بعد الغداء أقفلت غرفة الطعام ومنع الدخول، فوجه رياض كلامه الى نبيه العظمة قائلا: "ان الانقلاب في سورية فرط حبات العقد ووضع الاقطار العربية في طريق المجهول وفي مهب الريح، فسورية الآن بعد الانقلاب امرها في يد العسكر، والاردن على كف عفريت، وفلسطين في اشد خطر داهم، والوضع في مصر لا يدعو الى الارتياح. والرأي عندي، أمام هذه الصورة السوداء، ان نتحرك لانقاذ ما يمكن انقاذه بالعمل الفوري والجدي لجمع طاقات سورية والعراق في دول اتحادية تدعم الجوار الضعيف وتكون مرجعا وقاعدة جذب وتحد". وقال للعظمة: "أنت رئيس الحزب الوطني في سورية، فأسألك: هل أنتم مستعدون لتبني المشروع والسير فيه حتى النهاية؟" فأجاب العظمة: "بكل الاستعداد، وكل الايمان". ثم توجه الى أكرم زعيتر "وأنت يا أكرم ما رأيك؟" فأجاب: "أنا جندي في موكب العاملين لتحقيق هذا الحلم التاريخي". ثم سأل تقي الدين رأيه: "أنا اعلم انك" مصري الهوى "لكن مصر، وأنا لست ضدها، مدركة في ما اعتقد الخطر المحدق الآن. فماذا تقول؟" أجاب تقي الدين: "أنا لست "مصريا"، وأرجو ألا تفهموني خطأ. لكني أرى أن مصر ستحارب أي وحدة أو اتحاد بين العرب رغم ارادتها، ولنأخذ هذا في الحسبان". ثم التفت رياض بك نحوي وقال: "أنت يا زهير، عليك بجريدة "المصري" لاقناعها بصواب المشروع وأهميته ولتأييده. ويستطيع آل أبو الفتح اقناع النحاس باشا". فقلت: "أقوم بهذه المهمة بكل اندفاع وبأي اتجاه، فما أنا الا جندي في موكب العاملين لأي اتحاد بين العرب، يجمع ما أمكن من هذه الاجزاء المبعثرة، للوقوف في وجه الأخطار المحدقة بها جميعا". وعقب رياض في نهاية اللقاء بقوله: "في أي حال، ورغم العقبات التي قد تقوم في الطريق، لا بد من الشروع في العمل والحركة، والسعي خير من الجمود وانتظار الموت". وتابع: "نبيه بك يعرض الأمر على اخوانه بحيث يكون الحزب الوطني اداة العمل لهذا الاتحاد، وحزب "النداء" هنا هو اداته الاخرى مع مراعاة أوضاع لبنان".
وقال نبيه العظمة: "أنا عائد الآن الى دمشق لتداول الموضوع مع الرفاق في الحزب، وعما قريب نلتقي".
ورأينا تقي الدين ومحمد شقير وانا ان ننقل محصلة هذا اللقاء الى الاخوان في الحزب. فقد يتساءل البعض: لماذا كان رياض الصلح يعمل لمباشرة السعي الى الاتحاد؟ والجواب هو شعوره بالخطر أولا، ثم هو أحد رجالات العرب في الجمعية السرية في اسطنبول التي سعت الى تحرير بلاد العرب من النير التركي وابراز الشخصية العربية المستقلة عن السلطنة العثمانية. رفاق رياض في تلك الجمعية بعضهم مضى الى ربه، والبعض الآخر على اهبة الرحيل، والباقون من ذلك الرعيل يمكن التعاون معهم بسهولة كصالح جبر وفاضل الجمالي وجميل المدفعي وياسين الهاشمي وتوفيق السويدي، لانجاز الوحدة العراقية - السورية اولا، وهذا اضعف الايمان عند رعيل نشأ وجاهد لتحقيق وحدة العرب جميعا، لكن الظروف لم تساعد وكانت العقبات، عربيا ودوليا، اقوى من العرقلة، ليبقى الوطن العربي على الصورة التي هو عليها الآن: دويلات متناحرة احيانا وتلجأ الى من يحميها حتى من ذاتها.
