الثلاثاء، يناير 17، 2012

مدرسة العسكرية المصرية : جمال عبد الناصر صورة من قريب




أحمد عز الدين


تلك صورة من قريب لجمال عبد الناصر ، وهي تلم خيوطا عميقة في مكونات شخصيته ، في أبعادها الإنسانية والقيمية ، قبل السياسية والإستراتيجية .

وهذه الصورة بكل مفرداتها ، تنتسب إلى اللواء / أحمد كامل ، الذي كان آخر مناصبه هو موقع رئيس جهاز المخابرات العامة .

لقد كان أحمد كامل قريبا من فلبي ، لكنه كان أقرب من كبريات الأحداث الوطنية والقومية ، ففي حرب 1948 وجد نفسه في المجدل ، وفي ذروة أزمة الديموقراطية بعد الثورة ، وجد نفسه في معسكر ضباط المدفعية المتمردين ، وفي قلب الوحدة ، كان في الجيش السوري ، وفي محاولة البناء في الستينات ، وجد نفسه محافظا لمحافظتي أسيوط والمنيا ، ثم محافظة الإسكندرية ، وفي قلب محاولة هزيمة الهزيمة ، مع تمرد أجيال من الشباب وجد نفسه مسئولا عن منظمة الشباب ، ثم اختاره السادات بعد رحيل جمال عبد الناصر رئيسا للمخابرات العامة ، وفي غمرة أحداث مايو 1971 ضبط نفسه داخل جدران السجن .


إن دوري في بناء هذه الصورة ، هو دور الصائغ ، ودور العدسة اللامة ، مجرد نسج الخيوط التي تكوّن الحدود والفواصل .

ليس هدفي من هذه السطور أن أدبج دفاعا جديدا عن شخص جمال عبد الناصر ، أو أن أكتب به تعريفا كعسكري ، أو كقائد ، أو كزعيم ، أو كإنسان ، ذلك أنني أحد الذين يؤمنون عن قناعة ويقين ، أن جمال عبد الناصر هو آخر مصري عربي سوف يكون محتاجا على امتداد قرون قادمة ، إلى من يصوغ قصائد مديح فيه ، أو هجاء في خصومه ، أو إلى من يقدم كشف حساب بانجازاته العظيمة ، كما أنني – أيضا – أحد الذين يؤمنون عن قناعة ويقين ، أن جمال عبد الناصر هو آخر مصري وعربي في خضم موجات متصلة من النضال الوطني والقومي تربو على قرن كامل من الزمن ، يمكن لبعض قنابل الدخان أو الأكاذيب أو الجراثيم ، أن تهز أو تمس دوره الراسخ .

لقد نصب جمال عبد الناصر من دوره وفكره ونضاله ، قنطرة تحول تاريخية في حياة مصر والأمة العربية كلها ، وبكل مستوى ، وبكل بعد ، وسوف تظل هذه القنطرة راسخة في موقعها ، لأنها جزء ثابت وحاسم في مجرى النهر الوطني والقومي العظيم ، ومهما تكن الجسور التالية عليها ، مجرد محولات جانبية أو موقوتة ، تخفي تحتها جداول ماء ، أو عواصف رمال .

ومن المؤكد أن جمال عبد الناصر لم يؤلف العروبة ، ولم يبتكر الدائرة الإسلامية أو الإفريقية ، حول الدور المصري ، كما أنه لم يصطنع حركة عدم الانحياز ، فالعروبة والإسلام وعبقرية المكان المصري ، كمسرح استراتيجي كانت جميعها قبل جمال عبد الناصر ، وبقيت وستبقى بعده وبعدنا جميعا ، ولكن القيمة الحقيقية لجمال عبد الناصر في ذلك كله وغيره ، أنه أبصر بعمق ، واكتشف ببصيرة نافذة ، وحاول أن يحول قوانين الطبيعة الكامنة ، إلى ضرورة فاعلة في مرحلة مواتية من التاريخ ، ثم إن جمال عبد الناصر لم يؤلف معادلات القوة في البنيان المصري ، أو العربي ، وإنما استطاع أن يكتشفها ويترجمها ، إلى حقائق بسيطة تكاد تنتسب إلى البديهيات .

مصر قوية على جبهة دولية واسعة ، عندما تمتد طبيعيا داخل نسيجها العربي ، ومصر قوية ونافذة داخل محيط عربي واسع ، عندما تتحصن بوحدتها الوطنية الخالدة ، وتتمثل حاجات محيطها العربي تقدما علميا وسبقا حضاريا وقوة عسكرية.

ومصر قوية ومنتجة ومعطاءة ، عندما تنفتح على إيقاع العصر والدنيا من حولها ، وتشارك دون قعود ، وتتفاعل دون عزلة ، ومصر منتجة ومبدعة ومتوحدة ، عندما يكون العدل في موقع ميزان الحُكم والحَكم ، لأن العدل ظل هاجس المصريين ، منذ أن بدأوا يخضرون أرضا ، أو يلونون أفقا ، أو يرسمون فوق الطين ، وينحتون في البازلت .

معادلات بسيطة ولكنها عميقة ، لأنها نبض التاريخ المصري كلّه...

وحتى بالنسبة لشخص جمال عبد الناصر نفسه ، فقد كان في تكوينه من حكمة هذا التاريخ نذر ليس باليسير ، كبرياء بلا تكبر ، ورحمة بلا تفريط ، وعدل بغير انحياز ، وإيمان بغير كهنوت ، ووطنية بغير عنصرية ، وقومية بدون تعال ، وانتماء إلى القاعدة المنتجة العريضة ، التي كانت سواعدها مشاعل الحضارة دوما .


ولم يكن جمال عبد الناصر قابلا للإفساد ، فقد ظل وحده مصّرا ومتمسكا بأمرين :

• انحيازه الاجتماعي إلى الأغلبية الاجتماعية .
• انتماءه أو لنّقُل امتلائه بدوره كثوري لا كحاكم .

حين اندفعت الدعوات بعد الثورة من أصحاب البيوتات ، وكبار رجال الصفوة الاجتماعية القديمة للاحتفاء بالثوار ، ودخل بعض الثوار من خلال هذه الدعوات إلى نسيج اجتماعي جديد ، رفض جمال عبد الناصر كل دعوة ، وأي دعوة مهما كان صاحبها أو هدفها ، فلم يأكل على مائدة صاحب ثروة أو جاه ، ولم يخالط دوائر الصفوة المترفة ، ولم يعاشرها ، وأقام بينه وبين حياتها اليومية سدا ، لم ينجح أحد مرة واحدة في اختراقه ، ولم تجذب جمال عبد الناصر كغيره اللقمة الطرية ، والحياة الرغدة ، بل استمر يواصل حياته كما كانت قبل الثورة ، يأكل اللقيمات نفسها ، ويرتدي الثياب نفسها ، في حين كان غيره قد غير طعامه وشرابه ، ودوائر أصدقائه ومعارفه ، وجلده قبل ثيابه .

ولم يفرض جمال عبد الناصر ذلك كله على نفسه فقط ، بل فرضه على أسرته وأهله ، إخوانا وأعماما وأخوالا ، وكانت علاقته بهم تنطق بذلك كله ، وكأنه كان يطبق تلك الحكمة المصرية الخالدة : " إن السمكة تفسد من رأسها " .

ولست أريد أن أتحدث عن تلك القصة ، التي تحدثت عن حب جمال عبد الناصر لابنة إقطاعي ، وعن محاولته الانتساب إلى هذه الأسرة ، ثم فشله ، فلم تستأثر الطبقات المتخمة بفكر جمال عبد الناصر ، ولم يكن في مقدورها أن تأسر شعاعا دافئا من قلبه ، فضلا عن أن يسعى للانتماء إليها .

سوف أبدأ بالاقتراب من تلك الدائرة الصغيرة لعلاقته بأهله المقربين ، لقد ذكرت أن أول كلمات قالها ، حين فاتحني في أمر تعييني محافظ لأسيوط ، كانت طلبا متشددا بأن أعامل أهله وأقاربه بشدة ، وأذكر بعد ذلك وأنا محافظ لأسيوط أن اتهم أحد الفلاحين عمه طه ، بأنه استولى على فدانين من أرضه ، وطالبت من عمه أن يرد الفدانين على الفور ، وقام بردهما إلى صاحبهما ، فقد كان يعلم أن الأمر لو وصل إلى ابن أخيه الرئيس ، فلن تأخذه به رحمة ، وعندما وصل إلى جمال عبد الناصر ذات يوم خبر تأخر أحد أقاربه في دفع الضرائب ، اتصل به بنفسه ، وأمره بأن يدفع الضرائب فورا ، ولم يجد القريب بديلا عن أن يستجيب ويدفع ما عليه .

