لذلك يسبغ قادة النظام الإيراني على المرشد الأعلى هالة ضخمة كما فعل أحمدي نجاد عند قيامه بتقبيل يد خامنئي في حفل توليه منصب رئيس الجمهورية الأول ووصفه للخميني بالإنسان الكامل والإمام المعصوم.
وشخصية لها مثل هذا الاعتقاد بعصمة الولي الفقيه يفترض بها أن تكون من أشد المخلصين للمرشد علي خامنئي والمنقادين له آليا، كون حكمه هو امتداد للولي الفقيه الخميني الذي كان يتمتع بولاية عامة وسلطة مطلقة، غير أن نجاد رفض تطبيق بعض أوامر خامنئي إلا عقب تكرار الطلب منه، كما حدث في رفضه إقالة صهره مشائي الذي عينه نائبا له، وبعد عدة شهور قام نجاد بتعين مشائي مديرًا لديوان الرئاسة في بادرة مفاجئة اعتبرت لدى الكثيرين بمثابة "ازدراء" و"تحايل" على المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، وتردد نجاد في تنفيذ أمر خامنئي ومن ثم التحايل عليه يصطدم بوجوب طاعة الولي الفقيه والذي يعد نائب الإمام المنتظر والذي يعتقد نجاد أنه من الممهدين له وأنه سيظهر قريباً كما بشر في بداية رئاسته الأولى بنهاية العالم ومجيء الإمام المهدي (الذي ينتظر الشيعة عودته) وإقامة حكومة عالمية عادلة!! ومن قبله رفض خامنئي حين كان رئيساً للجمهورية تنفيذ فتوى للخميني، لكنه سرعان ما تراجع وانصاع لفتوى الخميني، فلماذا تتناقض التصرفات مع الاعتقادات المعلنة في حق الولي الفقيه ؟؟
لفهم ذلك دعونا نستعرض بعض المحطات من قيادة الخميني وخامنئي.
1- الخميني:
يشير محمد حسنين هيكل في كتابه "مدافع آية الله" إلى أن صحة الخميني كانت منذ وصوله إلى إيران قد بدأت تضعف إذ أصيب بأكثر من نوبة قلبية بعد عودته إلى مدينة قم وأصبح من المستحيل عليه أن يركز أكثر من عشرين دقيقة في اللقاء الواحد، ورغم أن كل القضايا الهامة ظلت تقدم إليه ليتخذ قرارا بشأنها، فقد كانت استجابته لها غريزية أكثر منها عقلية وكان يشكوا من إرسالهم ثلاثة تقارير يوميا وتوسل المسؤولين عدم إرسالها لأنه لا يقرأها، ولا شك أن مثل هذه الأوضاع تضاعفت أكثر مع تقدم الأيام من جهة وازدياد المسؤوليات وتشعبات القضايا الداخلية والخارجية خاصة بعد اندلاع الحرب مع العراق من جهة أخرى، وقد تكون هذه من بين الأسباب التي أدت إلى زيادة نفوذ ابنه أحمد الخميني في السلطة ودائرة المحيطين به وعلى رأسهم هاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي وحلقتهم المعروفة برجال الإمام، كما قد تفسر من ناحية أخرى التناقضات الكثيرة في مواقفه !!
فعلى صعيد السياسة الخارجية يمكن أن نذكر إصرار الخميني على الاستمرار في الحرب مع العراق طوال سنوات الثمانيات برغم كلفتها الباهظة حتى هددت بانهيار النظام الإيراني نفسه بغية إسقاط النظام العراقي، اضطره فيما بعد لتجرع السم وإعلان وقف الحرب على حد تعبيره، ومثل حمايته لهاشمي رفسنجاني عقب فضيحة صفقة الأسلحة مع الولايات المتحدة بوساطة إسرائيلية (إيران كونترا)، ورفضه مطالب البرلمان بالتحقيق في الموضوع، ومثل عزل نائبه آية الله حسين منتظري بسبب فضحه لتلك الاتصالات وانتقاده لجرائم أجهزة الأمن في عهد الخميني،وما كان يقوم به أتباعه من محاكمات شكلية وإعدامات بالجملة للمعارضين والتي لم يحرك ساكنا لوقفها، ومثل علاقاته الوطيدة مع النظام السوري والليبي اللذين لا يختلفان عن باقي الأنظمة التي كان ينعتها بالدكتاتورية ويدعو المستضعفين لمواجهتها.
أما على الصعيد الداخلي فهناك العديد من الأمثلة على فساد قرارات الولي الفقيه، ففي عام 1987 أفتى الخميني بسحب حق التعزير من القضاء كما تنص المادة 156 من الدستور وأوكله إلى الحكومة، ثم عدل عن فتواه في عام 1988 وأوكل الحق نفسه إلى مجمع تشخيص مصلحة النظام مناصفة مع الفقهاء جامعي الشرائط ولا يستغرب هذا بعدما نعلم قوله: " إنه في الحالات التي تتعارض فيها الشريعة مع واقع الحياة العصرية، يملك الولي الفقيه السلطة الدينية لإصدار حكم مخالف للشريعة ". وبهذه الطريقة، إن ما يجعل الوالي الفقيه مختلفا ليست قدرته على تطبيق الشريعة، بل سلطته الدينية الفريدة التي تتيح له تجاهل الشريعة من أجل المصالح الخاصة بالنظام، إذا كانت الشريعة معارضة لما من شأنه أن يحافظ على بقاء الحكومة. كما أن محكمة رجال الدين التي أنشأت بقرار من الخميني في 15/07/1987 التي سحبت البساط تدريجيا من تحت أقدام المحاكم العمومية ومحكمة الصحافة باتت ساحة لتصفية الخلافات السياسية بين تيار وآخر، والمتضررين منها والقانونيين يرجعون كل ما تتسبب فيه تلك المحكمة من إشكالات سياسية إلى قرار الخميني بإنشائها خارج إطار الدستور، مما ترتب عليه ظهور آثار سلبية خطيرة لتأكد أن هذا الفعل لا يقوم به معصوم عن الخطأ خاصة إذا علمنا أن هذا القرار أتخذ في وقت متأخر من حياته!
