هل ستنتقل مصر من حكم الطغاة إلى حكم الدعاة الذين علمنا التاريخ انهم ليسوا أقل طغيانا؟ ما معنى الثورة إذن؟ ماذا حققت؟ وفيم أخفقت؟ وفي فوضى ما بعد الثورة إلى أين مصر ذاهبة؟ أي مصير ينتظر أرض الكنانة؟ دولة دينية مثقلة بأغلال أفكار منغلقة على نفسها ورؤى سلفية غير قادرة على النظر سوى للوراء؟ دولة منهكة مفككة على غرار أفغانستان أو السودان؟ دولة بائسة مطحونة بالفقر والتزمت الديني والفشل الاداري كباكستان حيث الرئاسة للعسكر والشارع الفقير المرير للتيارات الدينية والبلد كلها ساقطة خارج العصر؟
حتى وهي تترنح تحت نيران الاحتلال البريطاني مسلوبة الحرية والكرامة كانت مصر أكثر ثقة بالنفس وبرؤيتها ومستقبلها مما هي عليه الان.
تحت الاحتلال كتب شاعر النيل الجميل حافظ ابراهيم قصيدته "مصر تتحدث عن نفسها" فتقول:
"وقف الخلف ينظرون جميعا
كيف أبني قواعد المجد وحدي
وبناة الاهرام في سالف الدهر
كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق الشرق
ودُراتهٌ فرائد عقدي
أنا إن قدر الإله مماتي
لا تري الشرق يرفع الرأس بعدي"
هكذا كانت "مصر تتحدث عن نفسها" والآن مصر تبحث عن نفسها في وقت ترى فيه البعض من أبنائها يتنكرون لها ولتاريخها المجيد الذي تغني به حافظ ابراهيم فيرفعون علم دولة مجاورة عمرها أقل من مائة عام استوردوا منها مذهبها الوهابي السلفي بدوي الرؤية ضيق الفكر بديلا عن الفكر الأزهري الذي كان دائما صرحا للوسطية الإسلامية المصرية الروح المعتدلة العقل المفتوحة القلب للآخرين، ترى مصر هويتها الأصيلة النبيلة يعبث بها العابثون ولايدرك قدرها الجهلاء المقلدون التابعون لهويات دخيلة سواء قادمة من الشرق أم من الغرب.
راحت مصر تبحث عن نفسها فلا تكاد أن تجدها في عقول هؤلاء الذين تراجعوا بفكرهم المستورد الهجين إلى ما قبل التاريخ والمدنية والحضارة، فإذا بأفكارهم أفكار الجاهلية وأقوالهم وأفعالهم وشكلهم وزيهم كلها آتيه من عصور سحيقة وكهوف غميقة. هؤلاء لم يعرفوا ولم يدركوا كيف كانت مصر دائما تفرض فكرها وروحها على الغزاة حتى من كانوا أكثر منها قوة وتمدنا فإذا بهم يسقطون في عشقها ويتمثلونها فكرا ورؤية وأساليب حياة، هكذا فعل الاغريق حين جاء الاسكندر فأذهلته مصر بحضارتها الشاهقة فبنى الاسكندرية التي ظلت هي عروس البحر الابيض ومنارته الفكرية المضيئة إلى أن سكنها من استوردوا السلفية الوهابية من السعودية وحولوا الاسكندرية إلى صحراء فكرية تتقافز على رمالها جرذان الأفكار البلهاء المضحكة المبكية التي ترى في الآثار المصرية الباهرة أصناما تستوجب التحطيم وفي الأعمال الفنية الراقية عورات تستوجب التغطية وفي أضرحة المسلمين كفرا تستوجب الهدم وفي جسد المرأة بأكمله عورة تستوجب التغطية بل التحنيط بكفن أسود تحت دعاوي التقوى والتدين والفضيلة المفرطة.
تبحث مصر عن نفسها في هؤلاء فلا تكاد تتعرف على أي من صفاتها أو جيناتها فيهم، مصر فجر الحضارة وأم التاريخ التي احتضنت ثقافات العالم في انفتاح مبهر ومزجت هذا كله بروحها الوثابة الخالدة التي كانت دائما تخفق محبة للآخرين وتقطر عذوبة ومرحا وبهجة وفرحا بالحياة وبالفرحين، تنظر إلى هؤلاء بحسرة وذعر وهم يتنكرون لوجدانها المصري الأصيل ويستبدلونه بمزاج حاد متعصب ملئ بالكراهية للنفس وللجمال وللخيال ولشركاء الوطن، عبر عن نفسه المنحرفة في أحداث القتل والذبح والهدم والحرق بدءا من أحداث الخانكة في مطلع السبعينات ومرورا بمذابح وأهوال الزاوية الحمراء والكشح ونجع حمادي وكنيسة القديسين ثم امبابة وأطفيح وقنا وصولا إلى القهر "العرفي" بالتهجير الجماعي للعائلات القبطية من قرية بجوار الاسكندرية، الاسكندرية التي تنحدر على أيدي هؤلاء لتصبح عاصمة التخلف والكراهية والتهجير العرقي.
وفي نفس الاسبوع الذي حدثت فيه هذه الجريمة ضد الإنسانية طلع علينا خبر عجيب عن تأسيس "الحزب العربي للعدل والمساواة" الذي أسسه الشيخ علي فريج، ولاحظ أن الأحزاب السياسية في مصر يؤسسها الان الشيوخ والدعاة وليس السياسيون أو القضاة، ويقول الشيخ فريج: "الأسباب الأخرى التي اخترنا بسببها إسم الحزب العربي... القبائل العربية التي تمثل القاعدة العريضة من شعب مصر ولا يقل عددها عن خمسين مليونا كقبائل، لماذا أطلق على هذا الحزب أنه أول حزب قبلي أو بدوي؟ الجميع ينتمون إلى أصل واحد ومنبع واحد وهو الجزيرة العربية فالحزب إتخذ القبيلة ركيزة له"، يقول الشيخ فريج إذن أن مصر مكونة من قبائل عربية! وأن الجميع ينتمون إلى أصل واحد ومنبع واحد وهو الجزيرة العربية!
المصريون في عرف الشيخ أصلهم ليس مصر أم الدنيا ولا مصر أول حضارة على الأرض التي ما تزال أهراماتها ومعابدها الشاهقة الفريدة تجذب الملايين من كل أرجاء العالم للوقوف أمامها في ذهول وتقدير لعظمة الانسان المصري الفريد، تخيل لو لم تكن مصر ما تزال تحتضن كل هذه الآثار لكي تفضح بمجرد وجودها هذه الأفكار البائسة الهزلية التي تحاول عبثاً وجهلاً أن تنزع عن مصر هويتها العريقة وتلبسها برقع هوية أخرى دخيلة لا تشبهها في شيء لا تاريخيا ولا حضاريا ولا وجدانيا، فالشخصية المصرية المرحة الدافئة المحبة للحياة والفرح والمرح لا تشبه على الاطلاق الشخصية البدوية الصحراوية بالجزيرة العربية، مصر أصبحت قبائل في عرف الشيخ علي فريج الذي يبدو من كلامه أن القبيلة هي النموذج الحضاري الأعظم لديه، فيريد أن يحول شعب مصر إلى قبائل، هذه في الواقع من أغرب الدعاوي التي ابتليت بها مصر مؤخراً، فمصر هي أول دولة مركزية في التاريخ منذ أن قام الملك مينا بتوحيد القطرين الجنوبي والشمالي حوالي عام 3200 قبل الميلاد، وشعبها من المزارعين – فلاحين وصعايدة - استقروا على جانبي الوادي كشعب واحد مصري أصيل، فمن أين جاءتك يا شيخ هذه الفكرة الجهنمية أن شعب مصر قبائل جاءت من الجزيرة العربية؟ أليس في هذا الخلط والتشوه الفكري أكبر الخطر على هوية مصر ووحدتها ومستقبلها؟ وكيف سمح المجلس العسكري واللجنة العليا للانتخابات لهذا الحزب التقسيمي بالتكوين أصلا وهو يعلن هذا الهراء على الملأ؟ أية قبائل هذه يا شيخ التي يبدو فرحك بها غامرا؟
مصر تبحث عن نفسها في عقول وقلوب ووجوه هؤلاء فلا تجدها.
ويذكرنا هذا بالفكر الاخواني الذي يري مصر في أعظم أحلامه مجرد امارة في خلافة اسلامية قد تكون عاصمتها خارج مصر فحين قال المرشد السابق للاخوان المسلمين عبارته الشهيرة: "طز في مصر واللي جابوا مصر" أراد أن يبرر قوله هذا فقال انه يقصد أن الهدف هو الأمة الاسلامية التي تكون مصر عضوا فيها ثم أضاف أنه لا يمانع أن يحكم مصر في هذه الحالة رجل ماليزي ما دام مسلما. هذا هو الفكر الاخواني على لسان المرشد الأعلى نفسه، وجماعة "طز في مصر" هذه هي الآن في مجلس الشعب المصري بعد انتخابات يرون أنها نزيهة رغم أنها مرصعة بثقوب وعورات الخلط الفج بين الدين والسياسة وقد أتى الخلط بتأييد المجلس العسكري الذي سمح بتكوين هذه الأحزاب الدينية رغم تحريم الدستور والاعلان الدستوري لهذا، ثم سمح بالدعاية الانتخابية من على منابر المساجد وبالشعارات الدينية في الشوارع وحول لجان الانتخابات بينما لم يكن في استطاعة أحد أن يفضح الأفكار الرجعية البدائية لهذه الأحزاب المقزمة للمرأة والأقليات الدينية الاخرى، فلم يستطيع أحد أن يهاجم وضع مرشحة حزب النور السلفي صورة زوجها بدلا من صورتها في الملصقات الدعائية لأنه لو فعل لاتهموه بالكفر وازدراء الأديان وهذا مايحدثه خلط الدين بالسياسة من ارهاب فكري يمنع الخصوم من حقهم في فضح الأفكار الرجعية لأحزاب المفروض أنها سياسية.
والان رشح الاخوان خيرت الشاطر للرئاسة واصفينه بقائد النهضة، وهل في مصر نهضة لم يسمع بها أحد هو قائدها؟ وبهذا يطمع الاخوان في الإستحواذ على السلطات جميعها في مصر، غير مستوعبين لدرس الحزب الوطني المنحل، فشهوة السلطة والتسلط لا يقدرون على جماحها، فماذا لدى الاخوان سوى المزيد من جرعات الوعظ والارشاد باطلة المفعول التي لم يوجد في تاريخ البشر أكثر منها في مصر بلا أدنى جدوى؟ انهم يملكون الشارع المصري منذ أربعة عقود ألبسوا فيها نساء مصر الحجاب ورجالها اللحي وصل معها هذا الشارع إلى أدنى حالاته الحضارية في كل مقاييسها مع غرق بائس في مستنقعات الفساد والرشوة وغسيل الاموال والسرقات الكبيرة والصغيرة والكذب والتحرش الجنسي والبغاء المحلل لبنات قصر في قرى باكملها تحت دعاوى الزواج العرفي، وغير هذا مما يرزح تحته الشارع المصري من موبقات إجتماعية وإنسانية وأخلاقية تحت جرعات الوعظ والارشاد الاخوانية والسلفية التي لا تقدم سوى مسكنات ومخدرات تصرف البسطاء عن واقعهم المزري وتغريهم ببديل يعوضهم في الاخرة ولكن تفشل في تقديم أية رؤية حضارية للنهضة والتقدم.
تبحث مصر عن نفسها في هؤلاء فلا تكاد تجد فيهم شبها لها. هؤلاء يعملون جاهدين على تشويه الشخصية المصرية التي احتفظت بخصائصها السمحة الدافئة الجميلة سبعة الاف سنة، فإذا بنا نرى من يأتون اليوم متنكرين لهذه الشخصية معادين لكل معانيها، ومستعدين لاستبدالها بشخصية مستوردة تحمل جينات وخصائص مختلفة، ليس فيها أي من البذور الحضارية الفريدة التي أنتجت كل ما تعنيه مصر وكل ما يميز المصريين من انسانية رحبة محبة للخير والغير، مفعمة بالمرح والفرح، مليئة بالعطاء والنبل والرقي.
وكما كتبت في مقالاتي الكثيرة قبل الثورة ان الأمل هو في شباب مصر المنوط به الخلاص من عهد المخلوع بكل ما به من انحطاط فحقق الشباب الأمل الذي بدا مستحيلا، أقول اليوم ان الأمل مازال معقودا على نفس الشباب أن يقوموا بالحفاظ على مصر وهويتها وشخصيتها، لافظين هذه المحاولات اللئيمة لتغييرها وتصحيرها وتحويلها إلى دويلات وقبائل ومصاطب للمصالحات العرفية التي تريد العودة بمصر إلى ما قبل الدولة أي ما قبل أكثر من خمسة الآف سنة من تاريخها.
قد يحكم الدعاة مصر لعدة سنوات قادمة، وقد يعود الطغاة لحكمها، وقد يتقاسم الدعاة والطغاة حكمها في صفقة شيطانية تلبس جلبابا دينيا، وفي كل هذه الحالات فالمعركة من أجل روح مصر قادمة لا محالة، سيخوضها نفس الشباب المصري العصري الواعي الذي خرج وحده في 25 يناير متحديا قوى الطغيان والتخلف، سيكون عليه محاربة نفس قوي الطغيان والتخلف في معركة أخيرة ونهائية تقوم بعدها مصر الشابة الجديدة فيقوم معها الشرق الأوسط كله.
فرانسوا باسيلي
0 comments:
إرسال تعليق