أذكر بعد ذلك أن أخاه عز العرب عبد الناصر ، قد كلمني بكلمات وسط آخرين ، وأنا محافظ للإسكندرية ، اعتبرتها غير لائقة بل ومهينة ، ورغم أنني رددت عليه ردا بالغ القسوة ، فإنني لم أتحمل ما حدث فاتصلت بسامي شرف وأبلغته بالحكاية ، وقلت أنني لا استطيع أن أقود المحافظة بعد هذا ، وقدمت استقالتي إلى الرئيس بالفعل ، ولم انتظر رده عليها ، وإنما ذهبت واعتكفت في منزلي .

وحين عرف جمال عبد الناصر ثار ثورة عارمة ، لم يقبل الاستقالة أولا ثم اتصل بأخويه ثانيا ، وأمرهما بأن يذهبا إلىّ ، وأن يقدما اعتذارا علنيا ، أمام الأشخاص أنفسهم الذين جرى الحديث السابق في حضورهم ، وقد فعل أخواه ذلك بالفعل ، ولم يكتف جمال عبد الناصر بذلك ، فحين حضر إلى الإسكندرية لتشييع حنازة عمه خليل ، وتقبل العزاء ووقف مودعا في محطة سيدي جابر ، اختار أن يسألني مشيرا إلى أخويه ، وعلى مرأى ومسمع من الجمع الكبير ، على رصيف المحطة : " كيف أحوالهما معك الآن ؟.

قلت : كل خير .

قال بصوت تعمد أن يكون عاليا :

" إنني أقول لك أمامهما ، أياك وأن تسمح لهما بأي خطأ ، لأنني لا أسمح ولا أقبل"

ومع كل هذه الشدة ، فقد كان حنونا وعطوفا معهم ، ويكفي أن أورد حادثة واحدة للتدليل على ذلك ، كان جمال عبد الناصر عائدا لتوه من رحلة استشفاء في " أسخالطوبو " بالاتحاد السوفيتي ، وكان يعاني من آلام مبرحة في ساقيه ، تفرض عليه قيودا شديدة في الحركة والتنقل ، وقد حدث وتعرض أخوه الليثي عبد الناصر وزوجته لحادثة سيارة ، في طريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي ، وحين نقلتهما سيارة الإسعاف ، على أحد مستشفيات الإسكندرية ، أصررت أن أبلغ مكتب الرئيس ، رغم أن الوقت كان متأخرا جدا ، وبعد دقائق اتصل بي الرئيس ، لم يسأل أية أسئلة إضافية ، ولكنه قال على الفور : " أحمد أنا قادم بالسيارة الآن إلى الإسكندرية " ، حاولت أن أثنيه عن عزمه ولكنه لم يستجب ، ووصل بالسيارة إلى الإسكندرية في حوالي الثانية صباحا ، ذهب إلى المستشفى مباشرة ، وأمضى بعض الوقت مع أخيه ، وفي حوالى الرابعة ذهب ليأخذ قسطا من الراحة في استراحة بالمعمورة ، لكن لم تمض غير ساعة واحدة حتى اتصل بي أطباء المستشفى ، يقولون أن نتيجة الفحوص ، تفيد بضرورة أن يتم إجراء جراحة لليثي عبد الناصر ، لاستئصال طحاله الذي تهتك تماما من جراء الحادثة ، ترددت في إبلاغ الرئيس ، ولم يكن ثمة بديل عن الاتصال به في الخامسة صباحا ، وكان رده : إنه قادم إلى المستشفي على الفور ليكون إلى جوار أخيه ، عند إجراء الجراحة ، وحين حضر إلى المستشفى مع خيوط الفجر الأولى وناقش الأطباء واقتنع ، أدخل الليثي إلى غرفة العمليات ، فوجئت به بعد فترة يهمس في أذني قائلا : " أحمد ... هل نجد هنا لقمة نأكلها ؟ "

ذهبت إلى مدير المستشفى أسأله عن طعام ، ونجح مدير المستشفى بعد فترة في أن يرسل صينية عليها طبق من الجبن وبضع قطع من الكعك ، وفوجئنا جميعا بجمال عبد الناصر ، يأخذ في توزيع قطع الكعك والجبن على الحاضرين جميعا ، واحدا واحدا ، مصّرا على أن يأكل الجميع .

والحقيقة أن تلك الصورة التي حاول البعض ، أن يرسمها ويوزعها لعبد الناصر المتحجر المشاعر القاسي القلب ، هي صورة مزورة تماما ، فلقد كان جمال عبد الناصر كإنسان ، يفيض رقة وعذوبة لدرجة يصعب تخيلها .

في أول أيام الثورة ، كانت هناك طائرتان من سلاح الجو المصري ، ومن طراز " لانكستر " الإنجليزي ، عائدتان من مهمة في الهند ، ولأسباب فنية سقطت الطائرتان داخل الأجواء المصرية فوق صحراء ألماظة ، ولم تكن المشكلة هي فقد الطائرتين ، ولكن فقد الطيارين ، فقد كان يصعب على الطيار في هذا النوع من الطائرات أن يغادر مقعده ، عندما يصبح الخطر محدقا ، ولهذا استشهد الطيارين احتراقا داخل هيكلي الطائرتين ، وعندما نقل الخبر إلى جمال عبد الناصر ، اعتصره ألم حاد في معدته ، ثم انتابته نوبة من القئ الشديد ، واستمر هذا حاله ، كلما نقل إليه خبر حزين يتعلق برجل أو مقاتل ، فقد حياته فوق ساحة الشرف ، وحسب رواية الفريق أول محمد فوزي لي ، فإن جمال عبد الناصر كان يتألم ألما شديدا ، كلما نقل إليه خبر استشهاد طيار مصري ، أثناء حرب الاستنزاف ، سواء كانت الحادثة أثناء التدريب ، أو أثناء اشتباك جوي مع طيران العدو ، بل كان يلح على " فوزي " بأن يضع ضمانات أشد في كل حالة ، حرصا على حياة الضباط والجنود ، وتأمينا لهم ، وعندما اتسعت أقواس النيران ، وتعمقت الدوريات المصرية ، التي كانت تعبر القناة ليلا ، وتخترق دفاعات العدو على الضفة الأخرى ، لتقوم بعمليات فدائية في سيناء ، كان جمال عبد الناصر يظل مستيقظا طوال الليل إلى جوار التليفون ، حتى يبلغه القائد العام للقوات المسلحة ، بتمام عودة الرجال من مهمتهم القتالية في سيناء ، وكان ذلك لا ينطبق فقط على وحدات العبور الأرضية ، وإنما كان ينطبق أيضا ، على المهام التي تقوم بها طائرات الاستطلاع ، أو الوحدات البحرية كالسفن أو الغواصات ، وكان عبد الناصر في أعقاب كل مهمة ، يتوقف طويلا أمام أسماء ويسأل متألما عن الأسباب ، وكيف يمكن تجنبها ، ويمارس ضغطا على القائد العام للقوات المسلحة ، حتى يحول دون تكرارها .

وحين أبلغته يوما بأن ضباط الصواريخ يقولون أنهم يعرضون لأوضاع انتحارية ، أثناء عمليات دفع قواعد الصواريخ إلى الحافة الأمامية من الجبهة ، وأنهم يقدمون تضحيات عالية جدا ، لم يكتف جمال عبد الناصر بسؤال القادة العسكريين ، بل وسع من دائرة اجتمعاته مع ضباط الدفاع الجوي ، حتى مستوى قادة الكتائب الميدانية ، ليناقشهم ويسمع منهم ، ويتعرف على ظروف قتالهم الصعبة ، وما يرونه لإنجاز المهام القتالية المطلوبة دون خسائر قدر الإمكان .

أما فيضان ألمه وحزنه ، فقد وصل إلى ذروته عندما استشهد الفريق أول عبد المنعم رياض ، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية ، في موقع قتالي متقدم على جبهة القتال ، أثناء حرب الاستنزاف ، وهو حزن وصفه القريبون منه بأنه أكثر مرارة من أي مرة ، فقد فيها قريبا عزيزا على قلبه .

يرسمون – أيضا – صورا مختلفة لعبد الناصر الديكتاتور ، المتشبث برأيه والمصر على وجهة نظره ، أو ما يعتقد أنه الصواب ، وتلك – أيضا – أكثر الصور المزورة والمتداولة عن عبد الناصر ، فلم يكن الرجل متصلبا في رأي ، ولم يكن هدفه من أية مناقشة ، أن يدلل على سلامة وجهة نظره ، وعطب آراء الآخرين ، بل كان هدفه في كل حوار أن يصل إلى الصواب ، ولهذا كان مستمعا من طراز فريد ، ومناقشا من الدرجة الأولى ، وما أكثر المرات التي رأيت فيها جمال عبد الناصر ، وهو يتراجع عن رأي كان قد أبداه في بداية نقاش ، بعد أن استمع وأنصت وتأمل ، فلم يكن يخشى أو يكابر ، من أن يبدو رأيه في موضع الخطأ ورأي غيره في موقع الصواب ، وكان في مناقشاته هادئا لا يظهر انفعالا ، ولا تشبثا نهائيا باقتناع ، ولا يسخر من غيره حتى إذا كان قوله يستحق أن يُتهكم عليه .

والذين يقولون أن أعضاء الوزارة ، لم يكونوا متحمسين لمناقشته أو إبداء آرائهم في اجتماعات مجلس الوزراء برئاسته ، يذكرون نصف الحقيقة ، فمن المؤكد أنه كان من الصعب على الوزراء الذين يعملون مع جمال عبد الناصر أن يناقشوه ، ولكن ذلك لم يكن يرجع إلى أنه يضيق برأي معارض أو مختلف ، أو أنه كان يتعمد مصادرة رأي غيره ، أو يخنق فرص الحوار ، فالحقيقة أنه كان يلح على الآخرين ، ومن بينهم الوزراء ، لكي يبدو بأوسع مدى ممكن وجهات نظرهم ، وأن يناقشوه فيما يطرح من تقديرات ، ولكن ذلك كان يبدو دائما مغامرة غير محسوبة ، ومحفوفة بالمخاطر ، إذ كان كل وزير يدرك عن يقين ، أن جمال عبد الناصر قد دخل إلى اجتماعات المجلس ، وقد درس كل قضية ، وكل ما يتعلق بسلبيات العمل ، أو أوجه قصوره ، وبالتالي فليس ثمة فرصة لتغطية عجز أو قصور.

ولم يضق جمال عبد الناصر مرة واحدة برأي مخالف لرأيه ، تم عرضه عليه ، كما أنه لم يصادر وجهة نظر كانت تتلمس طريقا صحيحا إلى الصواب ، الذي كان همه الحقيقي في كل حوار ، كما قلت .

ولم يكن في جمال عبد الناصر أي حس ثأري ، ولم يتعامل مع غيره بهذا الحس ، مهما كان الخطأ أو كانت الخطيئة ، بل استطيع أن أقول أن جمال عبد الناصر ، كان شديد التسامح ، وكان تسامحه لا يسمح بأن تتكون في داخله الضغائن ، ولم تكن أية محاكمة مما أقامها للذين خرجوا على نظامه هدفها الانتقام ، بل كان يقول دائما : " نحن نشد الأذن فحسب ، لأن هدفنا ألا يخطئ الناس " ولم يكمل أحد فترة الحكم عليه ، ولم يخرج أحد من سجنه دون أن يعيده إلى وظيفته ، أو يتلمس له وظيفة جديدة ، وفيما أعرف ، فلم يلجأ أحد ممن أضيروا إلى جمال عبد الناصر إلا أنصفه ، وأصلح من وضعه ، ولم يطلب منه أحد سؤالا أو حاجة ، ورده دون أن يجيبه .

كانت ذاكرته تختزن كل شئ ، الوقائع والأحداث والألوان والأشخاص ومئات التفاصيل الصغيرة ، ولهذا كان دقيقا جدا في عمله ، يقرأ كل ورقة ترفع إليه ، وكل تقرير ، ويرد تفصيلا على كل مذكرة ، وعندما كنت أرفع إليه تقارير التنظيم الطليعي ، التي تغطي محافظات مصر بشكل يومي ، كان يرد عليها في اليوم نفسه ، ولم يكن يرد على كل تقرير ككل ، وإنما كان يكتب ويؤشر ويتخذ القرارات ، أمام كل بند من بنود كل تقرير على حدة ، وفوق كل ما يقرؤه من مئات الصفحات ، التي تشكل تقارير أجهزة الدولة المختلفة إليه يوميا ، فقد كان قارئا مثقفا من طراز فريد ، فلم يصدر كتاب مهم في العالم أو في مصر ، إلا وكان جمال عبد الناصر في مقدمة قرائه ، محرضا غيره على قراءته ، لقد أمر جمال عبد الناصر ذات يوم في أعقاب هزيمة 1967 ، بأن تجمع له جميع الكتب التي تصدر في جميع أنحاء العالم ، عن حرب 1967 ، وكان عدد الكتب التي جمعت وقرأها عن الهزيمة وحدها ، 148 كتابا ، وحين فرغ من قراءتها أرسلها على الفريق أول " محمد فوزي " ليقرأها ، ثم فرض عليه أن يناقشه فيها كتابا بعد كتاب .