من هنا كانت دعوة رياض الصلح الى السرعة في العمل الوحدوي بين سورية والعراق اولا، وفي حسابه انه بعد زمانه يصبح الوحدويون أمام كيانات متعددة، العمل لتوحيدها اصعب وربما شبه مستحيل ...
سر حسني الزعيم من انطون سعاده
في الحديث عن اغتيال رياض الصلح في عمان، ثم اغتيال الملك عبدالله الذي استضاف رياض، لا بد من الحديث عن مقتل انطون سعاده وما قيل وما لم يقل حتى الآن لعلاقة القضية باغتيال رياض الصلح. فقد لجأ الزعيم انطون سعاده، بعد فشل محاولته الانقلابية، الى حمى حسني الزعيم كما هو معروف طلبا لحمايته. فجرت مفاوضات بين بيروت ودمشق لاسترداده ومحاكمته. وتوجه الوفد اللبناني الى العاصمة السورية والمؤلف من الامير فريد شهاب مدير الامن العام، ونورالدين الرفاعي قائد قوى الامن الداخلي، وانتدبني رياض الصلح لمواكبة الوفد. واسفرت الاتصالات عن شرط وضعه حسني الزعيم لتسليم انطون سعاده هو ان يقتل في الطريق الى بيروت بحجة انه حاول الهرب فلا يحاكم امام القضاء؟
غادرنا دمشق ومعنا انطون سعاده، وفي الطريق طلبت من المفاوضين التريث في تنفيذ طلب حسني الزعيم ريثما نصل الى شتورا ونتصل برياض الصلح الذي رد على طلب الماريشال السوري بقوله: "اياكم ان تقدموا على ذلك، حافظوا على حياة الرجل فالقضاء وحده هو الذي تولى الامر...".
وصل انطون سعاده سالما الى بيروت ومثل امام القضاء العسكري الذي اصدر حكما باعدامه لانه هاجم عددا من مخافر الدولة واحتلها واعتدى على أمن الدولة، وكان ينوي احداث انقلاب بمساعدة من حسني الزعيم الذي وعده بارسال آلاف من الجنود السوريين بثياب مدنية بحجة انهم من الحزب السوري القومي. والسرعة في محاكمته كانت لتحاشي ان يركب الماريشال رأسه وينفذ تهديده قبل ان يبوح انطون سعاده بالسر وهو الذي طالما هدد احتلال لبنان اثناء الازمات بين البلدين.
ويقول بعض الثقات ان الحزب السوري القومي كان له الضلع الأكبر في اطاحة حسني الزعيم انتقاما لانطون سعاده الذي غدر به حسني وسلمه الى السلطات اللبنانية بعدما تعهد بحمايته في سورية.
حسني الزعيم يوسط الملك فاروق للاسراع بالمحاكمة
كثر الكلام والاحتجاج على السرعة في المحاكمة لانها تمت خلال اربع وعشرين ساعة فقط، وكانت موضع تساؤل السياسيين والمحامين والرأي العام. وانشر هنا كلاما نقله الي الصديق النقيب محمد البعلبكي وهو كان احد اركان الحزب القومي السوري وتساءل مع المتسائلين مستغربا هذه السرعة في المحاكمة تساءل امام المرحوم حبيب ابو شهلا فأطلعه على السر في اسباب السرعة وقال له ابو شهلا: "اتصل الملك فاروق شخصيا مساء اليوم الذي وصل فيه انطون سعاده الى لبنان سالما بعد ان علم حسني الزعيم ان شرطه لم ينفذ بتصفيته على الطريق وطلب من الملك فاروق التوسط لدى الرئيس بشارة الخوري ليسرعوا اقصى ما يمكن في المحاكمة. وقد استجاب بشارة الخوري واجرى الاتصالات اللازمة بالسلطات القضائية لتحديد موعد المحاكمة بالسرعة القصوى".
