المجتمع القديم، وصعدت بأدوار الطبقات العاملة والوسطى في تقرير المصائر، لكن غياب التنظيم والفاعلية الجماهيرية المستقلة، جعل عمر الثورة من عمر عبد الناصر القصير نفسه، وإن استمرت تجربة عبد الناصر بالقصور الفيزيائي الذاتي إلى خط العبور في حرب 1973.

وبعد أن سكتت المدافع، كان سهلا أن يجري الانقلاب و»الانفشاخ»، وأن يجري فك التعبئة، واختطاف النصر العسكري وخيانة مغزاه، وتحويله إلى «نصر مخطوف» أعقب «الهزيمة الخاطفة»، وأحل محلها هزيمة تاريخية لمشروع النهوض. 

ولأن التاريخ شيء آخر غير أفلام السينما، فإن كلمة «النهاية» لم تكتب بعد، فقد حصلت إسرائيل بعد وعد بلفور على ألف وعد، كان أهمها «وعد كامب ديفيد»، العنوان الأشهر لما يسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، الذي غيّب مصر عن خط المواجهة مع إسرائيل على مدى عقود، وغيّب مصر عن مصر نفسها، وكانت مصر هي الخطر الأعظم الذي نبه إليه بن غوريون مؤسس إسرائيل، وهو ما يفسر حفاوة إسرائيل بانقلابات السادات، ثم بخطايا مبارك من بعده، الذي وصفه شيمعون بيريز ـ تلميذ بن غوريون ـ بأنه المؤسس الثاني لدولة إسرائيل، ووصفه الجنرال بنيامين بن أليعازر بأنه ـ أي مبارك ـ كان «أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل». 
وقد انتهى مبارك إلى مصير الخلع بيد الشعب والجيش المصري، وكل استعادة لما كان سوف تنتهي إلى المصير نفسه، خصوصا أن إسرائيل تندفع يقينا في طريق الزوال، فلم تنتصر أبدا في حرب واحدة بعد 1967، فقد هزمت في حرب 1973، وبعدها في حرب غزو لبنان، وهزمت في الجنوب اللبناني، وهزمت في انتفاضة الفلسطينيين الثانية، وجلت وفككت مستوطناتها في غزة، ولم تنتصر في أربع حروب خاضتها مع حزب الله وحركة حماس، لم تهزم إسرائيل لأنها صارت أضعف، بل صارت أقوى عسكريا بمراحل، ولا تنقصها أرقى تكنولوجيات الدنيا، وتدعمها أمريكا أكبر أرمادا حربية في التاريخ، وكل ذلك مفهوم ومقدر المخاطر، لكنه لا يمنع أقدار الهزيمة المحتومة لإسرائيل، فالعالم يتغير كما لم يحدث في خمسة قرون مضت، ووزن الغرب يتراجع، وقوى الشرق والجنوب تتقدم بسرعة، نهضت الصين في الاقتصاد والسلاح، واستعادت روسيا حيويتها العسكرية، ونهضت أقطاب جديدة في عوالم مستعمرات الغرب السابقة، وتراجع وزن الحركة الصهيونية مع تراجع الغرب الذي أنشأها ورعاها.

ثم أن إسرائيل انتهت إلى هشاشة وتآكل عظام في مشروعها، فقد غاضت موارد وآبار اليهود الذين يمكن جلبهم إلى فلسطين، بينما زاد منسوب الحضور الفلسطيني في فلسطين، وفي بقاع الدنيا كلها، وكاد عدد الفلسطينيين يتجاوز عدد اليهود في فلسطين من جديد، وكاد عدد الفلسطينيين في المعمورة يتجاوز عدد اليهود في العالم كله، وكل عقد يمضي، يزيد حالة التقلص اليهودي في فلسطين، وينزع عن الصهيونية فوائض السكان اللازمة للاستيطان، بينما ينجب الشعب الفلسطيني بغزارة، ويتحول سنة فسنة إلى أغلبية سكانية على أرضه التاريخية المقدسة، ويخلق من صلبه شعبا جديدا عفيا، تتراكم خبراته الكفاحية، ويصمد على أرضه، ويبني نظم ردع جديدة لآلة العسكرية الصهيونية، تواجه القنابل الذرية الإسرائيلية بالقنابل البشرية الفلسطينية، وتواجه طائرات إسرائيل بالصواريخ المصنعة المطورة ذاتيا، وتكسر أنف الغطرسة الإسرائيلية العنصرية، بفداء الصدور العارية، وفي سياق عربي مختلف، تسقط فيه ادعاءات ومعاهدات السلام عمليا، وتزيد فيه مصر قوة جيشها باطراد، وتدق على الباب الفلسطيني من جديد، ويردد فيه شعبها هتاف الصامتين العائد إلى الشوارع عما قريب، ففلسطين كانت وتظل قضية وطنية مصرية، والشعب المصري لابد عائد إلى هتاف شبابه «هنرددها جيل ورا جيل / بنعاديكِ يا إسرائيل».
عبد الحليم قنديل

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية