وكما هو معلوم، يَشيع أنّ النظام السياسي التونسي منذ الاستقلال علماني، متأثّر بالتجربة الأتاتوركيّة تحديداً، وخاصة مع المرحلة البورقيبية. وهذه الخاصيّة تعني أنّه يرفض التديّن السياسي الطامح بدوره إلى سدّة الحكم، وانطلاقاً من سياسة النظامين بعد الاستقلال يمكن التأكيد على أنّهما لا يفرّقان مبدئيّاً بين المجموعات الدينيّة مهما كانت طبيعتها، والدّليل أنّ نظام بورقيبة، وابن علي، كان أحد أقوى أركانه في الثمانينيات، ركب موجة العداء الواسعة للثورة الإيرانيّة، وصار يوجّه تهمة "خميني" لكلّ من يعارضه بخلفيّة دينيّة.
ولا شكّ عندنا أنّ السياسيين التونسيين يتخوّفون من تعدّد مذهبي قد يجرّ البلاد إلى صراعات مريرة عرفتها بعض دول العالم، إن عرقيّاً أو دينياً. وبالتوازي مع ذلك ارتبط الموقف التونسي من الشيعة وإيران بمواقف دول تربطه بها مصالح مالية واقتصاديّة مثل المملكة السعوديّة.
ويذكر محدّثنا محمد بن عبد الله أنّ انتصار السلطة "العلمانيّة" في تونس على التيار الدّيني السنّي، مع التسعينات، خفّف الضغوط على الشيعة دون أن يستثنيهم من استهدافاته، باعتبارهم جزءاً من الحركة الدينيّة الحالمة بالسلطة في تقديره، وبسبب هذا الوضع المعقّد قال محاورنا عبد الحفيظ البناني: إن الشيعة في تونس لم تكن لهم في هذه المرحلة علاقة بالسياسة، بل هي محرّمة عليهم.
هدفهم الأوّل والأخير في هذه الظّروف، الاحتفاظ بالهويّة الشيعيّة ودعمها ببعض الأنشطة الثقافيّة السريّة، ومنها التعرّف إلى أفراد المذهب وشدّ أزرهم. وعند سؤالنا للبناني حول تحرّكات بعض الشخصيات الشيعيّة وظهورها للعلن مثل التيجاني السماوي وامبارك بعداش وثنائهم على نظام ابن علي قبل هذه المرحلة الانتقاليّة التي تعيشها تونس، ردّ محاورنا: إنّ ما صدر عنهما "هو شهادة زور ليتقرّبا من الحاكم، اعتقاداً منهما أنّ ذلك يوفّر هامشاً من الحريّة".
واعتبر البناني أنّ "ما كان يأتيه امبارك بعداش في حسينيته بالحامّة من تسجيل لأسماء زوّاره الشيعة وأرقام هواتفهم وتسليمها للأجهزة الأمنيّة جعله تدريجياً في عزلة، لأنّه خالف أهمّ مبدأٍ دعوي هو التقية". في كلمة، أجمع محاورونا على أنّ التشيّع في تونس كان في هذه المرحلة تهمة أخلاقيّة يعاقب عليها القانون والمجتمع.
يمكن القول إن أغلب الشيعة شأنهم شأن كلّ التونسيين، يشعرون أنّ وضعهم بعد هذا التاريخ أصبح أفضل. وقد تجلّى ذلك في تحرّكاتهم وتصريحاتهم ومطالبهم، فقد خرج العديد منهم إلى العلن ليدافع عن خصوصياته الثقافيّة والفكريّة، وفي المقابل تؤكّد أمينة عجرود (مربيّة) أنّ عدداً هاماً منهم بقي يتوجّس خيفة من مصير هذه الهبّة الشعبيّة التي لم تتحوّل بعد إلى ثورة بمعناها الحقيقي، وتمثّل هذه الوضعيّة خطراً على المتشيّعين إن هم كشفوا أنفسهم.
وقد ركّز الذين أعلنوا هويتهم المذهبيّة على الجانب الثقافي، وتجسّم ذلك في تقديم أربع مطالب للحصول على جمعيات ثقافيّة، تحصّل ثلاثة منها على ترخيص وهي جمعية أهل البيت الثقافية ويرأسها عماد الدّين الحمروني وجمعيّة مودّة ويرأسها عبد الحفيظ البناني وجمعيّة الرابطة التونسيّة للتسامح ويرأسها صلاح الدين المصري، ولا تزال جمعيّة الكلمة الطيبة تنتظر الموافقة، وصرّح لنا البناّني أنّ الهدف من إنشاء جمعيته هو تحقيق تراث أهل البيت في تونس وإحيائه، وأكّد عزم جمعيته على تحديث الخطاب الشيعي التقليدي المتشنّج والتكفيري. وقد اعتبر هذا العمل محاولة منه لمراجعة مفهوم التشيّع وفتحه على الإيمان بالحداثة والمحافظة على الهويّة.
وحول تصوّره لطبيعة الأنشطة الثقافيّة قال البناني "يجب تحييد المساجد عن كلّ دور سياسي أو ثقافي وتخصيص نواد تابعة للجمعيات المرخّص لها وفق قانون أساسٍ ينظّمها".
وأكّد على ضرورة حصر أهداف هذه الفضاءات في مراجعة مفهوم التشيع في جغرافيّته التونسيّة، واقترح البنّاني مثلاً العمل على تهذيب الاحتفالات والطقوس بما لا يصدم مشاعر التونسيين، كالضرب واللطم بالسلاسل المنتشر في الشرق، ودعا إلى ربط طقوس الحزن على الأئمّة بمظاهر الحزن التونسيّة، أي"تونسة الشعائر".
وأصدرت جمعيّة أهل البيت الثقافيّة مجموعة من البيانات بخصوص ما يحدث في تونس، وأورد الموقع الرسمي للجمعيّة بيانين بتاريخ 12 و13 جانفي 2011. وورد البيان الأوّل بعنوان" لا لقتل أبناء شعبنا ولا للتدخل الأجنبي" وأهمّ ما جاء فيه " إنّ ما يحصل اليوم من قتل و ترهيب و اعتداء على أمن الناس العزل في وسط البلاد وجنوبها و في ضواحي العاصمة الفقيرة هو إعلان لفشل سياسة اجتماعية واقتصادية غير عادلة ومنافية لهويتنا الدينية والقومية ، سياسة خدمت مصالح فئة قليلة ارتبطت منذ زمن بعيد بالاستعمار الفرنسي وكرّست هيمنة بعض الجهات والعائلات والشخصيات على مقدراتنا وثرواتنا ومكتسباتنا الوطنية.
إنّ فقراء تونس وخصوصاً الشباب يريدون حقهم في العيش الكريم وبناء مستقبل يتوافق مع هويتهم العربية الإسلامية".
يبدو هذا الخطاب منسجماً مع الإطار العام للأحداث في تلك الفترة، متوازناً في تشخيصه لما يحدث، ويعبّر عن هواجس شرائح واسعة من المجتمع. وتميّز بقدر من الجرأة في توصيف الواقع.
ويمكن أن نعتبر هذه النبرة في الخطاب نقلة هامة في تعامل الجمعيّة مع شؤون البلاد، ولا شكّ أنّ تقدير الحالة التي يمرّ بها نظام ابن علي في تاريخ للبيان، كان دافعاً رئيساً لهذا التحوّل؛ فالتونسيون كانوا يحتاجون هذا الكلام قبل هذا التاريخ. ويمكن القول: إنّ خطاب هذه الجمعية الثقافيّة وتحوّلات مواقفها هو نموذج لمواقف الأغلبيّة الساحقة للنخبة التونسيّة بمختلف خلفياتها الفكريّة.
0 comments:
إرسال تعليق