آخر أيام الزعيم والبرازي
يوم قام حسني الزعيم بالانقلاب على الحكم في سورية في 30 آذار مارس 1949 جاء محسن البرازي رئيسا للوزراء، ومعلوم أن البرازي كان نسيبا لرياض الصلح وتجمعه به علاقة قربى ومودة عن طريق زواجهما من آل الجابري، كما كانت تربطني بالبرازي صداقة شخصية اذ كنت أتردد عليه أيام كان مديرا لديوان الرئيس شكري القوتلي، وطالما اجتمعنا في القاهرة بمناسبات عديدة.
وذات يوم جاء الى بيروت ثلاثة ضباط من الجيش السوري مع أصدقاء سوريين واجتمعوا الى رياض بك في منزله في عاليه وأبلغوه ان انقلابا على حسني الزعيم سينفذ "ليل السبت المقبل أي بعد يومين "، وقالوا لرياض بك: "رأينا من المفيد أن تكونوا في لبنان على علم بهذا الحدث الخطير".
غادر الوفد العسكري منزل رياض الذي استدعاني على الفور وأطلعني على ما جاء به الوفد وقال: "يجب أن تذهب على وجه السرعة الى دمشق وتبلغ محسن البرازي أن يغادر دمشق فورا ويأتي الى لبنان ليكون الى جانب عائلته التي تصطاف في حمانا ريثما تمر الليلة المحددة للانقلاب". فأسرعت في السفر الى دمشق، وتوجهت فورا الى رئاسة مجلس الوزراء. وكان المجلس منعقدا يومها برئاسة حسني الزعيم طبعا، وطلبت الى مدير الديوان ان يبلغ رئيس الوزراء أنني أحمل اليه رسالة عاجلة من رياض الصلح رئيس وزراء لبنان، فرد بقوله: "مجلس الوزراء منعقد الآن، ولا بد من انتظار انفضاضه". فانتظرت زهاء ساعة، والدقائق تمر وساعة الصفر تقترب. فقلت لمدير الديوان: "أرجوك أنا هنا في مهمة جد خطيرة، فبلغ الرئيس البرازي بوجودي هنا بأي أسلوب تراه مناسبا".
فدخل ديوان مجلس الوزراء واسر في اذن البرازي ما سمع مني، فخرج البرازي ورحب بي، فأبلغته أنني أحمل اليه رسالة مهمة من رياض بك وأود أن أراه على انفراد لدقائق، فاستمهلني أيضا وعاد الى الجلسة فانجز أعمالها ورجع ليسمع الرسالة بعدما انتحينا جانبا فقال: "غريب ما أسمع ! أمس استدعاني الزعيم وقال لي ان بعض الضباط قابلوه وتقدموا اليه بمطالب، مع الاشارة الى أنهم يعلقون أهمية كبرى على هذه المطالب، واذا لم يستجب لهم يكون لهم موقف، فاستمهلهم بعض الوقت للتنفيذ، وهزئ بهم كما قال حسني الزعيم". وأضاف: "غريب ما أسمع، فالناس يحسدونني على اني رئيس للوزراء وشجاع مع اني كراكب الأسد، كما يقال، لا أعرف متى يرميني عن ظهره أرضا ويمزقني إربا. على كل، لكم شكري. وبلغ رياض بك أنني سأسعى لتنفيذ ما يطلب". وفي مساء ذلك اليوم غادر البرازي دمشق، الى حمانا حيث تصطاف عائلته، فافتقده حسني الزعيم وعلم انه في لبنان، فاتصل به على الهاتف صباح الجمعة وقال له: "هلق وقت شم هوا يا محسن؟ عد سريعا الى دمشق فلدينا أمور مهمة تستدعي وجودك الى جانبي".
ولأن محسن البرازي لا يستطيع ان يخالف الأوامر فقد ترك عائلته وعاد الى دمشق، وكانت ساعة الصفر قد اقتربت أي منتصف ليل الجمعة - السبت الواقع فيه 14 آب اغسطس 1949، فتحركت قطعات من الجيش واعتقلت الماريشال حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي اللذين ما لبثا أن قتلا في الطريق كما تقضي شريعة الانقــلابات، أي دون سؤال وجواب ومـحاكمات. وهـناك من يروي أنه جرت محاكمة صورية، وان حسني الزعيم اظهر رباطة جأش كلية عندما صوب الرصاص الى صدره. لقد حزنت كثيرا لمقتل محسن البرازي وما زلت أذكره كأن المأساة وقعت أمام عيني واتساءل دائما: كيــف عاد ووقع في الفخ بعدما تهيأت له ظروف الابتعاد عن طريق العاصفة؟ انها ساعة تخل كما يقال، وقدره هكذا.
لقاء المطار قبل الاغتيال
قبل سفر رياض الصلح الى عمان في 12 تموز تلبية لدعوة الملك عبدالله، وقبيل دخوله صالون المطار بدقائق وصل تقي الدين الصلح والجنرال فؤاد شهاب. وقد سأل الجنرال رياض بك قبل اقلاع الطائرة: "بدي أعرف قبل ما تسافر"، بدك بشارة يبقى أو يروح؟ أجاب رياض: "الخيار له، فاما عائلته واما البلاد، وقد كانت فيها نقمة عارمة على تصرفات افراد من عائلته وسأل الجنرال شهاب المعروف بمحبته للشيخ بشارة رياض الصلح: "طيب راح بشارة مين بدك تجيب محلو؟" قال رياض: "ومن شو بتشكي أنت يا جنرال؟".
كيف حدث الاغتيال؟
... واقلعت الطائرة باتجاه عمان واترك الكلام هنا للأخ محمد شقير الذي رافقه والدكتور بربير والزميل بشارة مارون يقول: "كان في استقبال رياض على أرض المطار رئيس الوزراء سمير الرفاعي ووزير المال سليمان نابلسي واتجهنا الى فندق فيلادلفيا ومنه اتجه رياض الى قصر الملك عبدالله وعقد معه عدة اجتماعات بحيث يعود الى بيروت في اليوم الثالث حسب برنامج الزيارة. قبل العودة قال الدكتور نسيب بربير انه تحدث الى رياض بشأن زيارة يقوم بها الى القدس قبل العودة الى بيروت فرفض وقال: "لدي سببان: الاول هو ان الذين يجب ان اراهم في القدس ليسوا فيها الآن. والثاني: هو أنني لست مشتاقا لرؤية اليهود يتحركون فيها. وسبب آخر هو انني لا استطيع ان اغيب عن جلسة مجلس النواب غدا حتى لا يفسر غيابي انه تهرب من المواجهة. ويزيد محمد شقير على هذا قوله: هنا اغتنمت الفرصة وسألت رياض بك: هل لي ان اعرف سبب الحاح الملك عبدالله عليك لزيارته اجاب: اليك السبب انما دون التصرف بما دار بيننا. ان الملك يشعر بالقلق فيما لو خلا العرش لسبب ما. والأمير طلال الابن البكر ليس مؤهلا صحيا والأمير نايف تحجبه حياته الشخصية والحسين بن طلال ما زال في الوصاية. من هنا يرى الملك ان انقاذ العرش هو في الاتحاد مع العراق وارسل الى ابن اخيه في بغداد يطلعه على رغبته فلم يتجاوب حتى الآن. لذلك يرى ان ازور بغداد لهذه الغاية والتشاور مع الاخوان والرفاق هناك.
< وهل قبلت القيام بالمهمة؟
- اجل قبلت
< انت في ذلك ترمي عصفورين بحجر واحد؟
- لكن السعي في هذا الاتجاه له سلبياته وانعكاساته عربيا ولبنانيا. اذ سيرى بعضهم في تحريكه الآن خيال سورية الكبرى...
"مساء ذلك اليوم - والكلام دائما لمحـمد شقير - تناولنا طعام العشاء على مائدة سليمان نابلسي وعدنا الى فــيلادلفيا وفي الصــباح نزل رياض من جناحه الى صالون الفندق فتحلقنا حوله، فرحان الشــبيلات سـفير الاردن في لبنان، والدكتور نســيب البربير وسلــيمان نابلــسي وبشارة مارون. وعلى غير موعد دخل علينا رجل وتقدم من رياض مصافحا فتردد قائلا وســألنا رياض بك بعد خروجه: "هل يعرف احد منكم هذا الرجل؟ لا أحد يعرفه. لا هو عرف عن نفسه ولا أحد من الحضور استـطاع ان يفهم مغزى الزيارة !" وقد تبين فيما بعد انه يدعى محمد صلاح الذي اطلق الرصاص مع رفيقه ميــشال الديك على رياض الصلح وكان دخوله صالون الفندق للتعرف عليه عن كثب. ويتابع محمد شقير قوله:
"غادر رياض الفندق والى جانـبه في الســيارة الدكتور بربير والمرافق عبدالعزيز العرب، وتبعناه في سيارة أخرى بشارة مارون وأنا وأحد المرافقين. وبوصول موكب رياض، يتقدمه سيارة جيب عسكرية، الى طلعة في الطريق قربها محطة للوقود فوجئنا بالرصاص ينهمر باتجاه سيارة رياض من داخل سـيارة مرت في محاذاة سيارته وتابعت سيرها فترجل عبدالعزيز العرب واطلق النار على سيارة الجناة فيما لحقت بها السيارة العسكرية المواكبة وطاردتها بالرصاص فاصيب محمد الصلاح وميشال الديك اصابات قاتلة وتمكن السائق اسبيرو حداد من الفرار. وهرعت نحو رياض فرأيت يده على صدره مكان الاصـابة والدكتور بربير مصاب أيضا. فأسرعنا بهما الى المستشـفى العسكري، وحاولت وهو متكيء علي ان اسمع منه كلمة واحدة فلم يستطع واسلم الروح قبل الوصول الى المستشفى".
وانتشر النبأ المروع في عمان والعالم بسرعة البرق وتدفقت الشخصيات على المستشفى تبكي الشهيد وسط ذهول وارتباك لا حد لهما. وخرج الطبيب الايطالي فرآني في حالة اللاوعي والانهيار فســحبني احد انجـاله قال بالفرنسـية: لك العزاء.
حضر رئيس الديوان الملكي والنواب والوزراء ورجال السلك الدبلوماسي وكبار الضباط الى المستشفى ما عدا رئيس الوزراء الذي كان قد غادر عمان في الصباح واستقر في ضهور الشوير في لبنان. وامسك رئيس الديوان الملكي بيدي وقال: "سيدنا بانتظارك". وفي قصر "رغدان" رأيت الملك في صمت وذهول وراح يسأل: كيف حدث ذلك؟ انا لا اصدق ما حدث ... قل لي ماذا رأيت؟ ورويت له الذي حدث بالتفصيل. وفي ساعة متقدمة من الليل استدعيت الى المستشفى فأخرجت من البراد جثة رجل هو محمد صلاح الذي دخل صالون الفندق وسلم على رياض، كما فعل رفيقه ميشال الديك وتمكن السائق اسبيرو حداد من الفرار والتجأ الى ثكنة الجيش الانكليزي ومنها الى اسرائيل ثم السفر فيما بعد الى البرازيل.
في صبيحة اليوم التالي جرى التحضير لنقل الجثمان الى بيروت وقبيل التوجه الى المطار جاء سفيرنا في عمان الامير خالد شهاب ونصح بتأخير السفر بعض الوقت لأنه تلقى نبأ يقول ان بيروت تحترق والتظاهرات تجتاح الشوارع. تداولنا الأمر مع الملك فرأى وجوب الانتقال الى بيروت بحيث يصبح الأمر في يد السلطات اللبنانية.
غادرنا مطار عمان الى بيروت ... وفيما الطائرة تستعد لملامسة الارض في مطار بيروت رأيت من النافذة ما لم تراه عيناي من قبل. بحر متلاطم من الخلق ينتظر هبوط الطائرة ويستعد للاقتحام فدب الذعر بطاقم الطائرة وخرجوا من نافذة جانبية، وكذلك فعلت أنا وبشارة مارون ولم نعد نرى إلا جثمان الشهيد محمولا على الأكف من المطار حتى منزله في رأس النبع.
من القاتل؟
في اسبوع واحد استشهد رياض الصلح والملك عبدالله الذي الح على رياض بك ان يزوره في عمان لأمر يستدعي السرعة فما هو ذلك الأمر الغامض حتى الآن؟ سألنا رياض الصلح قبيل سفره ما وراء هذا الالحاح يا ترى وماذا عند الملك عبدالله؟ اجاب رياض "قال لي احملك مسؤولية قومية امام الأمة والتاريخ اذا تباطأت فلدي اسباب مهمة وربما مصيرية وانت المسؤول اذا تخلفت ولبى رياض تلك الدعوة ولم يصل الى بغداد ولم يعد الى بيروت وبعد اربعة ايام لحق الملك عبدالله برياض وهو في المسجد الاقصى ولم يرجع الى عمان ....
بعد نحو خمسين عاما على اغتيال الرجلين حان وقت السؤال الكبير، من وراء تلك الجريمة المزدوجة التي هزت العالم العربي في ذلك الوقت؟ هل الحزب القومي السوري اتخذ قرارا باغتيال رياض الصلح كما قيل وكما نشر على الملأ في حينه وكما هو الواقع؟
التحقيق توقف هنا واسدل الستار على انها عملية ثأر لمقتل انطون سعاده...
لماذا رياض الصلح؟
الحزب القومي الســوري يعرف ان جرائم القتل تبدأ في القضاء. فهناك وزارة للعدل ونيابة عامة تدعي وقضاء يحكم ورئيس جمهورية يوقع على الاعدام، ورياض الصلح لم يكن احد هؤلاء وهب انه كمسؤول يتحمل نصيبا من المسؤولية فلماذا حملوه كل هذه السلطات التي حكمت باعدام سعاده؟.
وبعد الكلام الذي يأتي يفسر التساؤل ففي خلوة الملك ورياض كشف الملك انه يشعر بدنو اجله وانه عازم على تحقيق حلمه باقامة اتحاد اردني عراقي. ولما كان ولداه طلال ونايف لا يصلحان لخلافته كما قال وحفيده الحسين تحت سن الرشد، لذلك يرى ان يخلفه على عرش هذا الاتحاد الملك فيصل بن غازي ملك العراق بعد وفاته. لذلك طلب من رياض ان يتوجه الى بغداد لاطلاع اصدقائه رجال الحكم في بغداد على المشروع واقناعهم بالموافقة على اهميته كي لا تضيع هذه الفرصة. غادر رياض القصر الملكي الى مطار عمان فوقع حادث الاعتداء. وأعود الى السؤال: كيف تمكن "مجهول" من اختراق كل ما اتخذ من تدابير الحيطة والحرص ومن يكون هذا "المجهول" الذي تلبس ثوب الثأر لانطون سعادة؟ لا يعنيني وأنا احاول كشف الحقيقة التوقف عند التفاصيل التي نشرت في حينه عن كيفية الاغتيال فكل الناس اطلعوا عليها. ما يهمني هو الا يبقى موضوع اجتماع عمان بين رياض والملك مجهولا. فلو قدر لرياض الصلح ان يخرج من عمان ويصل الى العراق سالما ليطرح على رفاقه هناك مشروع الملك والعراق في ذلك الوقت مهيأ للاتحاد ويسعى اليه سواء مع سورية او الاردن لكانت العرب غير العرب الآن، وكان الوضع مختلفا بالتأكيد بما يعني من بعد قومي ومن قوة للعرب كانت كفيلة بالا نكون مكشوفين الآن للعدو يحتل ارضنا ويذلنا ويعرض عضلاته علينا مجتمعين. وقبل ان اضع ما لدي من معلومات اتوقف قليلا مع لجنة التحقيق التي انطلقت من بيروت الى الاردن للتعاون مع السلطات القضائية في عمان. لجنة بيروت استغربت غموض التحقيق وكذلك المحامي الكبير والصديق نصري معلوف الذي قصد عمان ايضا بتكليف من لبنان واطلع على سير التحقيق وعاد متسائلا ومستغربا ذلك التحقيق ووصفه بـپ"العجب العجاب".