ومثلها أيضاً إقرار الخميني قبيل وفاته سنة 1989 تعديلات جديدة على الدستور، حيث وسعت صلاحيات المرشد الواسعة أصلا وفي نفس الوقت خفضت المواصفات الفقهية المطلوبة لتولي المنصب، فتم إسقاط شرط انعقاد قبول أكثرية الأمة وشرط حيازة مرجعية التقليد وتذهب بعض المصادر إلى أن ذلك تم بضغط من الثلاثي رفسنجاني وابنه أحمد الخميني و خامنئي، وراجت في تلك المرحلة قصة أسطورية مفادها أنه حين كان مؤسس الثورة/الدولة الإسلامية في إيران على فراش الموت، خلال لحظاته الأخيرة، أخذ بيد كل من رفسنجاني وخامنئي، وحذرهما مُسبقا بأن الثورة "سوف تدوم وتبقى وتزدهر" طالما بقي الرجلان "معا" في صف واحد.
إن الأخطاء الناتجة عن هذه القرارات وغيرها زعزعت قبول فكرة الطاعة المطلقة للولي الفقيه/ المرشد لدى النخب السياسية وصناع القرار.
2- خامنئي:
إذا كان الخميني سهل عليه الحصول على طاعة وتأييد الشارع الإيراني بسبب الهالة التي أحيط بها، فإن العقبات التي واجهت خامنئي كانت أكبر بكثير، بداية بالطريق الصعب والشاق جداً للوصول إلى منصب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، حيث رفض معظم المراجع تلقيبه بآية الله واقتصروا على لقب حجة الإسلام فضلا عن آية الله العظمى، وحتى رتبة المرجعية فقد حصل عليها بالقوة وفي وقت متأخر إذ لم يتم الإعلان عن خامنئي بوصفه أحد المراجع الكبار للشيعة الإثني عشرية حتى نهايات عام 1994، وليس لديه رسالة علمية معروفة لعامة المؤمنين تجيز له حمل لقب آية الله على ما تقتضي به تقاليد الحوزة العلمية، وقد أثارت فتواه مؤخراً بوجوب طاعته كونه نائب الإمام المهدي استياء المرجعيات في الحوزات الدينية في مدينة قم، التي ترى بأن ولايته ليست بمفهوم النيابة العامة للمعصوم بل هي في حدود ضيقة، ما أضطر المواقع الإلكترونية التابعة للمرشد ولنظام الجمهورية الإسلامية إلى إزالة نص فتاوى خامنئي الأخيرة التي أمر فيها بطاعته وربطت أوساط إيرانية مطلعة بين فتاوى المرشد والتحذيرات التي أطلقها مراجع دين بارزون من إخضاع استقلالية الحوزة الدينية لسيطرة الحكومة والمرشد.
في فترة صعود الإصلاحيين خلال التسعينيات فتح خامنئى المجال للحرس الثوري لمواجهتهم بكل أساليب اللعبة السياسية القذرة، ما يتعارض مع مبادئ العدل والورع الذي يفترض أن يتحلى به عالم الدين وقائم مقام الإمام المعصوم.
وخلال أزمة الانتخابات الرئاسية سنة 2010 أعلن خامنئي مباشرة تأييده لفوز أحمدي نجاد واصطف إلى جانبه في وقت مبكر من الأزمة، واتهم القادة الإصلاحيين بالعمالة للغرب رغم أنهم من قيادات الصف الأول في النظام، فمير حسين موسوي كان يشغل منصب رئيس الوزراء لما كان علي خامنئي رئيسا للجمهورية، وكثيراً ما تصادما قبل أن يلغي التعديل الدستوري قبيل وفاة الخميني منصب رئيس الوزراء، وهذا الأمر يفسر جزء من سرعة اصطفاف خامنئي إلى جانب أحمدي نجاد ووقوفه ضد موسوي، الذي إتخذ مواقف حادة من المرشد انطلاقًا من حسابات الماضي السياسي بينهما وليس فقط حول تزوير الانتخابات من عدمه.
ولم يتوقف خامنئي عند حد تولى منصب المرشد الأعلى بل هو يطمح بتوريث هذا المنصب لأبنه مجتبى، الذي تتهمه المعارضة الإصلاحية بقيادة عملية تزوير الانتخابات الرئاسية الأخيرة وقمع الاحتجاجات المناهضة للنتائج برعاية والده خامنئي، وأنه يخطط مع مجموعة من رجال الدين النافذين المتشددين لكي يحل محل والده من أجل إحكام سيطرة المتشددين على الوضع في إيران.
خاتمة:
إن إدراك قادة إيران حقيقة تصرفات الولي الفقيه وأنها تدور بين التناقض والفساد، فعلام يرضخ له ويطيع وهو ليس من عامة الشعب البلهاء والذين تروج عليهم الدعايات والخرافات الدينية المزورة !!
بوزيدي يحي
0 comments:
إرسال تعليق