أريد أن أضيف أيضا ، لأولئك الذين لم يعرفوا جمال عبد الناصر عن قرب ، أنه كان يحكم نفسه بمجموهة متسقة ومتماسكة ، من قواعد الأخلاق والمثل العليا ، وأنه لم يخرج عنها يوما ، كان سياسيا محترفا ، ولكن السياسة بالنسبة له لم تكن لعبة خارج نسق القيم والأخلاق ، فلم يتلّون جمال عبد الناصر ، ولم يظهر بوجهين ، وإنما كان واضحا صريحا مباشرا ، يظهر ما يبطن ، ويقول ما يؤمن ، ويدافع عما يعتقد حقا أنه الصواب ، صادقا مع نفسه ومع من حوله ، ومع الناس جميعا .

وأعتقد – أيضا – أن مصر قبل جمال عبد الناصر ، قد دفعت ثمنا لمنظومة القيم ، التي آمن بها جمال عبد الناصر ، كما دفعت ثمن جانب آخر في بنائه وتكوينه الشخصي ، قد لا يعرفه إلا الذين اقتربوا منه ، إلى حد الالتصاق به .

كان جمال عبد الناصر تأسره الأشياء التي يعاشرها قبل الأشخاص ، وكان في تكوينه شئ يسمح بسطوة الالفة التي تفرضها عليه حرارة صلته بما يلمسه بحواسه ، أو يتلامس معه بوجدانه .

من يصدق أن جمال عبد الناصر ، احتفظ بساعة يده التي حوصر بها في الفالوجا ، وشاركت ساعده ضبط التوقيت ليلة الثورة ، وأنها ظلت في مكانها بيده لسنوات طويلة .

ومن يصدق أن جمال عبد الناصر ، لم يتخلص من سيارته الأوستن الصغيرة ، التي كانت وسيلته للتنقل قبل الثورة ، وحتى عندما تآكلت وانتهت ، أصر أن توضع في جراج رئاسة الجمهورية ، لتكون قريبة منه ، وقد ظلت في مكانها سنوات بعد رحيله عن عالمنا .

شئ من هذا كله يصلح تفسيرا وحيدا لعلاقات جمال عبد الناصر بعدد من الأشخاص ، وبسطوة الألفة التي مارستها هذه العلاقات عليه ، ولا أظن أن علاقته بعبد الحكيم عامر في تقديري ، تبعد كثيرا عن معاني وأسباب هذه السطوة .

أستعيد الآن آخر لقاء بيني وبين قائد الثورة ، كان عائدا على عجل بالقطار من مرسى مطروح ، بعد لقاء مع العقيد القذافي ، ليحاول أن يلم تداعيات الموقف ، إبان أزمة منظمة التحرير مع الأردن الشقيق ، في سبتمبر 1970 ، وصلت الإشارة من مرسى مطروح بأن الرئيس سيتوقف بالقطار في محطة المنتزة ، ليكمل سفره إلى القاهرة بالسيارة ، وأنه يطلب ألا يكون في استقباله أحد إلا المحافظ فقط .

ووقفت في محطة المنتزة وانتظرته ، وحين هبط من القطار كان على وجهه سيماء حزن طاغ ، كان وجهه ينطق بكلمات قدر لي أن أسمعها منه قبل ذلك بشهور قليلة.

" إنهم يريدون أن يحطمونا .. يريدون أن يدمرونا "

لم يعد أمامنا طريق سوى أن نحارب ، وحتى لو نجحوا في تحطيمنا في هذه الحالة ، فسوف يحطموننا ونحن شرفاء "

من المؤكد أن جمال عبد الناصر مات ، وهو في قلب ساحة الشرف ، مخلفا وراءه مجدا عظيما لشعبه وأمته ، وللإنسانية جمعاء ، رغم أن جسده وجسد وطنه ، كان مثخنا بالجراح .

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية