فبالرغم من أن إيران وضعت أرضها وهواءها ومياهها وأموالها وسلاحها وخبراءها، وحتى مجنديها، تحت تصرف أحزابها العراقية المعارضة لتكون المنطقة الآمنة التي تطالب بها اليوم معارضة سوريا ولا تحصل عليها، فلم تستطع تلك المعارضة أن تنجز سوى بضعة تفجيرات خائبة، هنا وهناك، وسوى عمليات اغتيال معدودة على الأصابع راح ضحيتها بعض مواطنين أبرياء لا علاقة لهم بصدام ولا بنظامه.
والمعروف والثابت من تاريخ تلك المعارضة الفاشلة أن الطائفة الشيعية العراقية التي يحتكر حزب الدعوة والمجلس الأعلى ومنظمة العمل الإسلامي وكوادر حزب الدعوة وحزب الدعوة – تنظيم العراق، اليوم، تمثيلـَها والنـُطقَ باسمها رفضت الاصطفاف مع إيران، وظل ضباطها وجنودها (الشيعة) يقاتلون مع صدام حسين (السني) ثماني سنوات، دفاعا عن وطنها العراقي ووحدة ترابه، ورفضا لهيمنة النظام الطائفي القمعي الظلامي الإيراني ووكلائه ومليشياته عليه.
ورغم أن ديكتاتورية صدام كانت طاغية ولا جدال فيها، ورغم أن الغالبية العظمى من العراقيين تطمح إلى رحيل النظام الديكتاتوري وإقامة بديل ديمقراطي عادل، فإن أحزاب الديمقراطية واليسار لم تستطع أن تُحدث حراكا ثوريا شعبيا شاملا في العراق، كما تفعل الثورة السورية اليوم، وذلك بسبب طغيان هيمنة الأحزاب الدينية الطائفية (ذات التبعية الإيرانية)، والبعثية والقومية (ذات الولاء البعثي السوري) على مجمل نشاطات المعارضة وخطابها.
وحين اندلعت الانتفاضة الشعبية في آذار 1991 ضد النظام لم تكن شرارتها الأولى ولا دوافعُها ولا أهدافهُا إيرانية ولا أميركية ولا سورية ولا سعودية ايضا. فقد اندلعت فجأة ودون قيادة، وبعفوية وطنية عراقية خالصة، وكان أقوى أسبابها هو الغضبُ الجماهيري على الكارثة التي حلت بجيوش النظام، والتي راح ضحيتها الالاف من الجنود والضباط في حرب ٍ غبية ٍ غير متكافئة في الكويت.
وفي مؤتمر المعارضة الأول في بيروت 1991 تعارك "الأشقاء" المعارضون على أبوة هذه الانتفاضة، وتقاتل الإسلاميون (الشيعة) فيما بينهم على زعامتها والاستحواذ على مكاسب انتصارها المُفترَض، كما رفضوا السماح للمعارضين الشيوعيين والعلمانيين بمشاركتهم في قيادة الانتفاضة، بل عارضوا مجرد دخولهم إلى قاعة المؤتمر، لولا وساطة إيران ذاتها.
وحين ظهرت صور الخميني في مناطق الانتفاضة (الجنوبية)، وأطلق جواسيس المخابرات الإيرانية هتافاتٍ طائفية إيرانية غير عراقية وغير وطنية ولا تعبر عن روح الانتفاضة الحقيقية تبخر أكثر من ثلاثة أرباع المنتفضين، وتمكن صدام حسين وعلي حسن المجيد ومحمد حمزة الزبيدي من سحقها، بكل ما أوتوا من جبروت. وكانت النتيجة أن دفعت مئات الألوف من المنتفضين ثمن انتهازية إيران وأنانية قيادات المعارضة الإسلامية وقصر نظرها وغرورها.
وانطلاقا من ذكريات تلك الأيام وترسباتها في أعماق نوري المالكي بنى نظريته السورية الجديدة، التي تقول: "إن جيوش بشار مسلحة ومُجرِّبة ومتمكنة، فإذا ما سُلح الجيش الحر بما يعادل قوة النظام، فماذا سيحصل؟ مجازر لا حدود لها، وفوضى لا نهاية لجحيمها، الأمر الذي سيهز أمن العراق واستقراره، وربما المنطقة كلها".
ومع ما تمثله هذه النظرية من تسطيح للقضية وتبسيط لتعقيداتها، فهي، في الوقت نفسه، تفضيل مقصود ومؤكد للنظام، وترخيصٌ له، وحده، بالاستمرار في احتكار السلاح والمداهمة والقتل والحرق والتدمير والتهجير، بل رغبة دفينة في الإبادة الجماعية لملايين السوريين الرافضين لسلطة الجلاد.
ولا يمكن الجزم بعدم تابعية هذه النظرية للموقف الإيراني، بأي حال من الأحوال. ولكن سواء كانت تلك فلسفة ً إيرانية مفروضة على رجالها في بغداد، أو اختراعا ذاتيا من نوري المالكي، فالنتيجة واحدة. فهي تتجاوز حقائق مهمة كثيرة، أهمها أن معارضة الخارج السوري الحالية كانت إلى ما قبل أيام، وبعضُها إلى ما قبل أسابيع أو حتى أشهر، معارضة داخلية صميمة. ومع ذلك، وإضافة إليه أيضا، فقد فوضت ملايينُ المنتفضين في جميع مدن سوريا وقراها، من خلال أيام الجُمع المتكررة، معارضة الخارج بتمثيلها. وهذا عكس ما حدث لأحزاب المعارضة العراقية السابقة التي كانت، جميعُها، خارجية معزولة وعاجزة عن تحريك معارضة الداخل الملايينية الصامتة الصابرة.
وهذا يعني أن تسمية "المعارضة" في سوريا اليوم تعني جميع المدن والقرى والحارات والأحياء الثائرة التي لم تستطع آلة القتل الأسدية أن تسكتها، على امتداد سنة كاملة من الذبح والتنكيل والمداهمة والاغتصاب وقطع الماء والكهرباء والغذاء.
بالمقابل كانت شرائح واسعة من الشعب العراقي غير مقتنعة بأحزاب المعارضة العراقية، وبعضٌ منها يرى أنها لا تمثله، ويدمغ بعضها بالعمالة والعمل بتمويل ٍ وتوجيه ٍ كامليْن من دول خارجية ليست كلها حانية على الشعب العراقي، ولا حريصة على مصالحه ومستقبله. أما معارضة سوريا (الداخلية والخارجية معا) فلم تجد، إلا مؤخرا، دولا تحن عليها وتتفهم عدالة مطالبها. وما زال أغلب "أصدقاء سوريا"، برغم الوعود الحماسية الكثيرة، يتلكأ في التنفيذ والبذل والعطاء.
وإذا كان المالكي مقتنعا بأن الدعم الإيراني ومشاركة مقاتلي حزب الله وتهريب السلاح والمال والرجال من العراق أو عبر أراضيه، وتصريحات لافيروف العنترية وبوارج روسيا في اللاذقية عوامل كافية لكي تنقذ رقبة النظام، وتبرر حكمَه باستحالة إسقاطه بمعارضة ٍ سورية متفرقة غير موحدة، وبجماهير مدنية غير مسلحة، وبجيش حر لم يتجاوز تسليحه بنادق صيد الحمام، فهو ليس خاطئا وحسب، بل أعمى بصر وبصيرة، كذلك.
ففي سوريا اليوم حرب مفتوحة بين شعب كامل وحاكم، دامت سنة، وقد تستمر سنة أخرى وربما ثالثة، رغم أن القوة غير متوازنة وغير متكافئة، غير مسموح لأحد طرفيها بإنهائها إلا بالانتصار الكامل والنهائي. مع الأخذ بعين الاعتبار جميع التداخلات والتشابكات الإقليمية والدولية الشائكة. ولو راقب نوري المالكي الموقف الروسي نفسه، وقبله الموقف الصيني، من بداية الانتفاضة وإلى يوم صدور بيان مجلس الأمن الأخير الذي أيدته روسيا والصين، لأدرك أن قوة دفع الانتفاضة في مواجهة النظام، حتى في أقصى حالات عنفه الدامي المدمر ودرجاته، هي الفاعلة الوحيدة على الساحة، وهي وحدها التي تضع المقدمات وتحدد لها النتائج، لا داخليا وحسب، بل على ساحة الفعل الدولي، نفسه، دون ريب.
وبكل الحسابات والموازين فالعالم كله تقريبا، (أميركا وأوربا ودول عربية وأفريقية وآسيوية فاعلة)، بدأ يتحرك رويدا رويدا باتجاه دعم المعارضة، على الأقل لرفع العتب وتلافي الحرج الذي تسببه جرائم النظام وشبيحته بحق المدنيين العزل، وخاصة منهم الأطفال والنساء والمرضى والجرحى والمصابين والأسرى.
هذا كله إلى جانب تغّير ٍ واقعي ٍ مهم آخر حتمي وهو أن جيوش النظام، مع استمرار هذه المواجهة الباهظة ماليا ومعنويا وجهوزية، لابد أن يبلغ عما قريب حالة الإنهاك والملل والإحباط. ومع أي تراخ ٍ لقبضة الأسرة الحاكمة سوف تتسارع الانشقاقات وتتلاحق مظاهر التآكل والانهيار، مقابل جماهير لم يعد لديها ما تخسره، بعد أن دفعت من دماء أبنائها ومن قوتها وأمنها الشيء الكثير، ولا يمكن ولا يعقل أن تعود إلى أحضان النظام، مثلما عاد إلى أحضان صدام حسين في العراق في العام 1991 كثيرٌ من المعارضين السابقين، وحتى من المشاركين في الانتفاضة ذاتها.
ولأن رئيس الحكومة العراقية الحالي، وهو الموكل بالنطق باسم شركائه الآخرين في العملية السياسية، قرر الانحياز ضد الجماهير السورية لصالح جلادها، خدمة للمصالح الإيرانية، وبنوازع طائفية قاهرة، وليس خدمة للمصالح الوطنية العراقية، فقد وضع نفسه في معسكر النظام، واختار أن يتلقى نصيبه من نتائج هذه المعركة الخاسرة. (ومن جهز غازيا فقد غزا).
وما دام النصر، أولا وأخيرا، لا يمكن أن يكتب لنظام يصارع الطوفان ويريد أن يبقى في السلطة ضد إرادة شعبه، وبقوة القتل وحدها، فإن أبرز الخاسرين بسقوطه وأولهم لابد أن تكون إيران، ثم حزب الدعوة العراقي وحزب الله اللبناني، دون ريب.
فمن الطبيعي والمتوقع أن يرد المنتفضون السوريون، بعد أن ينتصروا، صاعا بعشرين لمن وقف ضدهم وساهم في ذبح أطفالهم واغتصاب نسائهم وحرق مدنهم وقراهم.
وإذا ما ظل نوري المالكي رئيسا لوزراء العراق حتى موعد انتصار الشعب السوري على جلاديه فمن الطبيعي والمتوقع والمشروع معا أن يتحالف ضده حكام سوريا الجدد مع شركائهم العرب والأجانب الكارهين لإيران وأذرعها العراقية واللبنانية المؤذية، لإسقاطه ونصرة خصومه عليه. وبكل الحسابات والموازين لا يمكن أن يكون عراق اليوم هو نفسه عراق ما بعد بشار. والسؤال المشروع هنا هو هل للشعب العراقي ناقة أو جمل في هذه الحرب الخاسرة؟
إبراهيم الزبيدي
0 comments:
إرسال تعليق