مناقشة: صالح عبد العظيم
أولا: الثورة الإيرانية كمتغير تحليلي
لم تعد الثورة الإيرانية تستند بإطلاق إلى توجهاتها الأيديولوجية الإسلامية بقدر ما أصبحت ترتبط بمستجدات الواقع المعيش وإمكانية التعامل معه من أجل استمرارية الجمهورية الإسلامية ومواجهة الخصوم سواء في الداخل أو في الخارج.
رغم العقوبات العديدة التي تفرض على إيران عزلة دولية هائلة إلا أن الكتاب الراهن يحاول، من خلال نخبة متنوعة من الكتاب الإيرانيين المقيمين في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، أن يقدم توصيفا وتحليلا عريضا وعميقا للواقع الإيراني المعاصر على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
ويقدم الكتاب من خلال العديد من الدراسات القائمة على العمل الميداني صورة للتطورات المختلفة التي واجهت إيران منذ الثورة الإسلامية عام 1979، مع التركيز بشكل خاص على مرحلة ما بعد الخومينية.
ورغم ارتباط العديد من دراسات الكتاب بالتاريخ الإيراني خلال القرن العشرين فإن معظم التركيز الوصفي والتحليلي تم على مرحلة ما بعد الثورة الإيرانية، وهي مسألة تعني وفقا لعنوان الكتاب أن المقصود بإيران المعاصرة هو "إيران ما بعد الثورة الإسلامية".
ورغم ما تبدو عليه أقسام الكتاب الثلاثة من انفصال وتمايز فيما بينها، حيث يركز أولها على الاقتصاد، وثانيها على المجتمع، وثالثها على السياسة، فإن تأثيرات الثورة الإسلامية والنتائج الناجمة عنها برزت بوصفها هي الرابط الرئيس بين هذه الأقسام.
وفي ضوء ما سبق فإن أي قراءة، سواء أكانت وصفية أو تحليلية أو تجمع فيما بينهما، لا يمكنها أن تتجاهل أقسام الكتاب الثلاثة، مع الوضع في الاعتبار دور الثورة الإيرانية كمتغير تحليلي لعب دورا كبيرا في إعادة تشكيل الحياة الإيرانية لما يقرب من عقود ثلاثة متواصلة.
فالأمر الذي لا شك فيه أن الثورة الإيرانية أثرت على كافة مناحي الحياة في إيران وخلقت فضاءات عديدة مرتبطة بها سواء أكانت مؤيدة لها أو معارضة لها أو تجمع ما بين الاثنين.
كما أنه وبعد مرور هذه العقود من عمر الثورة فإنه من الواضح أنها ارتبطت بمراجعات عديدة لنفسها سواء بشكل علني أو بشكل خفي، وهي مسائل سوف تبرز في التناول التالي لأقسام الكتاب الثلاثة.
فالثورة لم تعد تستند بإطلاق إلى توجهاتها الأيديولوجية الإسلامية بقدر ما أصبحت ترتبط بمستجدات الواقع المعيش وإمكانية التعامل معه من أجل استمرارية الجمهورية الإسلامية ومواجهة الخصوم سواء في الداخل أو في الخارج.
ثانيا: الاقتصاد الإيراني
تخلت الدولة عن الأيديولوجيا الإسلامية وتوجهت بنظرة عملية نحو تحرير الاقتصاد وتنشيطه. ومع وصول خاتمي للحكم بدأ التحول من تلك الرؤى الاقتصادية القائمة على التوزيع وتوجيه الاقتصاد إلى دعم اقتصاد السوق والآليات المرتبطة به، وبشكل خاص العمليات المرتبطة بالخصخصة.
ليس من المصادفة أن يبدأ الكتاب بتناول الدراسات المتعلقة بحال الاقتصاد الإيراني المعاصر، فحجم التأثيرات الاقتصادية فاق في الكثير من الأحوال التأثيرات المجتمعية والسياسية في إيران. ويمكن القول بأن معظم التغييرات التي حدثت في إيران في العقود الماضية تمت تحت وطأة الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، ورغبة الثورة في إرضاء الشرائح الاجتماعية المختلفة، وبشكل خاص الأجيال الجديدة التي لم تعاصر مرحلة ما قبل الثورة، ولم يتشكل وعيها على المقارنة بين مرحلتي ما قبل الثورة الإسلامية الإيرانية وما بعدها.
