"في تلك اللحظة تمنّيت ألف مرّة لو أموت"، عبارة تختصر الظلام الدامس الذي اختبرته الطالبة شيرين (ه.) لحظة اكتشافها أنها حامل. وما زاد مآسيها بلّة، ردّة فعل والديها التي لامست "الهستيريا" على حدّ تعبيرها. "في البداية لم أفهم ما يحدث، سوى أنّ الشتائم والإهانات وحتى الركلات كانت تنهال عليّ من كل حدب وصوب، وتحديداً من والدي الذي ترك عمله في المهجر وعاد على بغتة".
فريسة... أقلّ من سهلة
معرفتها لحملها شكّلت محطة مفصلية في حياتها وقلبتها رأساً على عقب، إذ توقفت عن متابعة علمها، وتركت منزل ذويها الكائن في سن الفيل لتمضي فترة حملها في منطقة نائية في الشمال عند جدّتها بعيداً من عيون الناس وألسنتهم. وبغصّة تخبر: "لا أذكر يوماً أنّ والدتي حدثتني عن الحياة الجنسية، أو نبّهتني إلى خطوطها الحمر. كوّنت ثقافتي السطحية من خلال متابعتي للأفلام التلفزيونية، إضافة إلى ما فهمته من معلّمة علوم الحياة في الصف. لذا كلّفتني قلّة درايتي واستدراجي لإقامة علاقة جنسية ثمناً غالياً، فكنت فريسة أقلّ من سهلة".
لا تنكر شيرين أنّ سيفاً من الأحزان حزّ في قلبها، ولا سيّما بعد عيشها صراعاً نفسياً طويلاً بين الاحتفاظ بالجنين أو إجهاضه، فتقول: "بعدما صارحت أهلي، حاولت والدتي إقناع إبن جيراننا بالوقوف أمام مسؤولياته والارتباط بي، علماً أنّ كلاً منا من دين مختلف، لكن مساعيها باءت بالفشل". لذلك فكرت شيرين ملياً في أن تجهض الجنين غير متقبّلة فكرة أن تكون أماً عزباء، إلا أنّ إصغاءها لخفقات قلبه في كلّ مرة زارت فيها الطبيب كان يشعل كيانها ويزيدها حماسة للتعرّف إلى ملامح وجهه.
إبنتي ... شقيقتي
تسعة أشهر مرّت وكأنها 9 أعوام من الانتظار في نظر شيرين، إلى أن أنجبت ابنة، "سمّيتها نور، علّها تخرجني من ظلمتي، وتدحر عني مآسي الحياة وما ينتظرني من تحدّيات". ولكن على رغم "قطوع الولادة" على خير وسلامة، إلا ان معاناتها دخلت حيّزاً جديداً.
اليوم وبعد مرور 8 أعوام، لا تزال الغصّة تعتصر قلب شيرين، ولا سيّما أنّ "الجمرة ما بتحرق إلا مطرحا" على حد تعبيرها، وتوضح: "تترعرع اليوم نور أمام عيني على أساس أنها شقيقتي، بعدما اضطر والداي إلى تسجيلها بإسمهما بما أنّ والدها رفض الاقتران بي والاعتراف بها".
علاقات متعدّدة ولكن...
"الحبّ وحده غير كاف، وكلما اقتربنا منه نحترق"، هذا ما خرجت به فاطمة (خ.) من خلاصة بعد خوضها تجربة علاقة حبّ حوّلتها إلى "أم عزباء محطَّمة، خالية الوفاض" على حدّ تعبيرها. وبشيء لا يخلو من الخيبة والتحسّر تخبر: "لم تكن أحوالنا المادية جيدة، ولا سيّما أنّ والدي مقعد، لذا ترعرعت في أجواء من الحرمان المادي والعاطفي، أبحث عن أقرب برّ أمان يأويني".
عملت فاطمة في مجال التجميل متنقّلة بين البيوت نهاراً، غير موفرة أي دعوة للخروج ليلاً، فتقول: "أعترف أنه كان لي علاقات متعدّدة، ولكن سرعان ما كنت أضع لها حداً حين أشم رائحة عدم جدية واستغلال، إلى أن تعرّفت الى محمود ف.".
تَوقها للخروج من تحت سقف والديها جعلها تصرف النظر عن ملاحظات كثيرة وشوائب كانت تلفت انتباهها، ولا سيّما أنّ حبيبها كان يكثر من أسفاره بحجّة البحث عن وظيفة تمكّنه من الاقتران وامتلاك شقة.
... لذلك سلّمته ذاتي
وبعد مرور نحو عامين على علاقتهما، ووعده المتكرّر بالاقتران بها قريباً، "لم أجد ما يمنع أن أسلّمه ذاتي، لاعتقادي أنّ ذلك يقرّبه مني ويعجّل في ارتباطنا". لم تكن فاطمة تقدّر في تلك اللحظة عواقب تجاوبها مع رغبات محمود الجنسية، بل كانت تتوق للاستقرار معه. ولكن لم يكد يمرّ شهر حتى صارحها بالحقيقة، أنّ له عائلة وأولاداً في الخارج وأنه ليس في وارد الارتباط بها.
تعترف فاطمة وهي حامل في أشهرها الاولى أنها جنت على نفسها، وكانت "دعستها ناقصة"، ولا شيء يمكن أن يثلج صدرها، فتخبر والدمعة تعتصر قلبها: "ليس هناك أصعب من أن تكون المرأة أماً عزباء، غير مرغوب فيها ولا سيّما من الشخص الذي من المفترض أن يكون زوجها، ويخفف من وحشتها".
تصارع فاطمة الحياة وفي بالها ألف سؤال من دون جواب: "هل أعاقب نفسي وأجهض الجنين؟ ماذا لو لان قلب حبيبي وعاد عن قراره ليبحث عني؟ ماذا لو سألني طفلي "أين بابا"، فماذا سأجيبه؟...
وغيرها من الأسئلة التي تنسيها طعم النوم، خصوصاً بعدما طردها والدها من المنزل لتنتقل إلى العيش في بيت عمّها الكائن في كورنيش المزرعة، غداة علمه بأنها حامل.
أم عزباء... لهذه الأسباب
من جهتها، توضح الأخصائيّة في علم النفس العيادي مريان عيد، الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الأم العزباء، فتقول: "عموماً نقف أمام فئتين من الأمهات العازبات، الأولى تعاني نقصاً في وعيها للقضايا الجنسية وإدراكها لأساليب الوقاية فتصبح حاملاً عن طريق الخطأ، والثانية تملك رغبة باطنية غير واعية لتصبح أماً، حباً بتغيير واقعها الاجتماعي وزيادة الثقة بنفسها، وكسب تقدير الناس". وتتابع موضحة: "في كلا الحالتين غالباً ما تكون الأم العزباء في مرحلة المراهقة، لذا يبدأ العلاج من خلال مساعدتها على تقبّل صورتها كأم، ولا سيما أنها لم تعش مرحلة الشباب وتحقيق الذات".
وتشير عيد إلى أنّ "الأم العزباء في حاجة أكثر من غيرها للمساعدة، كونها تعيش فترة من التقلّبات النفسية نتيجة التغيّرات التي تطرأ عليها، بالتزامن مع رفض المجتمع لحالتها الاجتماعية".
وللطفولة... رواسب
وعمّا إذا كان لمرحلة الطفولة من أثر في الاستعجال، تجيب عيد: "لا شكّ في أنّ العنف المنزلي، الحرمان العاطفي، التحرش الجنسي، قلّة الثقة بالنفس، وغيرها من المشاكل والظروف التي يمكن للفتاة أن تختبرها في منزل ذويها، تزيد من مخاطر انتقالها إلى "أم عزباء"، إضافة إلى عوامل أخرى منها التسرّب المدرسي، عدم الوعي الجنسي والعوز المادي".
وتلفت عيد إلى أنّ معاناة الأم العزباء قد تتضاعف بالتزامن مع التقلّبات النفسية التي تعيشها ما لم تجد سنداً لها: "ما يزيد من شدّة معاناتها هو الصراع النفسي الذي تعيشه بين الاحتفاظ بالجنين أو التخلّي عنه. وفي مرحلة لاحقة تعيش صراعاً غير واع مع والدتها، إذ تسعى إلى التشبّه بها بصرف النظر عن مدى سلامة أساليب تربيتها".
وهل يحلّ الفرج بعد ولادة الطفل، تجيب عيد: "يختلف ذلك بحسب وعي الأم وجهوزيتها النفسية، ولا سيّما أنّ خوفها على مستقبل ولدها قد يبقيها في منطقة مشوّشة ومضطربة".
أمّا عن النصائح والإرشادات لكلّ أم عزباء، فتشدّد عيد على أنّ "الندم والبكاء لا ينفعان، ولا بدّ من مواجهة الواقع والتأقلم معه قدر المستطاع، والتوجه إلى معالج نفسي أو إلى جمعيات ناشطة في هذا المجال".
من يأويهم؟
في وقت يتكتّم المجتمع على هذه الظاهرة وتداعياتها، تكبر معاناة الأمهات العازبات ككرة ثلج وتتنوّع رواياتهن، منهنّ من ينتقمن لوضعهن الاجتماعي المستجد، فيسعين بشتى الوسائل إلى التخلّص من الجنين، وأخريات يخضن غمار هذه التجربة بكلّ ما أتيح لهنّ من وسائل للتخفيف من مرارتها.
"جماعة مريم ومرتا" واحدة من الجمعيات القليلة في لبنان، التي تعنى بهذه الفئة من النساء إلى جانب المهمّات الأخرى التي تقوم بها. وتوضح مديرة الجمعية رلى أبو ديوان، "أنّ الفكرة انطلقت بعد تبلغ الكاهن خليل أبو كسم وجود حالات اجتماعية خاصّة ومعقدة، منها الزوجات المعنّفات، ضحايا سفاح القربى، المسجونات السابقات، ضحايا الدعارة الظرفية... والأمهات العازبات".
قبل أن تبني مركزاً لها وتستقرّ في عجلتون، انطلق عمل الجماعة هذه من شقة في عين الرمانة، ومع تزايد الحالات الاجتماعية الخاصّة، تم الانتقال في العام 2009 إلى مركز مجهّز وقادر على استيعاب 50 امرأة. في هذا السياق، لا تخفي أبو ديوان خشيتها من تدني عدد الأمهات العازبات المستفيدات من خدمات الجمعية، فتقول: "قد يرى البعض أنّ في ذلك مؤشراً إيجابياً، ولكن من جهتنا، ذلك يثير الريبة والشك، ويطلب منا مراقبة الواقع عن كثب، وسط "التابوهات" التي تكتنف مجتمعنا، قد تجد الفتيات أنّ التوجه نحو الإجهاض الوسيلة الأفضل والأقل ثمناً، في حين أنّ الهدف الأول الذي نعمل عليه مع الأمهات العازبات في الجمعية هو التأقلم مع الواقع وعدم الإجهاض".
بين مزدوجين... قانون مخجل
في العام المنصرم استقبلت "جماعة مريم ومرتا" نحو 8 أمهات عازبات، فتخبر أبو ديوان: "لا نستقبل إلا الفتاة التي جاءت بكامل إرادتها إلى الجمعية بحثاً عمّن يأويها ويصغي إليها بصرف النظر عن دينها، عرقها وشهر حملها. نعمل على مصالحتها مع ذويها ونحاول وضع "زوجها" أمام مسؤولياته، لعلهما يقترنان". وتتابع: "تشكّل الجمعية سقفاً دافئاً للأمهات العازبات ولا سيما المنبوذات من المجتمع، فتعمل على تأهيل الأم وإعادة ترميم ثقتها بنفسها، وفي مرحلة لاحقة تساعدها على اكتشاف مهاراتها وتعزيز مواهبها، من خلال المشاغل وحلقات النقاش التي نوفرها، أي تمكينها مهنياً وتحصينها للاندماج في المجتمع".
لا تخفي أبو ديوان أسفها حيال الواقع القانوني الذي تتخبّط فيه الأمهات العازبات، وتعجز الجمعية عن التدخل فيه، فتقول: "نبذل جهدنا لتوفير أفضل بيئة للأم العزباء، نهتم بأدقّ التفاصيل من مأكل وملبس وعلم، مروراً بحالتها النفسية والصحية، وصولاً إلى لحظة إنجابها ومساعدتها على الاستقلال مع طفلها ومواجهة الحياة، من دون أي مقابل. إلا أننا نقف عاجزين أمام القانون، حيث تتمكن الأم من تسجيل ولدها على خانتها، ولكن ما يُشعر بالذلّ والإهانة هو ذكر اسم الوالد مع الإشارة إلى أنه مستعار بين مزدوجين.
في وقت تحظى ظاهرة العنف ضد النساء بالاهتمام اللافت، يبقى السؤال: ماذا عن الأمهات العازبات، أسرى التابوهات وضحايا غياب الثقافة الجنسية؟
0 comments:
إرسال تعليق