استقالة بشارة الخوري
ما كاد الجو يهدأ بعض الشيء بعد استشهاد رياض الصلح حتى فتحت معركة انتخابية في الجنوب لملء المقعد الذي شغر بوفاته. وما لم يكن متوقعا هو أن الشيخ بشارة الخوري رفض تأييد كاظم الصلح للمقعد واقترح ترشيح صلاح البزري ودعم ترشيحه علنا.
وقد حاول كثيرون إقناع الشيخ بوقفة وفاء لرفيقه في معركة الاستقلال وتعديل الدستور، فلم يقتنع. وقيل له: "لقد مات سليم تقلا فجئت بشقيقه فيليب. ومات إبراهيم عازار فجئت بشقيقه رشاد، فماذا لو جئت بكاظم الصلح وقطعت الطريق على ردات الفعل؟". فأبى واستكبر ورفض الإصغاء. وأصررنا نحن، أي حزب النداء، على ترشيح كاظم الصلح مهما تكن النتائج. وهكذا كان فأمّنا كسب المعركة في معظم مدن الجنوب باستثناء جزين وصور فقد نلنا فيهما أربعين في المئة برغم قاعدة أحمد الأسعد الانتخابية ونشاط كاظم الخليل الذي تأثر بموقف بشارة الخوري.
ولما أصر الشيخ بشارة على هذا الموقف قرر حزب النداء السير بمعارضته مع بقية الأحزاب والأصدقاء والشخصيات الناقمة على تصرفات "السلطان" واتباعه، وعلى موقفه المعيب من هذه الانتخابات.
وبدأت المعارضة بالمؤتمرات الشعبية والتظاهرات، فأسفرت عن موقف حازم ومصمم فكان مؤتمر دير القمر في 18 آب 1952 الذي دعت اليه "الجبهة الشعبية" المؤلفة يومئذ من سبعة نواب من المعارضة وحــضرته غالبـية الاحزاب ووفود كبيرة من جميع المناطق اللبنانية، وتكلم فيه اركان المعارضة كمـيل شمــعون وحميد فرنجية وعادل عسيران وانور الخطيب واميل البستاني وعبدالله الحاج وغسان تويني وفضل الله تلحوق وجورج عقل وكمال جنبلاط. وكان اعنف خطاب لكمال جنبلاط الذي سمى الاشياء بأسمائها ولم يترك احدا من الرجال الكبار والصغار الذين اعتبرهم مسؤولين عن الفساد حتى شهّر بهم وباعمالهم، ناسبا اليهم سيلا من الموبقات والمخالفات والمتــاجرة بالصـفقات، وكذلك بقية الخطباء فلم يتركوا شــاردة ولا واردة من المخزيات الا اتوا على ذكرها، واجمع الرأي في هذا المؤتمر على ان لا سبيل لزحزحة بشـارة الخوري من قصر القــنطاري الا باعلان الاضراب واقفال بيروت تحت شعار ان لا عودة الى الحياة الطبـيعية الا بالاستقالة. ورد فخامته على الاضراب بتكليف صائب سلام تأليف حكومة جديدة فألفها منه ومن باسيـل طراد وموسى مبارك، لكن الاضــراب استمر والازمة تفاقمت، ولما طالبه رئيس الحكومة الجديد بتقديم استقالته لتهدئة الوضع ابى واستكبر فعمد رئيس الجمهورية الى اصدار مرسوم بقبول استقالة صائب سلام وتكليف الجنرال فؤاد شهاب تأليف حكومة جديدة اشترك فيها ناظم عكاري وباسيل طراد للاشراف على انتخابات رئيس جديد للجمهورية بعدما تقدم بالاستقالة.
* يصدر كتاب "زهير عسيران يتذكر، المؤامرات والانقلابات في دنيا العرب" عن دار النهار في بيروت
0 comments:
إرسال تعليق