ففي بدايات الثورة الإيرانية اعتمدت الدولة على إعادة توزيع الدخل ومساعدة الفقراء بالأساس، وهو ما أطلق مركزية الدولة وتحكمها في الاقتصاد انطلاقا من رؤى مثالية خاصة بالثورة. وهي وسائل تبدو طبيعية مع أي ثورة جديدة تحاول توسيع أرضيتها جماهيريا وضمان استقرارها. كما أن الثورة حاولت بدرجة أو بأخرى من خلال اكتسابها الرضاء الجماهيري التخلص من الطابع النخبوي الذي ارتبط بنظام الشاه الإمبراطوري.
ساعدت عوائد النفط بشكل كبير على رفع مستوى معيشة الأفراد ورفع نسبة النمو. ويمكن في هذا السياق المقارنة بين أوضاع عامي 1998 و 2005 بالنظر لعائدات النفط التي بلغت 13 بليون دولار للأول و 48 بليون دولار للثاني، وهي مسألة رفعت من نسبة نمو الاقتصاد إلى 5% في السنوات الأخيرة.
ففي الأوقات التي ترتفع فيها أسعار النفط وتزداد عائداته يمكن للدولة توسيع دائرة الخدمات الاجتماعية وزيادة دخل الأفراد بشكل مباشر أو من خلال سياسات الدعم المختلفة. أما حينما تنخفض أسعاره فإن الدولة تواجه العديد من الضغوط المختلفة التي تظهر نتائجها عبر تحولات الناخب الإيراني من مرشح لآخر، وبشكل خاص الانتقال من التيار المحافظ إلى التيار الإصلاحي والعكس أيضا صحيح.
لم تستطع الدولة في أعقاب الثورة الإسلامية الاستمرار في الاقتصاد التأشيري التوجيهي الذي تهيمن من خلاله على كافة الأنشطة الاقتصادية. فالضغوط الاقتصادية دفعت إلى التحول نحو اقتصاد السوق، وإن تم ذلك ضمن أطر عمل الدولة وتوجهات الثورة الإسلامية.
ورغم ذلك فقد تخلت الدولة عن الأيديولوجيا الإسلامية وتوجهت بنظرة عملية نحو تحرير الاقتصاد وتنشيطه. ومع وصول خاتمي للحكم في الفترة من عام 1997 إلى 2005 بدأ التحول من تلك الرؤى الاقتصادية القائمة على التوزيع وتوجيه الاقتصاد إلى دعم اقتصاد السوق والآليات المرتبطة به، وبشكل خاص العمليات المرتبطة بالخصخصة.
ورغم ذلك فإن التحول من اقتصاد الدولة إلى اقتصاد السوق لم يتم بشكل كلي وشامل، فما زالت الدولة تحتكر جوانب كبيرة من الاقتصاد في ضوء الدور الهائل والمؤثر للنفط كمصدر هام من مصادر الدخل القومي في إيران.
ولم تقف التحولات التي مرت بها الجمهورية الإسلامية فقط عند الضغوط الاقتصادية التي جعلت الدولة تقبل بنوع من التحول المشروط نحو اقتصاد السوق من موقع توجهاتها العملية النفعية بالأساس، لكنها انتقلت نحو تغير التأثيرات الخاصة بالمدن والأقاليم المختلفة في إيران.
فلم تعد طهران وغيرها من المدن الإيرانية الرئيسة هي المتحكم الأوحد في العملية الانتخابية حيث انتقلت مراكز القوى منها للأقاليم والمقاطعات والمدن الصغرى الأخرى. فلأول مرة يلعب سكان الريف والمناطق البعيدة عن طهران دورا كبيرا في تحديد الفائزين في الانتخابات، ولأول مرة يضع المرشحون تصويت هذه المناطق في الاعتبار.
ومن المهم هنا ملاحظة ظهور لاعبين جدد على الساحة الإيرانية مثل: سكان الأقاليم والمناطق الريفية، النساء، الشباب، لاجئي الحروب، الأقليات العرقية، والمهاجرين. وكل هؤلاء اللاعبين هم الذين يقومون بدور كبير في عمليات التغير الاجتماعي في إيران الآن.
ومن الضروري هنا من أجل استيعاب التحولات المختلفة التي تمر بها إيران المعاصرة، وبشكل خاص بعد قيام الثورة وسقوط الشاه، فهم الكيفية التي تغير بها هذا المجتمع من خلال مراكزه وأطرافه المختلفة.
فلم تكن المناطق النائية بعيدة عما يحدث في المدن الكبرى وعلى رأسها طهران، بل كانت متضافرة ومتكاملة معها، إلى الحد الذي يمكن معه القول أن التعرف على ما يحدث في الأطراف يمنحنا القدرة على التعرف على ما يجري في المجتمع الإيراني ككل.
فقد أصبح المجتمع الإيراني أكثر تكاملا وترابطا في مرحلة ما بعد الثورة عما كان عليه الحال قبلها، وهي مسألة تؤكد ما يقوله البعض بأن الثورة الإيرانية تعتبر في التحليل الأخير "ثورة أقاليم".
وارتباطا بالجوانب الاقتصادية تناول الكتاب التحولات المختلفة التي أصابت المرأة الإيرانية العاملة اعتماد على بيانات التعدادات السكانية في الفترة من 1956 إلى 2006. فلم يقف الكتاب فقط عند الجوانب الاقتصادية المباشرة لكنه كشف عن التأثيرات المختلفة للثورة الإيرانية في مجال إعادة تشكيل البنيات الاجتماعية وتأثيراتها الاقتصادية. فالتحولات في التعليم ساعدت على دخول نسبة كبيرة من النساء في المرحلة العمرية ما بين 25 إلى 50 عاما لسوق العمل، وبشكل جوهري في القطاع الخاص في الوظائف المهنية الحضرية مثل قيادة التاكسي أو العمل في العقارات أو مجال الهندسة أو في الأعمال الحرة.
كما أن هذا الوضع أدى بالعديد من النساء إلى التحول من العمل غير المأجور- الذي كان منتشرا بشكل كبير في الريف الإيراني في صناعة السجاد اليدوي المرتبطة بالنساء غير المتعلمات صغيرات السن اللاتي كُن يعملن بدون أجر ضمن حدود العمل العائلي- إلى العمل المأجور.
ولقد ارتبط ذلك بتوجهات اقتصادية وسياسية أكثر منها توجهات أيديولوجية تتعلق بأسلمة الثورة، وهو أمر أدى فيما بعد إلى ارتفاع نسبة العاطلات عن العمل بين النساء نظرا لزيادة أعدادهن بشكل كبير يتجاوز الفرص المتاحة أمامهن في سوق العمل.
لقد كشفت النتائج المختلفة المرتبطة بعمل المرأة عن تحولها من الأنشطة التقليدية المتعارف عليها في مرحلة ما قبل الثورة والتي تشمل الزراعة بالأساس والصناعات المرتبطة بالسجاد اليدوي إلى القطاع الخدمي وبشكل خاص التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية.
وهي تحولات تعكس التغيرات ذاتها التي ارتبطت بالاقتصاد الإيراني من خلال توسيع دائرة الفرص المتاحة أمام المرأة للعمل في التخصصات المختلفة، رغم محدودية المعروض منها. ويلاحظ أن هذا التحول يختلف عن الكثير من التجارب في الدول النامية التي استفادت من رخص عمل المرأة في مجالات التصنيع من أجل التصدير، حيث استفادت إيران من المرأة في قطاع الخدمات بشكل أساسي، وهو أمر ساعد عليه التوسع الهائل في تعليم المرأة وعائدات النفط والتحولات السكانية.
ورغم ذلك فقد حدث نقص حاد في القوى العاملة النسوية بعد الثورة وبشكل خاص في المناطق الريفية وفي الحرف اليدوية والقطاع الخاص، بينما زادت القوة العاملة بأربعة أضعاف في القطاع العام.
