الأحد، أغسطس 28، 2011

أيتها الأقليات لا تقفي بوجه الثورات

ليس هناك شك بأن من حق الأقليات في العالم العربي أو في أي مكان آخر من العالم أن تعيش بأمان، وأن تحافظ على خصوصياتها الثقافية والاجتماعية والدينية دون أي ضغوط، أو اضطهاد، أو ابتزاز، أو إرهاب من طرف الأكثرية، لكن الديموقراطية والمواطنة التي تحفظ حقول الجميع، بمن فيهم أتباع الأقليات، تؤكد في الآن ذاته على أن توجهات ورأي الأكثرية هو الأهم. فكلنا يعلم أن جوهر الديموقراطية هو حكم الأكثرية، حتى لو كان الفرق بين الرابح والخاسر في الانتخابات ربعاً بالمئة.

صحيح أن الدول الديموقراطية تحفظ حقوق الأقليات تماماً بغض النظر عن انتماءاتها الروحية أو العرقية، إلا أنها في الآن ذاته قلما تسمح لأتباع الأقليات بتولي المناصب العليا كمنصب رئيس الدولة، حتى لو كانت بعض الأقليات تحظى بنفوذ اقتصادي أو سياسي هائل، كما هو واقع الأقلية اليهودية في الولايات المتحدة.

فبالرغم من استحواذهم وسيطرتهم على مفاصل المال والاقتصاد والإعلام، إلا أن اليهود مثلاً لا يحق لهم أن يصبحوا رؤساء للولايات المتحدة الأمريكية، مهما بلغوا من قوة وشأن، لأن الرئاسة طبيعياً من حق الأكثرية البروتستانتية، فهناك اتفاق عُرفي في أمريكا ينص على أن يكون الرئيس مسيحياً من البروتستانت، والرئيس الأمريكي الوحيد الذي كان من المسيحيين الكاثوليك هو “جون كينيدي” الذي مات قتيلاً..

وقد لاحظنا الضجة الهائلة في وسائل الإعلام والأوساط السياسية والشعبية الأمريكية أثناء الحملة الانتخابية الرئاسية الأخيرة حول الأصول الدينية للرئيس الحالي باراك أوباما. فقد ظن البعض أنه من أصول إسلامية، ما جعل الكثير من الأمريكيين يرفضون الأمر رفضاً قاطعاً. بعبارة أخرى، لم يأبه الأمريكيون بمشاعر أكثر من سبعة ملايين مسلم في أمريكا، وكانوا على الدوام يظهرون رفضهم القاطع لأن يكون رئيسهم غير مسيحي.. ولا شك أننا لاحظنا أيضاً كيف لم يترك أوباما مناسبة إلا وحاول أن يتبرأ من ظلاله الإسلامية، وأن يثبت للشعب الأمريكي أنه مسيحي قلباً وقالباً.

باختصار شديد، بالرغم من علمانيتها المعلنة، فإن دساتير الدول الغربية تنص على أن يكون الرئيس أو الملك من طائفة الأكثرية، فحسب المادة الثالثة من قانون التسوية البريطاني ينبغي على كل شخص يتولى المُلك أن يكون من رعايا كنيسة إنجلترا.

أما الدستور اليوناني فينص في المادة 47 على أن كل من يعتلي حكم اليونان يجب أن يكون من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، ولا بد أن نعلم أن اليونان فيها الملايين من المسيحيين الذين يتبعون الملة الكاثوليكية والبروتستانتية، بل يوجد الملايين ممن يتبعون الديانة الإسلامية، ولم يعترض أحد علي المادة 47 من الدستور اليوناني، طالما أن المفهوم هو أن غالبية أتباع الدولة اليونانية يتبعون الديانة الأرثوذكسية الشرقية..

أما في إسبانيا فتنص المادة السابعة من الدستور الإسباني علي أنه يجب أن يكون رئيس الدولة من رعايا الكنيسة الكاثوليكية، باعتبارها المذهب الرسمي للبلاد.

وفي الدنمارك، فالدستور الدنماركي ينص في المادة الأولي علي أن يكون الملك من أتباع كنيسة البروتستانت اللوثرية، مع العلم بأن الدنمارك يعيش فيها الكثير من أتباع الملة الأرثوذكسية والملة الكاثوليكية وأتباع الديانة الإسلامية، ولم يعترض أحد علي المادة الأولي من الدستور الدنماركي .

وفي السويد، فالدستور ينص في المادة الرابعة على أنه يجب أن يكون الملك من أتباع المذهب البروتستانتي الخالص، مع العلم بأنه يوجد الكثير من أتباع الملة الأرثوذكسية والكاثوليكية وأصحاب الديانة الإسلامية في السويد. هل طالب أحد بإلغاء المادة الرابعة من الدستور السويدي؟

أليس من حق الإسلاميين في البلدان العربية في ضوء ذلك أن يجادلوا بأن الغلبة السياسية والاجتماعية والثقافية يجب أن تكون للأغلبية المسلمة بحكم أنها الأكثر عدداً داخل هذا البلد أو ذاك، كما هو الحال في الدول الديموقراطية.

أليس من حقهم أيضاً أن يطالبوا بالسيادة العامة في بلادهم في كل المجالات عملاً بالمبدأ الديموقراطي، وبأن لا تـُستخدم شماعة الأقليات للانتقاص من حقوق الأكثرية كما هو حاصل في بعض البلدان العربية؟

وبناء على ذلك، لا بد للأقليات في العالم العربي أن لا تقف أبداً في وجه تطلعات الأكثرية في أي بلد مهما كانت الأسباب.

ومن السخف الشديد وقلة الحكمة أن تتحالف الأقليات فيما بينها، أو تصطف إلى جانب أي نظام تثور عليه الأكثرية، حتى لو كان ذلك النظام مناسباً ومقبولاً بالنسبة لها، مع العلم أن الأنظمة الديكتاتورية الساقطة أكثر من أساء للأقليات وداس عليها، لأن الطواغيت لا يفرقون بين أقلية وأكثرية، بل يريدون أزلاماً تلعق أحذيتهم.

إن مناصرة الأقليات لهذا النظام أو ذاك هو نوع من الانتهازية الآنية الحقيرة والساقطة، ولا يصب حتى في مصلحة الأقليات، ناهيك عن أنه يحرّض الأكثرية على الانتقام من الأقليات لاحقاً عندما تصل إلى الحكم. ولن يلوم أحد الأكثرية في أي بلد عربي فيما بعد لو اتهمت الأقليات بأنها وقفت من قبل مع هذا النظام أو ذاك ضد طموحات وتطلعات وتوجهات الغالبية العظمى من الشعب.

فلتفكر الأقليات دائماً قبل الانجرار الأعمى وراء هذا النظام أو ذاك من أجل مصالح مرحلية زائلة. ويقول كاتب كبير في هذا السياق: “ألا ترى الأقليات ما وقع للمسيحيين في العراق، حيث كان ارتباطهم بالسلطة المسوغ الذي استخدمه مجانين الإسلاميين للقــضاء على وجودهــم في بلاد الرافدين؟

وهل فكرت الأقليات بالمعنى التاريخي الهائل للتغيير الذي يشهده العالم العربي الآن، وبانعكاساته على الجماعة التي ينتمون إليها وعليهم هم أنفسهم؟… وإذا كان بعض مرتزقة الأقليات قد أصبحوا جزءا من الســلطة، فما هي المزايا الـتي عادت عليهم من ذلك؟

هل يبرر التحاقهم بالسلطة انفكاكهم عن الجماعة التاريخية، التي لطالما انتموا إليـها وتكفلت باستــمرار وجودهم بينها، وبتمتعهم بقدر كبير من الحرية الدينية والمدنية، علما بأنها هزيمتها على يد السلطة الحالية ليست غير ضـرب من المحال أو من المصادفات العابرة؟ هل وازنت الأقليات بين الربح والخسارة، وقررت الرقص على جثث الجماعة؟” يتساءل الكاتب متألماً.

جدير بالذكر هنا أنه في الوقت الذي يضحي الألوف في بعض المناطق الثائرة من أجل الحرية يقوم أتباع بعض الأقليات حفلات غنائية ماجنة “يـُمجد خلالها النظام القائم وتعظم رموزه، مع أن رائحة الموت تزكم أنف البلاد”، ناهيك عن أن المذبوحين على أيدي برابرة النظام لا يبعدون عن المطبلين والماجنين أحياناً بضعة كيلومترات.

جباً كيف يتعايش أبناء الأقليات مع جيرانهم المسلمين لاحقاً فيما لو سقط النظام الذي يطبلون ويزمرون له؟ لماذا لا يفكرون بالارتباط الجغرافي الذي لا انفكاك منه؟ يا الله كم هم مغفلون وتاهئون! “هل فاتت الراقصين هذه الحقيقة، وهل فات من يستطيعون التأثير عليهم من حكماء مزعومين أن رقصهم في الملاهي الليلية بينما جيرانهم يذبحون بفاشية عز نظيرها قد يفضي إلى مزيد من القطيعة والعداء بين مكونات الشعب الواحد، التي عاشت متآلفة متآخية على مر تاريخ يمتد لنيف وألف وخمس مئة عام..

وللعلم، فإن التاريخ لن ولا يجوز أن يرحم أحدا إن هو وقف جانباً، أو رقص على جثث من يموتون من أجل حريته؟” كما يجادل الكاتب نفسه محقاً.

أليس من العيب أن تسمح بعض الأقليات لنفسها بأن تكون ألعوبة أو عتلة أو رأس حربة، أو مخلب قط في أيدي بعض الأنظمة الحاكمة بحجة الخوف من وصول أتباع الأكثرية إلى الحكم، ومن ثم تنكيلهم بها لاحقاً. فلا خوف أبداً من الأنظمة القادمة لأن فيصلها ستكون الديمقراطية.

أيتها الأقليات: كوني بعيدة النظر، ولا تدعي البعض يتاجر بك لأغراض سلطوية نفعية مريضة!

ولو كان هناك حكماء حقيقيون في أوساط بعض الأقليات العربية المتهورة وليس مجرد ثلة من المرتزقة والمأجورين قصيري النظر لوقفوا مع تطلعات الأكثرية، أو على الأقل أوعزوا إلى أتباعهم بالتزام الصمت وعدم استفزاز الأكثرية الثائرة، بدل التطبيل والتزمير لأنظمة آيلة للسقوط عاجلاً أو آجلاً، فلا ننسى أن التاريخ صولات وجولات، والبقاء دائماً للأكثرية.

وكم كان الأديب الأمريكي مارك توين محقاً عندما مرّ قبل مئة وخمسين عاماً على إحدى المدن العربية المسلمة الضاربة جذورها في التاريخ، وقال قولته الشهيرة: “لقد رنت عيون هذه المدينة إلى آثار ألف إمبراطورية خلت، ولا شك أنها سترى بعدُ قبور ألف إمبراطورية قادمة قبل أن تموت”.

بقلم فيصل القاسم

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية