خاص بالراصد
وقعت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكثير من الأحداث بين الصحابة التي كانت من بقايا الجاهلية كالموقف الذي اعترض فيه بعض الأنصار على طريقة توزيع الغنائم في غزوة حنين، وطلب بعض المسلمين حديثي العهد بالإسلام من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضا أن يجعل لهم ذات أنواط([1])، كما حاول المنافقون استغلال كل السبل لتقسيم الصف الإسلامي كمحاولة الوقيعة بين الأوس والخزرج من طرف اليهود والمنافقين، لكن المحاولات هذه كلها وجدت المربي المصطفى صلى الله عليه وسلم ليقف لها بالمرصاد.
ولا شك أن المجتمعات التي شملتها الفتوحات الإسلامية على فترات زمنية مختلفة وقعت فيها مثل هذه الجاهليات، ولكن بعضها لم تجد من يهذبها أو أنها كانت أقوى من كل تلك الجهود التي بذلها العلماء ضدها ولا زالوا إلى اليوم يسعون للإصلاح ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
هذه الممارسات الجاهلية تكون على مستويين: فردي وجماعي، وأهم وأبرز جاهلية على المستوى العام أو المجتمعي تلك التي ترتبط بنعرات قبلية أو عصبية وغيرها من الخلفيات، وتكون خطورة هذه الانحرافات أكبر حين يتعلق الأمر بقضايا عقدية تمتزج فيها عقيدة التوحيد الصافية بأفكار وعقائد ما قبل الإسلام، ومثل هذا الأمر حصل كثيرا في الأمم السابقة وردت نماذج عديدة منها في القرآن الكريم.
والإسلام بشكل عام جاء متمّما لمكارم الأخلاق وموجها الناس لعبادة ربهم لا أكثر، لذا حافظت الكثير من الشعوب على عاداتها وتقاليدها خاصة منها التي لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية.
وإذا أسقطنا هذا على الحالة الفارسية أو الإيرانية التي دخلت الإسلام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه فإن السؤال لا يطرح حول حدوث بعض الممارسات الجاهلية أم لا، لأن ذلك تحصيل حاصل إن صح التعبير وحقيقة مؤكدة ما دامت أنها وقعت حتى في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن السؤال الذي يطرح هو مدى تأثير تلك الجاهليات الفارسية على المجتمع الإيراني خاصة في الجانب الذي يتعارض مع الرسالة الإسلامية؟
تحدثت الكثير من الدراسات عن المعتقدات الفارسية التي امتزجت بالعقيدة الإسلامية خاصة بعد انتقال إيران من التسنن إلى التشيع في المرحلة الصفوية عندما أصبح لتلك الجاهليات مرتكز وأساس سلطوي فرض عقائده على المجتمع بالقوة، ونظرا لاستمرار الحكم الصفوي لفترة طويلة دامت لعدة قرون استطاع فيها النظام ترسيخ معتقداته، ومَن حكم بعدهم لم يسعَ لتغيير ما بناه الصفويون في هذا الجانب حتى أصبحت العقيدة الإثنا عشرية من الثوابت الدستورية في إيران الحديثة.
وقد أبرز الدكتور طه الدليمي في دراسة تحت عنوان "التحليل النفسي لأهم عقائد وطقوس الشيعة" الكثير من العقائد الشيعية التي هي ذات جذور فارسية، نشأت من خلفية عقدة النقص التي تولدت عند الفرس بعد هزيمتهم من طرف المسلمين العرب الذين كانوا ينظرون إليهم باحتقار وظلوا لقرون طويلة خاضعين لهم، إضافة إلى الطقوس التي تمارس في عاشوراء وغيرها من المناسبات التي هي في الأصل طقوس ومعتقدات مجوسية، وهذه الأمور مجتمعة تحقق الأغراض الفارسية في إثارة القلاقل في بلاد العرب والمسلمين خدمة لأحلامهم وأهدافهم التوسعية، وتلبية لما يعتمل في نفوسهم من حقد على الأُمة، والاندفاع للثأر منها بشتى السبل والأساليب([2]).
وفي مقارنة بين الشاه والخميني اللذين يعتبرهما يجسدان شخصية تاريخية واحدة يصف المفكر الإيراني داريوش شايغان الخميني بالتالي: "الحقيقة أنه يشبه في صورة مدهشة الصورة الغابرة لإيران القديمة. وكان يجسد كل الدراما العتيقة، الدينية المأساوية.. لم يكن الخميني بطريقة ما يكف عن أن يكرر مع أصحاب الإمام الغائب – كما كان يفعل زرادشت مع ملائكة السماء السبع – هذه العبارة الكشف- غيبية التي تهز كل إيراني من أعماقه: هل نكون من الذين سيغيرون صورة العالم([3])؟
من جانبه يصف الدكتور وليد عبد الحي دخول إيران في الإسلام بأنه كان دخولا قسريا في كيان سياسي كبير لم تعد لها بعده شخصيتها الذاتية، وهو أمر بقي يلح على النخب الإيرانية لاستعادته وتجلى في التعبير عن ذلك بالتلكؤ الطويل في قبول العقيدة الجديدة امتد لأكثر من خمسة قرون بدأت بمعركة القادسية سنة 632م، فلم تتمكن الدولة الأموية من أسلمة المجتمع إلا بنسبة جد قليلة مع أواسط القرن التاسع الميلادي واكتمل الأمر في نهاية القرن الحادي عشر([4]) ويضيف بأن الثقافة الدينية تتمركز حول المذهب أكثر من تمركزها حول العقيدة الإسلامية بشكل خاص، أي أنها معنية بإبراز تميزها ضمن المجتمع الإسلامي.. فالفرد الإيراني ينتمي للقومية الإيرانية وللدين الإسلامي وللمذهب الجعفري وعند التصادم في المطالب بين هذه الأنساق فإنه يغلب مطالب الولاءات الأدنى على غيرها([5]).
وإذا نظرنا للفرد هنا باعتباره صانع قرار فإن الأولوية عنده دائما هي المصلحة القومية الإيرانية، ولكن هذا قد يُحدث نوعاً من الإرباك في فهم طبيعة السياسة الخارجية الإيرانية ويصعب تفسير المواقف الإيرانية، خاصة لما يتسبب الموقف المذهبي أو الطائفي في تأزيم علاقاتها مع بعض الدول ويكون دعمها لقوى تشاركها نفس المعتقد كما هو الحال في سوريا ولبنان والبحرين سببا في تهديد مصالحها القومية مع محيطها العربي والإسلامي (حالة دول الخليج العربي مثلا).
لذا يجب التأكيد على أن ما حصل هو تداخل كبير بين العقيدة الشيعة والمعتقدات الفارسية القديمة إلى درجة أصبح من المستحيل الفصل بينهما، فإذا كان التشيع نشأ في بيئة عربية فإن تطوره كان في البيئة الفارسية انطلاقا من تراثها، وتمكن علماء الشيعة العرب من جبل عامل في المرحلة الصفوية من ترسيخ تلك المعتقدات وشرعنتها مجتمعيا.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن هناك طبيعة سياسية سائدة تطغى على الجانب الديني الطقوسي دون أي خلفية فقهية ثابتة وواضحة بحكم تمحور هذا المعتقد على قضايا سياسية تأتي الإمامة في مركزها، لذلك لا يستغرب أن يدعو للخطابة في صلاة الجمعة الصادق المهدي رئيس وزراء السودان السابق وعبد الله فاضل القائم السابق بأعمال ليبيا في طهران وغيرهما من الشخصيات العربية للحديث في قضايا سياسية دولية([6]).
والمؤكد بعيدا عن هذا الجدل أن إيران إذا لم تتحرك من خلفية دينية شيعية فهي تنطلق من خلفية مصلحية قومية بحتة لا تتعارض في المحصلة الأخيرة مع المشروع المهدوي باعتبار أن المؤمنين به في العالم العربي لا يهمهم البحث والتدقيق في هذه القضية وهذا ما يهم الولي الفقيه.
هذا التراكم للجاهليات الذي نتج عنه عقيدة هي مزيج مركب بين القومية الفارسية والطقوس النصرانية التي تقام عند الاحتفال بعاشوراء الشبيهة بطقوس الصلب، والانتشار الكبير للأضرحة وزيارتها وتقديس الأولياء كما هو الحال عند الطرق الصوفية حتى أن محافظ كربلاء يسعى إلى التنافس على تحقيق رقم قياسي لعدد زوار ضريح الحسين في عاشوراء وتكون منافسة لمكة المكرمة، والمغالاة في الأئمة إلى درجة التأليه وجعلهم في مقام أكبر من مقام الملائكة والأنبياء إضافة إلى إباحة زواج المتعة وجعل التقية تسعة أعشار الدين وأكل أموال الناس بالباطل بفرض الخمس وغيرها من المعتقدات تنبئ باتجاههم إلى المزيد من الضلال الذي قد لا يكون آخره الصور التي تتداول في الأوساط الشيعية للأئمة الإثنى عشر ذات الملامح الفارسية بما في ذلك العمامة الخضراء التي تعود لعهد البرامكة المجوس الذين فرض عليهم لبس العمامة الخضراء لتمييزهم عن المسلمين.
ولا يخرج عن هذا الإطار النجادية أو التيار المنحرف بتعبير أنصار المرشد الذين يتحدثون عن قرب ظهور المهدي المنتظر فهذه أيضا في أحد أوجهها إبداع جاهلي آخر نتيجة للانحرافات الكبيرة والمستمرة للعقيدة الشيعية بعد أن زاغت عن الحق.
ولعل طريقة احتفال الجمهورية الإسلامية بالذكرى الثالثة والثلاثين للثورة واللوحة الكبيرة التي رسمت عليها صورة الخميني وجالت العديد من المناطق والأضرحة المتنقلة عبر المدن قبلها تعكس طبيعة القوم وما يمكن أن يذهبوا إليه في جاهلياتهم هذه، حيث ذكرنا هذا الصنيع بفعل قوم نوح حين صوروا زعماءهم الصالحين ليتذكروا فعل الخير، ولكنهم توغلوا في هذا المجال حتى عبدوهم من دون الله، فهل سنشهد عبادة الخميني قريبا كما يعبد الشيعة الأئمة؟؟
هذا الواقع يفرض على الغيورين على هذا الدين مضاعفة العمل في مختلف الاتجاهات الإصلاحية لرد الكثير من الذين نشؤوا في هذا المجتمع ولا يدركون حقيقة الضلال الذي يعيشون فيه وما يمارس في حقهم من طرف علماء يدعون الصلاح والرشاد، وإن كانت قناة وصال الفارسية رغم تأخرها خطوة في الطريق الصحيح غير أن الأمر يحتاج لأكثر من قناة فضائية لاختراق هذه التراكمات الجاهلية عبر قرون طويلة من الزمن.
ـــــــــــــــ
([1]) في طريق المسلمين إلى حنين مروا بشجرة للمشركين تسمى ذات أنواط، كانوا يأتونـها كل سنة فيعلقون عليها أسلحتهم ويذبحون عندها، ويعكفون عليها يومًا، فقال بعض المسلمين من حديثي العهد بالإسلام: "يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط"، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر، قلتم والذي نفس محمد بيده كما قال قوم موسى لموسى [ اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُون [(138) (سورة الأعراف)، إنـها السنن، لتركبن سنن من كان قبلكم".
([2]) لتفاصيل أكثر أنظر: طه الدليمي، التحليل النفسي لأهم عقائد وطقوس الشيعة، موقع البرهان، على الرابط :
http://alburhan.com/articles.aspx?id=3466&page_id=0&page_size=20&links=false
([3]) داريوش شايغان، ترجمة محمد علي مقلد، أوهام الهوية، دار الساقي، الطبعة الأولى، بيروت 1993، ص138-139.
([4]) د. وليد عبد الحي، إيران: مستقبل المكانة الإقليمية 2020، مركز الدراسات التطبيقية والإستشراف، الطبعة الأولى، الجزائر2011، ص 22.
([5]) د. وليد عبد الحي، المرجع نفسه، ص 32.
([6]) نيفين عبد المنعم مسعد، صنع القرار في إيران والعلاقات العربية الإيرانية، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، بيروت 2002، ص 145، نقلا عن د. محمد السعيد عبد المؤمن، الفقه السياسي في إيران وأبعاده.
0 comments:
إرسال تعليق