التوقيع نفسه انطوى على ملاحظتين مهمّتين، الأولى أنه جرى في “الكنيست” الصهيوني وليس في الوزارة المعنية بالمياه أو النفط، والثانية أن الجهة التي وقّعت الاتفاقية من الجانب “الإسرائيلي” هي شركة الصناعات العسكرية، في حين وقّعها من الجانب الجنوبي السوداني وزير المياه والري . وإذا توقّفنا عند هذا المعطى، لن يكون صعباً فهم ماذا يعني أن توقّع شركة سلاح اتفاقاً مائياً . هذه رسالة لمصر والسودان ولمن يريد أن يفهم في الطبقة السياسية العربية ممن بلعوا طعم انفصال جنوب السودان وصدّقوا كذبة حقوق الشعوب في تقرير المصير، وإنقاذ الجنوبيين من الوضع الذي كان بائساً وأصبح أشد بؤساً بأضعاف مضاعفة بعد الانفصال .
إذ أبقينا صفحات الماضي مطوية، سنضطر للنظر إلى الاتفاقية المائية الموقّعة باعتبارها اتفاقية عادية بين جانبين يجري توقيع مثلها عشرات الاتفاقات الثنائية بين دول العالم . لكن المنهجية العلمية تمنعنا من إحداث القطع بين الماضي والحاضر إذا أردنا أن نشارك في صنع المستقبل وعدم السماح له بأن يتشكّل على جثثنا .
في مايو/أيار 2010 وقّعت دول المنبع في حوض النيل اتفاقية جديدة في أوغندا لإعادة توزيع حصص المياه بالتساوي بين دول النيل، إلا أن مصر والسودان، دولتا المصب رفضتا الحضور، فضلاً عن التوقيع، واعتبرتا أن الاتفاقية الجديدة لا قيمة لها من الناحية القانونية بالنسبة للدول التي لم توقع عليها . تلك الخطوة جاءت بعد جولة لوزير خارجية الكيان أفيغدور ليبرمان في دول حوض النيل في القرن الإفريقي، وأكدت عشرات التقارير دوره في تحريض تلك الدول على التنكّر للاتفاقية الدولية الموقّعة بين جميع دول المنبع والمصب . ونذكّر من ينسى أو يتناسى، أن ليبرمان هو صاحب التهديد الشهير بقصف السد العالي وإغراق مصر بالمياه .
لا يعني هذا أن الأطماع “الإسرائيلية” بمياه النيل، كما نهر الليطاني والأردن والفرات، لم تبدأ بليبرمان، في جزء من الأيديولوجية الصهيونية، ويعبّر عنها شكل العلم “الإسرائيلي”، والعشرات من المؤلفات والكتابات والتصريحات المعلنة، وأضعافها من المخططات في الخفاء . ومن المفيد العودة إلى مثال واحد، وهو كتاب أصدره الخبير الاستراتيجي “الإسرائيلي” أرنون شوفير قبل بضع سنوات ويتناول فيه مشكلة المياه في الشرق الأوسط بشكل عام، ومياه النيل بشكل خاص، وفيه يعترف، كما أورد د .سامح عباس، بوجود مصالح “إسرائيلية” حيوية في منطقة حوض النيل، ويعتبر أن نسب توزيع المياه بين دول نهر النيل لها تأثير مباشر على “إسرائيل” .
عوزي لانداو وزير المياه “الإسرائيلي” اقترح إلى جانب المياه، نقل النفط من جنوب السودان إلى المنشآت “الإسرائيلية” “لأن” دولة جنوب السودان “المسكينة” ليس لديها معامل لتكرير النفط، و”لأن” هذه الوسيلة سوف تساعد الجنوب على حل مشكلاته، ولعل مواطناً جنوبياً يسمع هذا الكلام المعسول ليرد عليه “عيش يا كديش” . إذن سنرى مياه النيل تجري إلى “إسرائيل”، لأن هناك من لا يريد لمياه القومية العربية أن تعود إلى مجاريها .
أمجد عرار
0 comments:
إرسال تعليق