فأخذت أفتش من خلال بعض الدوريات المطبوعة عن الكيان الصهيوني لأعرف ماذا يحدث الآن في إسرائيل، وأنا في هذه المهمة الشخصية لم أكترث بالقناعات المؤججة في الوعي الجمعي العربي بأن إسرائيل حركة استعمار مداري، وبأنها دولة تتقنع بالدين أو ما أسمته هي بالصهيونية العالمية، وأيضاً لم ألتفت وأنا أرصد الشأن الصهيوني بأن إسرائيل مجرد مجموعة بشرية تمركزت في بقعة عربية لمساعدة الإمبريالية العالمية وغير ذلك مما حفظناه عن ظهر قلب عن هذا الوجود السرطاني بالأراضي العربية الخالصة.
لكن كل الذي همني هو الإجابة عن سؤال مضطرب لا يزال يتحكم في المظان الذهنية للعقل العربي: لماذا لا يرى الكثيرون من العرب والمصريين بصفة خاصة نهضة عربية أو إسلامية إلا في غيبة الآخر أو محاولة إلغائه وإقصائه عن المشهد برمته؟
إجابة هذا السؤال وجدتها وأنا أتلمس معالم تنفيذ الاستراتيجية الإسرائية في تحقيق تقدمها دون النظر إلى حالة البلاد والعباد المجاورة لها، تلك الحالة التي أجزم بأنها قدمت أكبر هدية مادية ومعنوية لإسرائيل في تنفيذ مخطاطها الاستعمارية والتكنولوجية والاقتصادية وأخيراً الثقافية.
فإسرائيل التي عرف عنها أنها وطن الشتات والجنسيات المتباينة والثقافات الأكثر تبايناً واختلافاً لم تعبأ بما يحدث حولها من مخاض ثوري بعضه نجح والبعض الآخر لا يزال يحبو نحو النجاح وقليل من هذا المخاض لا يزال متعسراً كما هو الشأن في مصر حالياً، والعقدة الأزلية التي لا تزال متغلغلة في عقولنا وصدورنا أننا نصر على رؤية إسرائيل من زاويتين فقط، وهي بالطبع رؤية قاصرة لا تفي بالواقع، بعضنا يرى في إسرائيل حالياً أنها تحشد آلاف الجنود ومئات الكتائب العسكرية على حدودنا الشرقية في حالة تأهب قصوى لأية اشتباكات متوقعة من الجانبين، ونحن في هذه الرؤية الضيقة نحاول أن نضفي على أنفسنا لون وطعم ورائحة المقاومة والجهاد مع عدو هو بالأساس مشغول جداً باستراتيجية محكمة دقيقة.
وبعضنا يرى الكيان الصهيوني هو الراعي الرسمي والحصي لكل صور الفجور والانحلال القيمي والأخلاقي من مواقع إباحية وتجارة بشرية للأجساد والأعراض وترويج كل ما هو مدمر للصحة ومقوض للعزيمة.
ورغم أن هاتين الرؤيتين تقاربان الصواب إلا أن المشهد الإسرائيلي الداخلي ليس قاصراً على رؤيتنا المحدودة.
فإسرائيل منذ أكثر من ستة أشهر وربما يزيد تحاول جاهدة في استغلال تنوع الثقافات المحيطة بها والثقافات التي يتمتع بها شعبها من جنسيات أصول متفاوتة في تحقيق تناغم بينها وتفاعلها مع انصهارها في صهيونية لا يمكن الفكاك منها.
وفي الوقت الذي تتبارى فيه البلاد العربية لإعلان تسيدها وتصارعها الأيديولوجي والثقافي والادعاء المستدام بأن كل دولة عربية تقف في معاداة الكيان الصهيوني، نجحت إسرائيل في استغلال هذا الصراع من خلال تحقيق الوئام الثقافي لليهود وحشد كل القوى في مواجهة هذا التشتت والتفكك العربي المستمر.
وفي الوقت نفسه الذي أصابنا فيه حمى استغلال الطاقات التكنولوجية كالفيس بوك وتويتر وبلوك نت في حرب الدعاية الرئاسية وحملات إسقاط حكم العسكر وتدشين شهداء الألتراس وغيرها من الكرنفالات الافتراضية عبر مواقع التواصل الاجتماعي بدأت إسرائيل في تدشين أسطورة التزييف الرقمي، وذلك من خلال محورين رئيسيين؛ الأول يتمثل في رقمنة كل المعارف والموسوعات والكتب التي تتناول إسرائيل تاريخياً وحتى اليوم، وكذلك تحويل بعض الكتب العربية الورقية إلى نسخ إلكترونية مع تغيير المؤلف تاريخ النشر في الوقت الذي نمارس فيه أسوأ فصول مسرحية الغفلة الثقافية التي نعيشها الآن.
أما المحور الثاني هو التشويه الثقافي للعرب، وهم في ذلك لا يبذلون جهداً كبيراً لتحقيق هذه المهمة، فيكفيك أن تتناول سريعاً ما يعرض على شاشات الفضائيات العربية لتعرف ما يحدث بالوطن العربي من مثالب وسقطات برلمانية وهوس في الهجوم على السلفيين والإخوان والليبراليين والعلمانيين والشيوعيين والوهابيين والأباضيين والشيعة والأكراد والنوبيين والصعايدة والعسكر والحكومات والجمهورية والملكية وكل فصيل يستوطن الأقطار العربية. وما يتبع ذلك اللغط من مظاهر دموية وخروج عن المنظومة القيمية والأخلاقية.
وتجتهد إسرائيل حالياً في تطوير بعض الصناعات التكنولوجية المتقدمة في الوقت الذي لا نستطيع نحن إدخال أية تحديثات وتجديدات على صناعاتنا التقليدية البائدة كالأسمدة، والكيماويات الزراعية والأسمنت.
وفي الوقت الذي ندعي لأنفسنا فقط بأن الكيان الصهيوني متفوق عسكرياً بفضل المساعدات الأميركية لها وهذا من قبيل الجهل بالعدو، تبارت إسرائيل مع نفسها حينما أنشأت معهد "وايزمان" ولاحظ جيداً المفارقة الطريفة بين اسم المعهد وعنوان مؤتمر التعليم القطري منذ عامين والمسمى بمؤتمر وايز لتعرف وجه الصلة والقرابة الأيديولوجية بين أصغر كيانين من ناحية المساحة.
المهم في أمر هذا المعهد أنه يختص بإنشاء قاعدة علمية تكنولوجية، هذه القاعدة التكنولوجية أمكنت إسرائيل في تطوير التكنولوجيا الحيوية لديها، والبيولوجيا الجزيئية التي لا نعلم عنها شيئاً لا في مدارسنا المتهالكة أو معاهدنا العلمية خالدة الذكر كطقطوقات سيد درويش.
ليس هذا فحسب بل دخلت إسرائيل في سباق محموم ومتسارع مع نفسها في أبحاث الذكاء الاصطناعي وطريقة عمل المخ البشري واستغلال أقصى طاقاته الممكنة، وأيضاً بحوث الطاقة في الوقت الذي نشارك نحن في تأبين شهيد محطات الوقود وطوابير أسطوانات البوتجاز.
وكم ضحكت ضحكاً كالبكا كما فعل المتنبي حينما رأيت صوراً حديثة على متصفح البحث الإلكتروني "غوغل" بخصوص مدى إسهام البحوث الإسرائيلية في زراعة الصحراء ونحن نعيش في مساحة خضراء ضيقة صغيرة يحتضنها العطش والرمال.
ولأسباب بعينها تجعلني أرفض كل المرشحين الذين يدغدغون مشاعر المواطنين بمسألة التأمين الصحي والعلاج المجاني أهمها التطور الصناعي للدواء في إسرائيل وحينما لم نجد حلاً لكارثة الحمى القلاعية قلنا على الفور أن نفوق الماشية سببه إسرائيل أيضاً، يعني باختصار في البداية لم نفعل شيئاً وفي النهاية أيضاً أصابنا شلل التفكير والحركة.
وإسرائيل التي نراها نحن فقط فيلماً جنسياً إباحياً وجنوداً وجواسيس، هي نفسها في الداخل التي تتفاخر بجامعاتها بتسجيل يومي لبراءات الاختراع لأساتذتها وعلمائها ونحن إما أن نعلق الدراسة بالتأجيل أو الإلغاء أو ندمر مؤسساتنا العلمية والأكاديمية لأننا باختزال شديد أصبحنا مصابين بفقدان الذاكرة الثقافية والتاريخية لأمتنا.
كل هذا ولم تنته إسرائيل من السعي في تنفيذ استراتيجيتها للتسيد الثقافي والتكنولوجي فهي أصبحت تعتلي المركز الأول في إنتاج برامج سرية المعلومات وضغط البيانات بفضل تكنولوجيا الرقمنة في الوقت الذي اعتلينا نحن المركز الأول بعد الثورة في نقل البيانات وتسريبها واحترفنا الفضيحة التكنولوجية عبر الفيس بوك وتويتر.
هذا هو المشهد داخل إسرائيل مع الإشارة السريعة إلى جهودهم المستمرة في نقل وتهريب الآثار المصرية في ظل الانفلات الأمني والغياب الثقافي في مصر، وذلك بهدف تشويه معالم هذه الآثار ونقل تبعيتها إلى الكيان الصهيوني لإيجاد دليل دامغ على الوجود الإسرائيلي في فلسطين.
كل هذا يحدث بالفعل خلال ستة أشهر انصرمت أما نحن فلا نزال نعاني أمية متعددة الأوجه، وضعفاً حاداً تشبه الأنيميا في اكتساب المهارات البحثية والعلمية، ونواصل مشاهدة مسلسل نزيف العقول والأدمغة، ولم أكن أظن يوماً أن الثورة العظيمة التي قمنا بها جميعاً ضد نظام فاسد تحولت إلى ثورة مضادة نحو أنفسنا.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
د.بليغ حمدي إسماعيل
0 comments:
إرسال تعليق