لقد لعبت الثورة الإسلامية الإيرانية دورا غير مباشر في التأثير على القوة العاملة النسوية وذلك من خلال فتح المجال واسعا أمام تعليمها وهو ما أثر على عملها اليدوي في المناطق الريفية، وفيما بعد في المناطق الحضرية أيضا، من خلال فتح المجال أمامها للعمل في الوظائف المهنية والتقنية المختلفة على الرغم من وجود بعض العوائق الاجتماعية والثقافية التي تواجهها في المجتمع الإيراني حتى الآن.
ثالثا: المجتمع الإيراني
اتخذت الثورة الإيرانية توجها عمليا بديلا عن التوجه الشعبي الذي اتخذته في بداياتها والذي لعب دورا كبيرا في تراجع المجتمع العلمي في إيران، وبدأت في تحسين وتوفير الشروط اللازمة لهذا المجتمع العلمي والاحتفاء بنخبه. وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات النشر العلمي من ناحية، والتي ارتفعت من 305 دراسة عام 1975 إلى 5423 دراسة عام 2005، كما زاد أعضاء هذا المجتمع من العلماء بدرجة كبيرة من ناحية أخرى.
في تناول أعمق من التناول الاقتصادي المرتبط بعمل المرأة يحاول الكتاب التعرف على السياق الاجتماعي للعلاقة بين الدولة والدين والمرأة في إيران منذ اندلاع الثورة عام 1979، وبشكل خاص في ضوء التشريعات الكثيرة المقيدة لحركتها وحقوقها. وهو أمر دفع النساء من خلفيات عدة إلى التحرك بشكل جمعي من أجل البحث عن أرضية مشتركة تمكنهن من مواجهة التحديات المختلفة التي تنتقص من حقوقهن.
ومما ساعد على تحسين أوضاع المرأة والمطالبة بحقوقها النسوة اللاتي تم ترشيحهن لدخول البرلمان، واستطعن المطالبة بالمزيد من حقوقها. كما أنهن حصلن على دعم العديد من المحامين والنشطاء والصحفيين ومنظمات المجتمع المدني.
وفي هذا السياق تنوعت جهود النساء بين الفردية والجمعية في الوقت نفسه؛ فقد قام بعضهن بجهود فردية تثقيفية للإيرانيات مثل الجهود التي قامت بها المحاميات في العديد من المناطق الريفية، كما قام بعضهن بالعمل الجمعي من خلال انتمائهن لبعض منظمات المجتمع المدني والعمل من خلالها.
وساعد المناخ الإصلاحي الذي قاده بعض الرؤساء مثل خاتمي على علنية المطالبة بإصلاح أوضاع المرأة الإيرانية. إضافة إلى ذلك فقد ساعدت هذه الجهود على مواجهة أيديولوجيا الدولة المحافظة، والتقدم بالشكاوي العديدة للمؤسسات المعنية من أجل تحقيق المساواة والعدل بين الرجال والنساء. ومن الواضح أن جهود المرأة الإيرانية تتراكم محققة المزيد من النجاحات في مجال العدل والمساواة والحصول على الحقوق المختلفة.
والواقع أن الدولة ساعدت المرأة الإيرانية في مجال التعليم، ومنحتها الجوائز، وسمحت لها بالترشح السياسي. ورغم ذلك فإنها ما زالت تخضع لسلطة الأب والزوج ولا يمكن لها السفر بحرية، ولا تستطيع أن تحصل على حقوقها في حال التعددية الزوجية والطلاق وغيرها. كما أنها تواجه أشكالا تمييزية في مجال العمل، وهي مسألة تؤكد ضرورة تغيير السياقات الاجتماعية القيمية من أجل تفعيل الجوانب القانونية التشريعية المختلفة.
إضافة للنساء حاول الكتاب تقديم مسح أنثروبولوجي للسلوكيات البالغة الخطورة الشائعة بين الشباب الإيراني المعاصر اليوم، وبشكل خاص الأنشطة الجنسية وتعاطي المخدرات.
وعلى الرغم مما تقدمه الإحصائيات الأولية من زيادة مشكلات الإصابة بفيروس نقص المناعة والمخدرات، فإننا لا نعرف سوى القليل عن الدوافع المؤدية لزيادة هذه الممارسات الخطيرة بين الشباب الإيراني في المناطق الحضرية. وتبرز أهمية هذا التناول من خلال منهج التحليل الكيفي الأنثروبولوجي الذي يقف على شبكة العلاقات الاجتماعية في البيئات المحيطة بالشباب التي تؤدي لانتشار هذه الممارسات المختلفة.
ومما يزيد من المخاطر المرتبطة بالشباب ارتفاع أعدادهم؛ ففي العاصمة طهران التي يقيم بها 12 مليون إيراني، يوجد من بينهم 9 مليون فرد تحت سن 30 عاما.
ويعني ذلك ارتفاع نسبة الشباب في بلد تشهد تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية هائلة. ويتحدث الشباب عما يسمونه "الثورة الجنسية" في طهران التي تعني تصورا مختلفا للخطاب الجنسي والعلاقات المرتبطة به وفقا للجمهورية للإسلامية، وبشكل خاص القيود المفروضة عليهم من قبل السلطات مثل نمط الملبس، وتجمعات الشباب، والكحوليات، والرقص، إضافة إلى مهاجمة الأسس الأخلاقية التي يحكم من خلالها النظام المواطنين.
فالثورة الجنسية هي أداة الشباب المعاصرة من أجل مواجهة الدولة الإسلامية والتمرد عليها، بل والعمل على تغييرها. فمجرد ارتداء أزياء جديدة عصرية يمثل من وجهة نظر هؤلاء الشباب محاولة من أجل التغيير ومواجهة السلطات الدينية الحاكمة.
ومن أهم الجوانب التي يركز عليها الكتاب هو تحول ممارسات الدولة بعد الثورة إلى ممارسات أيديولوجية لا تقيم أهمية لدور الممارسات السياسية الاقتصادية العلمية. فالثورة، وتحت وطأة شعاراتها الأيديولوجية، لم توجه بالا للممارسات العلمية القائمة على التحليل والجدل.
وهو ما ظهر من خلال طريقتها في التعامل مع مشكلات الإدمان حينما تجاهلت مراكز العلاج المختلفة التي انتهى بها الحال إلى الإغلاق متبنية منظورا إسلاميا متشددا في العقاب. وهو أمر أدى في النهاية، في ضوء استشراء تعاطي المخدرات في الجمهورية الإسلامية، إلى تحول الثورة نحو الحلول العملية التي تعتمد على المؤسسات الطبية المتعارف عليها. فالثورة يمكنها أن تتخلي عن قناعاتها الدينية وتسمح بعودة المؤسسات الطبية من أجل ضمان استمرار النظام الإسلامي.
ولا يقف التركيز على تحولات المجتمع الإيراني المعاصرة فقط عند النساء أو الشرائح الشبابية لكنه يتعداه إلى بعض الجوانب الدقيقة في المجتمع مثل المجتمع العلمي الإيراني الراهن. ورغم الإنجازات الهائلة للمجتمع العلمي في إيران فإن معظم أعضاء هذا المجتمع، وبشكل خاص من بين أبناء الطبقة الوسطى، يشكون في جدوى هذا المجتمع، بل إنهم يشكون أيضا في وجوده.
ورغم تراجع عدد العلماء والنشر العلمي في أعقاب الثورة فإن المؤشرات الحالية تدل على تزايد العلماء وارتفاع نسبة النشر العلمي. والملاحظ أن معظم أبناء هذا الجيل من العلماء هم من جيل ما بعد الثورة الإيرانية الذي يقع في الفئة العمرية ما بين 25 إلى 45 عاما. كما أن معظم المؤسسات العلمية التي يعملون بها إما جديدة مثل معهد الفيزياء والرياضيات النظرية في طهران أو تمثل توسعا لمؤسسات قديمة مثل جامعة شيراز و جامعة شريف للتكنولوجيا.
والملاحظة الجديرة بالذكر هنا أن النخب العلمية الموجودة الآن تعلمت في إيران، وحصلت على درجة الدكتوراه على أيدي إيرانيين حصلوا على درجاتهم العلمية من الغرب. كما أن هؤلاء العلماء قد بينوا أن التعليم والحصول على الدرجات العلمية قد أصبح واحدا من العناصر الحاسمة بالنسبة لسوق العمل في إيران الحديثة.
والواضح أن الثورة الإيرانية قد اتخذت توجها عمليا بديلا عن التوجه الشعبي الذي اتخذته في بداياتها والذي لعب دورا كبيرا في تراجع المجتمع العلمي في إيران، وبدأت في تحسين وتوفير الشروط اللازمة لهذا المجتمع العلمي والاحتفاء بنخبه. وهو ما أدى إلى ارتفاع معدلات النشر العلمي من ناحية، والتي ارتفعت من 305 دراسة عام 1975 إلى 5423 دراسة عام 2005، كما زاد أعضاء هذا المجتمع من العلماء بدرجة كبيرة من ناحية أخرى.
وكما يمكن القول بأن ثورة الشباب بمفرداتها الجنسية يمكن أن تواجه ركود الدولة الدينية فإن العلماء والمفكرين الإيرانيين يمكنهم أن يطرحوا أطرا جديدة يواجهون من خلالها الدولة الدينية وأفكارها الجامدة.
رابعا: السياسات الإيرانية
فارسي وإيراني يستخدمان كلمتان تستخدمان بالتناوب فيما بينهما مع أن أكثر من النصف بقليل من الإيرانيين يُعتبرون فارسيين، وبشكل عام تثير أية دعاوى انفصالية شكوكا هائلة لدى السلطات الإيرانية بسبب تدخل القوى الأخرى في الشؤون الإيرانية الداخلية مثل تركيا والاتحاد السوفييتي، والآن الولايات المتحدة.
يتناول الكتاب جوانب كثيرة تتعلق بالتحولات السياسية في إيران منذ الحرب الباردة وحتى الآن، ويتسم تناوله للسياسات الإيرانية بالشمولية التي تجمع بين مستويات تحليلية صغيرة وكبيرة، داخلية وخارجية. على المستوى الداخلي تأثر الدستور الإيراني في مرحلة ما بعد الثورة بشخصية الخوميني، وهو أمر أدى في النهاية إلى استبداد واسع المدى من جانب خامنئي، كما أن دستور 1979 كان مجرد دستور أيديولوجي للثورة أكثر منه تعبيرا عن مطالب جماهيرية حقيقية.
ويعرض الكتاب لانتخابات عام 2005 التي قادت لعودة المحافظين للسلطة، فعبر ما يقرب من عقد من الزمان من محاولات الإصلاحيين المختلفة انتهي المطاف بعودة المحافظين والاتجاه الذي تتخذه إيران الآن، وبشكل خاص الوضع الاقتصادي المتأزم وهيمنة رجال الدين وتأسيس البرنامج النووي.
فالركود الاقتصادي ومسار السياسات الخارجية الإيرانية أدى للكثير من التساؤلات والجدل حول مستقبل الجمهورية الإسلامية، ومدى قدرتها على الاستمرار. ويمكن القول بوجود صراع لم يحسم بعد بين التيارات المحافظة والإصلاحية، وهى مسألة تكشفها صعوبات الانتخابات عام 2009.
لقد خلقت الثورة انقساما حاد لدى الشعب الإيراني بين مؤيد لتوجهاتها المحافظة ومعارض لها، وهو أمر يؤكد على أن التغيير القادم في إيران سوف تحسمه توجهات المواطن الإيراني وطبيعة انتماءاته.
كما عرض الكتاب للعديد من الأقليات الدينية والعرقية في الدولة، وبشكل خاص في المناطق النائية، وكشف عن قدرة هذه الأقليات في أن تطرح نفسها بشكل متبلور الآن على الساحة الإيرانية، وأن تحسن من أوضاعها الاجتماعية والسياسية في الدولة. فالمجتمع الإيراني مجتمع متعدد الأقليات والإثنيات واللغات، وهو أمر لا يعترف به العديد من الإيرانيين بما في ذلك بعض المثقفين، سواء عن جهل أو بسبب دوافع وطنية شوفينية أو خوفا من أية حركات انفصالية، وهو ما يفسر الصعوبات المرتبطة بوجود أية بيانات إحصائية رسمية للإثنيات في إيران.
ورغم ذلك تشير بعض التقديرات الرسمية إلى أن إيران تنقسم إلى الفئات التالية: 51% فارسيين، 24% آذريين، 8% جيلاكيين ومازاندارانيين، 7% أكراد، 3% عرب، بالإضافة لبعض الأقليات الأخرى التي تشمل اللور والتركمان والبلوش واليهود والأرمن والسريان. وهو واقع إثني يكشف عن مدى تعدد الأقليات في إيران دينيا ولغويا، كما يكشف في الوقت نفسه عن ثراء المجتمع الإيراني وطبيعة التعقيدات التي تواجهه.
وعلى الرغم من أن الكلمتين فارسي وإيراني يستخدمان بالتناوب فيما بينهما فإن أكثر من النصف بقليل من الإيرانيين يُعتبرون فرسا، كما يظهر من الأرقام السابقة. وبشكل عام تثير أية دعاوى انفصالية شكوكا هائلة لدى السلطات الإيرانية بسبب تدخل القوى الأخرى في الشؤون الإيرانية الداخلية مثل تركيا والاتحاد السوفييتي، والآن الولايات المتحدة.
ورغم ذلك فإن هناك تفاوتا بين القادة الإيرانيين بالنظر لتركيبة المجتمع الإيراني، ففي عهد خاتمي كان الشعار المتاح هو "إيران لكل الإيرانيين"، الأمر الذي يؤكد على التعددية الثقافية، وهو أمر تم تجاهله بشكل كبير في عهد الرئيس الإيراني أحمدي نجاد الذي أكد على التوجه الشيعي للجمهورية الإسلامية. ورغم ذلك فإنه يوجد اتجاه تعددي ثالث يجمع بين تراث إيران قبل الإسلام وبعده إضافة لمستجدات التحديث ومفرداته المختلفة.
لم يفت الكتاب تناول السياسات الخارجية الإيرانية والمحيط الجغرافي الآسيوي والعربي الذي تتعامل معه، إضافة لتعاملاتها مع الغرب، وبشكل خاص بعد سقوط صدام حسين. وهناك اتجاه لدي مؤلف الكتاب يؤكد على أهمية العلاقات الإيرانية العربية وضرورة الحفاظ على استقرارها، وبشكل خاص بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي داعيا إلى ضرورة إيجاد حلول للمشكلات العالقة مع الدول الخليجية، وعلى رأسها مشكلة الجزر الثلاث الإماراتية، وضرورة العمل على إيجاد صيغ تفاهم حقيقية بين إيران والسعودية.
ورغم ذلك يبدو واضحا أن توجه الكتاب يضع إيران فوق دول المنطقة بوصفها أكبر قوة إقليمية سكانيا وعسكريا، وهو أمر يكشف عن أهمية إيران كفاعل رئيس في المنطقة من خلال شراكة حقيقية مع الولايات المتحدة الأميركية تهدف لحفظ الاستقرار في المنطقة عموما والعراق خصوصا. وأخيرا يؤكد الكتاب على أن أي محاولة لتجاهل إيران لن تكون مجدية أو نافعة كما أنها سوف تكون محاولة قصيرة النظر لشؤون المنطقة.
أخيرا تبقي العديد من القضايا معلقة حتى إشعار آخر: فهل يحسم الناخب الإيراني توجهاته الحائرة بين التيارين المحافظ والإصلاحي؟ وهل تستطيع المرأة والأجيال الجديد مواجهة السلطات الدينية التقليدية وتحديها؟ وأخيرا هل تستطيع إيران إعادة صياغة علاقاتها مع دول الجوار من ناحية والدول الغربية من ناحية أخرى بما يؤهلها للعب دور جيد وفاعل وسلمي في المنطقة؟ أسئلة عديدة لم يجب عنها الكتاب، تاركا للأيام القادمة حرية التصرف!!
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات
0 comments:
إرسال تعليق