بمعزل عن غضب الأستاذ نبيه بري الأخير مما كشفته وثائق "ويكيليكس" عن موقفه من "حزب الله" في حرب تموز 2006 (الوثائق التي نشرتها "المستقبل" اعتبارا من 5/9/2011)، وبمعزل عن النفي السابق لحلفاء "حزب الله" ما نُقل عن لسانهم بشأن الحزب المذكور في "ويكيليكس"، وبغض النظر عن صمت "حزب الله" عن "خيانة "حلفائه أو حتى اضطراره الدفاع عنهم أحياناً، ورفعه –بالمقابل- الصوت عالياً في مواجهة خصومه... فإن الأكيد –والمنطقي- أن الحزب يصدّق كل ما ورد في "ويكيليكس"، وأن "براغماتيته" تدفعه للصمت عمن يكنّون له البغض من حلفائه، طالما أن مواقفهم تخدمه، دون أن يعني ذلك أنه يثق بهم، أو يمكن أن يسلّمهم رقبته، أو أنه لن يقتص منهم أو يتخلى عنهم، إذا سمحت له الظروف بذلك!. (سكت "حزب الله" عن عمالة عميل، حرصاً منه على علاقته الاستراتيجية بالعماد ميشال عون!).
ولإزالة أي استغراب عن هذه "الحقيقة" (قناعة الحزب بما ورد في "ويكيليكس"، بما في ذلك ما يتعلق بحلفائه)، يمكن استكشاف مواقف الحزب من "ويكيليكس" وفق التسلسل الزمني الآتي:
أولاً: في أول تعليق واضح له على ما ورد في وثائق ويكيليكس؛ بدا أمين عام "حزب الله" واثقاً جداً من صحة ما كتبه السفير الأميركي في بيروت من تقارير؛ لدرجة أنه اختار أهم مناسبة دينية لدى الحزب (العاشر من محرم)، ليتوعد خصومه بالقول: "كل من تآمروا سيأتيهم يوم أصعب من ويكيليكس". (جعل من "ويكيليكس" صفة للزمان!).
ثانياً: في تطور لاحق على موقفه؛ أعلن السيد نصر الله في 20/3/2011 أن حزبه بصدد رفع دعاوى قضائية ضد من "كان يحرّض ويدعو إلى تدمير لبنان ويتآمر على المقاومة، ولا يزال يقوم بذلك، وسنكوِّن ملفاً قضائياً ولن نقوم بتظاهرات". ورغم أن نصر الله كان يعلم – أو يفترض أن يعلم- أنه لا يمكن إقامة دعاوى قضائية بناءً على هذه الوثائق، إلا أن موقفه هذا عكس حجم الثقة بـ "ويكيليكس"، ومدى الرغبة باستغلال ما يرد فيها إعلامياً.
ثالثاً: لم تمض أيام على هذا الموقف حتى نشرت صحيفة "الأخبار"، من دون التنسيق مع "حزب الله"، وثيقةً تطال الرئيس نبيه بري والوزير محمد خليفة وآخرين، ما أثار بري، الذي أصدر قرارات "ميدانية" لقيادات حركة "أمل" للتعامل مع "حزب الله" على نحو مختلف، فضلاً عن إصداره بياناً شديد اللهجة هاجم فيه "الأخبار"، التي استخدمت "جملة عملاء مسعورين" يسعون لـ "تشويه سمعة الحركة"، منبهاً الحزب بأنه "سوف لا ينتبه إلى أنه أُكل حيث أُكلت الحركة"!.
وعلى الأثر أطل السيد حسن نصر الله على الإعلام لتهدئة خواطر حليفه "اللدود"، فجعل الحق على الخصوم الذين استغلوا "ما نُشر في الآونة الأخيرة لإيجاد شرخ بيننا وبين حركة أمل، وبدرجة أقل مع التيار الوطني الحر، والتحالف المستجد مع الأستاذ وليد جنبلاط"!. أضاف نصر الله: "أحب (أن أقول)، بشكل واضح ونهائي وقطعي: صحيفة الأخبار ليست تابعة لحزب الله. هي بخط المعارضة ونتعاطف معها". (أورد في موضع آخر من الخطاب إشارة مناقضة تعكس ثقته بويكليكس: "نحن عندما علمنا أن هناك علاقة بين الأخبار وويكيليكس، نحن شجعناهم للحصول عليها"!). ولم يكتف نصر الله بهذا الإعلان، بل أصدر أوامره بسحب عناصر أمن "حزب الله" الذين يحرسون الجريدة، كما سحب فريق عمل الصفحة العبرية المحسوبين على الحزب المذكور (يكتبون غالباً بأسماء مستعارة)، وذلك كله بهدف إرضاء بري.
رابعاً: رغم توالي ظهور وثائق مزعجة تطال الحلفاء، لم يسحب "حزب الله" ثقته بما يرد في وثائق "ويكيليكس"، بل أكد هذه الثقة على لسان أمينه العام، ولكنه قَبـِل بنفي المذكورين من حركة "أمل" و"التيار الوطني الحر" صحة ما ورد على لسانهم، و"حتى ييأس أي أحد من الفصل بينهم وبين حزب الله"، كما قال السيد نصر الله، فيما اعتبر "توبة" النائب وليد جنبلاط ورجوعه عن مواقفه، سبباً مسقطاً لـ "الجرم" عنه، أما كلام الرئيس نبيه بري للسفير الأميركي المنشور في الوثائق، فلم يجد فيه نصر الله شيئاً مشيناً، بدعوى أن بري كان "يناور"، متحدثاً عن تفاهم جرى بينه وبين بري بهذا الخصوص!. (رغم هذا الكلام الإعلامي فقد رفض "حزب الله" عودة الوزير محمد خليفة إلى الحكومة، ما يؤكد قناعته بصدق ما نُشر)!.
خامساً: ما إن أخمد نصر الله ثورة حليفه بري، حتى استأنف إعلام "حزب الله" تمجيده وثائق ويكيليكس، وتبنيه مضمون ما جاء فيها، خصوصاً ما يتعلق منها بالوزير الياس المر (إضافة إلى شخصيات أخرى على رأسها الرئيسين سعد الحريري وميشال سليمان)، لكن الرد هذه المرة جاء من جنس العمل، حيث كتب الياس المر مقالاً افتتاحياً في صحيفة "الجمهورية" (التي أطلقها المر مؤخراً) خيّر فيها نصر الله بين تصديق السفير فيلتمان، وعليه في هذه الحالة أن يتقبل كل ما يرد عنه، وبين أن يقول "إن فيلتمان كذاب"، وبالتالي يخلي ساحة المر من الاتهامات. وأضاف المر في 11/4/2011: "أعيد السؤال إلى السيد نصر الله، ولتكن الكلمة كلمته؛ إذا رأيتم أنّ هؤلاء السفراء كاذبون في ما كتبوه وحلّلوه ونسبوه واستنتجوه، فليكن ذلك، وعليه نعتبر أنّ ما بين أيدينا من وثائق هو من النوع المركّب والمفبرك لتعميق الخلاف بين اللبنانيين، أما إذا تمسّكتم بأن تقارير فيلتمان وسيسون مقدسة ومُنزَلة، فمن حقنا أن نبني على ما لدينا من وثائق خطيرة، على أساس أنها صادقة وصحيحة. الكلمة لكم: فيلتمان "كذّاب" أم لا؟".
مرّ نحو شهر على هذا الكلام؛ قدّم فيها "حزب الله" عملياً جوابه بثقته بما أورده فيلتمان، من خلال مواصلة بث الوثائق التي تكشف مراسلاته، عندها بدأت "الجمهورية" بنشر وثائق مدهشة، لا تـُظهر موقف خصوم "حزب الله" السلبي منه، وإنما موقف حلفاء "حزب الله" السلبي منه! (مواقف الرئيس ميقاتي والعماد عون ونوابه على سبيل المثال لا الحصر).
سادساً: بقي "حزب الله" على قناعته بصدق ما يرد في "ويكيليكس"، لكنه وإمعاناً منه في "البراغماتية"، أضاف سبباً إضافياً لسقوط "الجرم" هو مرور الزمن؛ فغداة نشر صحيفة "الجمهورية" كلاماً منسوباً للرئيس نجيب ميقاتي وصف فيه "حزب الله" بـ "الورم السرطاني" معتبراً أن "هدفه إقامة قاعدة عسكرية إيرانية على البحر المتوسط" (وثيقة بتاريخ 12/1/2008)، قالت مصادر نيابية في "حزب الله" لصحيفة "الشرق الأوسط" إنها: "أخذت بالتوضيحات التي أدلى بها رئيس الحكومة المكلف نجيب ميقاتي بما يتعلق بالكلام المنقول عنه في موقع ويكيليكس، معتبرة أن "ما صدر عنه كلام مر عليه الزمن، وهو وليد مرحلة محددة"!.
سابعاً: في إطلالته الإعلامية الأخيرة – خطاب مارون الراس بتاريخ 27/8/2011- أعاد السيد حسن نصر الله عَرَضاً التذكير بثقته بما كشفته وثائق "ويكيليكس"، معتبراً أنه "بعد ويكيليكس تبين أن الذي كان يدير ثورة الأرز هو فيلتمان والسفير الفرنسي، بالتفاصيل وبالجزئيات، ويا عيب الشوم كانوا يروحوا يحكوا عَ بعضهم عنده، هل هذه هي الحرية والسيادة والاستقلال؟"، وبديهي أن اتهام نصر الله لقوى 14 آذار جاء بناءً لما كشفته "ويكيليكس" عن السفير فيلتمان، أي المصدر نفسه الذي كشف مواقف حلفائه!.
وبناءً على ما سبق كله؛ لا داعي أن يُتعب الرئيس نبيه بري نفسه بإصدار تكذيبات وتوضيحات، فـ "حزب الله" مَحَض -وما زال- ثقته بما تكشفه وثائق "ويكيليكس" عن خصومه وحلفائه (لكن الوصولية تمنعه من اتخاذ موقف من خصومه)، وهو أصلاً يعرف الرئيس نبيه بري أكثر من أي فريق آخر في لبنان، أما باقي اللبنانيين فقد فقدوا ثقتهم بما يصدر عن بري من معلومات ومواقف منذ زمن بعيد... فلمن يصدر بري بياناته؟!.
0 comments:
إرسال تعليق