السبت، أكتوبر 27، 2012
العقلانية
السبت, أكتوبر 27, 2012
اضف تعليق
كتب طه حسين في مدخل كتابه “في الشعر الجاهلي” الصادر عام 1926 ما يلي: “لنجتهد في أن ندرس الأدب العربي غير حافلين بتمجيد العرب أو الغض منهم، ولا مكترثين بنصر الإسلام أو النعي عليه، ولا معنيين بالملاءمة بينه وبين نتائج البحث العلمي والأدبي، ولا وجلين حين ينتهي بنا هذا البحث إلى ما تأباه القومية أو تنفر منه الأهواء السياسية أو تكرهه العاطفة الدينية. فإن نحن حررنا أنفسنا إلى هذا الحد، فليس من شك في أننا سنصل ببحثنا العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء”. كان قد عبّر عن مثل هذه النظرة العلمية فيلسوف العرب، أبو يوسف يعقوب الكندي المتوفى حوالي عام 865م.
من آراءه المعروفة أنه ينبغي احترام الحقيقة وتبنّيها بغض النظر عن مصدرها حتى ولو أتت من أقصى الشعوب والأجناس المختلفة عنّا. لا ريب أن العلم الموضوعي والإدراك الموضوعي للحقائق معناه تحرير الإنسان على مختلف المستويات. على الإنسان أن يعلّل ويحلّل، أن يفكّ ويربط، أن يصوّر ويفسّر. على الباحث الحقّ أن يجرّد نفسه من العواطف والأهواء ورفض الخرافات والشعوذة والخزعبلات إذ أن العقلانية تتعامل مع الانطباعات على الفكر بموضوعية ومنهجية. كما لا بدّ من تنمية الملاحظة الذاتية واللجوء إلى نهج الاستقراء والاستنتاج. المرء العقلاني لا يصدّق أي شيء غير واضح المعالم فهو يحلل المشكلة إلى فروعها ومكوناتها وبحث في كل فرع على حدة.
يتحتم على ثمل هذا الشخص أن يشكّ فالشكّ معناه التفكير والتفكير ينمّ عن الحياة، Cogito ergo sum أنا أفكّر إذن أنا حيّ. إن مصلدر التعليم العلمي الحديث موزعة في الأساس على ثلاثة محاور أساسية: البيت والمدرسة والمجتمع وهي وللأسف ليست بحالة خير في العالم العربي حيث ثلثه أميّ بالمعني التقليدي للكلمة. لا مندوحة من التعاون البنّاء بين هذه المحاور بغية تنمية روح الموضوعية والعقلانية والاستقلالية والنقد الهادف. إن عملية تطوير المنهج التعليمي منوطة بوزارة التربية والتعليم في الدولة واتّباع هذا النهج القويم يؤول لا محالة إلى الدفاع عن قيم أساسية وهامّة في المجتمع البشري مثل العدل والحرية والتقدم في شتّى المجالات والخير العام. إن روح الانتهازية والاستغلال والنفاق وحبّ الذات مستشرية في المجتمعات العربية وعلى المحاور المذكورة وكذلك المسجد والكنيسة والصحيفة والمذياع والتلفزيون والسينما والمسرح والفيديو والإنترنت العمل المستمر من أجل إعلاء قيمة الإنسان العربي وكرامته وعزّته الوطنية. كيف يتسنى غرس الروح الوطنية الحقّة في قلوب فلذات أكبادنا عن طريق نشيد وطني معيّن يُحفظ ليُنسى أو خطاب حكومي يُفرضان عليهم فرضا.
ما زالت مناهج التعليم في العالم العربي عامّة ترتكز في معظمها على التلقين والحفظ غيبا. تلك هي الحالة منذ دور الحضانة وحتى الجامعة بمستويات مختلفة. علينا أن نذكر بأن السمة البارزة في التعليم العصري المتقدم هي التعليم الذاتي في الملاحظة والبحث والتصنيف والتحليل والتركيب. بجانب التخصص المتعمق في مادّة علمية معينة لا مندوحة للإنسان المثقفا المعاصر من أن يكون بانوراميّ المعلومات والمعارف. من الأخطاء الفادحة في التعليم اعتبار العلامة وكأنها المؤشر الحقيقي للكفاءة في حين أنها في الواقع تشير في معظم الأحيان إلى مدى البصم والاستذكار.
هذا الأسلوب في البصم مؤقت وغير راسخ في العقول وينبغي استبداله بأساليب تستند إلى تنمية المهارات في التفكير الحرّ المبدع والحوار والمناقشة الموضوعية الهادئة والعميقة. للبصم أو الحفظ غيبا دائرته الضيقة الخاصّة به مثل جداول الحساب وتلاوة الشعر والصلوات الخ. وهذا أمر ضروري ونافع لا سيما إذا كان مقرونا بالفهم. لا بدّ من تنمية الثقة بالنفس ومن مخزون ثقافي فكري محفوظ في ذاكرة الإنسان الحديث الواعي لاستغلاله عند الضرورة. لا أدعو بهذا أن يكون الإنسان العصري في هذا الشأن مثل الأصمعي الذي يُروى أنه حفظ أربعة عشر ألف أرجوزة. من الدماثة والأخلاق الحسنة أدب الجدل وعدم الإساءة لمن أساء إليك والتحدّث بصوت خفيض. من السوائل التعليمية الهامّة والتي ينبغي تنميتها ما يمكن أن يُدعى بـ”لبتعليم بالخبرة المباشرة”. الطبيعة بحيواناتها ونباتاتها وطيورها وزواحفها مدرسة متكاملة لكل من يتأملها بروحه وعقله.
كفى بالتمط الخطابي الرنّان، إنه كالبرميل الفارغ يُحدث الجلبة والضوضاء عند دحرجته، أما البرميل المملوء فلا يحدث مثل هذه الأصوات المنكرة. إذا ما تأمل المرء سهلا مزروعا بالقمح لوجد أن السنابل المملوءة بحبات القمح مطأطأة الرأس أما تلك الجوفاء فتراها مشرئبة العنق والرأس. أذكر أنني قرأت منذ زمن طويل أن معلما سأل تلاميذه الصغار في مدينة غربية كبيرة عن مصدر الحليب الذي شنربه. أجاب بعضهم “من الأرانب البيضاء” وبعضهم قال “من القطط” والبعض الآخر قال “من بائع البقالة”. لا شك أن أطفال تلك المدينة العصرية وربما كانت مدينة ناطحات السحاب لم تر أعينهم مناطحة البقر والضأن والماعز والجواميس. زبط التلميذ ببلده وأرضه يساعد على تعميق المعرفة وترسيخها في عقله وذهنه وإرهاف حسّه. هناك موضوعان هامان في تنشئة التلميذ وهما لا يلقيان وللأسف الاهتمام اللائق بهما في المدرسة العربية.
إنهما التربية البدنية والموسيقى. الحفاظ على لياقة بدنية معينة غدت من الأهداف الهامّة والملحّة التي يسعى إلى تحقيقها كل إنسان واع في عصرنا الحديث هذا. عنصر الحركة للإنسان العصري أصبح ضروريا جدا جسديا ونفسيا على حد سواء. يُروى أن الخليفة عمر بن الخطاب قال: “علّموا أولادكم السباحة قبل الكتابة فإنهم قد يجدون من يكتب لهم ولكنهم لن يجدوا من يسبح عنهم”. أما بالسنبة للطفل فعلينا أن نشي إلى أهمية اللعب. جاء في وثيقة حقوق الطفل المعلنة عام 1959 في البند السابع ما يأتي: “لكل طفل الحق في الحصول على قدر إجباري من التعليم وقدر وافر من فرص اللعل والترفيه”.
أما الموسيقى فهي إكسيرالوجدان ونضوج الشخصية. التذوق الموسيقي جدّ هام على درب الإبداع والابتكار. يبدو لنا أن المكتبة العربية ما زالت تفتقر لكتب المطالعة الجيدة للشباب وأفلام للأطفال مستوحاة من واقعهم. الغالبية العظمى من سكان العالم العربي، ثلاثمائة مليون نسمة، تعتبر البرامج التلفزيونية وكأنها ترفيهية بالمفهوم السطحي للفظة أي “قتل الوقت”. نعتقد أن مثل تلك البرامج الترفيهية التي تحمل في بعض طياتها مضمونا معينا ما زالت يسيرة وغير عميقة بالقدر الكافي الذي يتمشى ومتطلبات العصر الحديث ومعاييره. يجب تفعيل الإمكانيات التقنية الهائلة المتوفرة اليوم وتسخيرها لخدمة تنشئة الطفل العربي وتربيته تربية حرّة عقلانية خلاقة ومستقلة.
العناية باللغة، بلغتنا القومية واجب مقدّس، إذ بدونها لا وجود للمعرقة والفكر. اللغة ليست مجرّد ألفاظ تقال أو تكتب، إنها ملك من يتعلمها ولا أثر فيها للوراثة أو الجنس. إن التمكن من قواعد اللغة العربية لا يؤدي بالضرورة إلى السيطوة عليها والتمكن منها. قال شيئا مشابها لذلك منذ قرون عالم الاجتماع الفذّ ابن خلدون “إن صناعة العربية إنما هي معرفة قوانين هذه الملكة، ومقاييسها خاصة، فهو علم بكيفية لا نفس كيفية، فليست نفس الملكة، وانما هي بمثابة من يعرف صناعة من الصنائع علما، ولا يحكمها عملا”. في مستوى تحليلي معين ليست اللغة وسيلة تعبير أو تفكير وحسب بل إنها عيّنة من السلوك الإنساني والهوية الشخصية. في ألفاظ اللغة شحنات تاريخية متنوعة من الثقافة والفكر، فالثقافة، في الواقع، محصلة ما تعبر عنه اللغة من مشاعر وميراث شعبي وتواتر العادات والتقاليد وقيم عن الأرض والدين والتاريخ لدى شعب معيّن. بعبارة وجيزة، يمكن القول إن دور اللغة ذو أبعاد عميقة ومستديمة في حياة الفرد والجماعة على حدّ سواء. هناك في عصرنا فئة من من المثقفين تربت وترعرعت على الفكر الأجنبي وتكتب بعربية واهية ركيكة بعيدة عن أصولها ومنابعها.
يقال إن هناك حوالي ثلاثة ملايين من المخطوطات العربية موزعة على مكتبات العالم وهي تعالج مواضيع علمية وفكرية وأدبية مختلفة. نُشر من هذا التراث الضخم نزر يسير لا يتعدى الثلاثة بالمائة. الأدب الرفيع لا يعني مجرّد التألق اللغوي بل إنه في الأساس لسان الحضارة. الفكر يبقى مشلولا إذا كانت الثروة اللغوية لدى شخص ما محدودة.
رغم هذا ما زالت بعض مدارسنا على الأقل تستهل دروس اللغة بفرع النحو، نظام الجملة، بالجملة التي أكل الدهر عليها وشرب “ضرب زيد عمرا” بدلا من إكساب مبادىء لغوية أساسية وبسيطة تتناسب والقدرة الذهنية لدى الأطفال عبر الصورة الجميلة والجملة المعبرة عن الواقع الحي المعاش في بيئة الطفل. كل شيء آخر لا يمتّ لعالم الطفل بصلة وثيقة يكون بمثابة النقش على الماء. غني عن الإيضاح أن السلوك العقلاني المتحضّر يتكوّن من سلسلة طويلة من الحلقات المتداخلة مثل: السكوت في بعض الحالات أعلى صوتا من الكلام؛ الشعور المرهف بالمسؤولية والواجب نحو المجتمع؛ إسداء الشكر بابتسامة على المحيا؛ إكتساب مهارة شاقّة وهامّة اسمها “الإصغاء”؛ احترام الوقت والنظام؛ العمل على تحقيق الأهداف واحدا تلو الآخر؛ تربية النفس والأعماق على المحبة والخير والصراحة والصدق مع النفس أولا.
هذه الأنماط من السلوكيات ومثيلاتها ما هي إلا الثقافة بعينها. الثقافة ليست نتاج مطالعة الكتب فقط بل هضم عصارة ما فيها وإثراء النفس والسير على هديها. قلنا إن البيت أحد المحاور الرئيسية للتربية والتعليم وتحتل الأم مكان الصدارة دون منازع لأسباب موضوعية، وهذه الأم ما زالت في الغالب الأعمّ غير متعلمة وبعيدة عن الثقافة الحديثة والعقلانية. من السمات البارزة في تربية الأطفال العرب كثرة بل طوفان من الأوامر والنواهي. إعمل هذا ولا تعمل ذاك، تعال إلى هنا ورح إلى هناك، قل مرحبا لعمّك ولا تسبّ الجار، أضرب كفا لزيد وعمرو وووو. للمراقب من الخارج يبدو هذا التعامل وكأنه مع دمية أو إنسان آلي وليس مع كائن حيّ ناطق يسعى لبلورة شخصيته في السنين القليلة الأولى من عمره. طريقة الوعظ والإرشاد الشائعة في المجتمعات العربية دون تقديم القدوة الفعلية من البالغين لا طائل تحتها ولا فوقها.
الاستقلالية والمبادرة والإقدام والاعتماد على الذات والثقة بها تكاد تكون شبه منعدمة. لا بدّ من تضافر الجهود في المحاور آنفة الذكر رغم ما فيها من خلل وثغرات، وذلك للسعي في عملية تنمية قدرات فهم الأفكار وتحليلها وتذويتها للالتحاق بركب المبدعبن والنزوح عن التقليد والاقتباس واجترار الماضي وترديد آراء معلبة وعبارات جاهزة فقدت محتواها. هذا خصب وذاك جدب. والد القصبجي مثلا أراد لابنه أن يُصبح عالما مرموقا في الأزهر إلا أنه صار موسيقيا! هذا خصب وذاك جدب. والد القصبجي، مثلا، أراد لابنه أن يصبح عالما مرموقا في الأزهر إلا أنه صار موسيقيا!
د. حسيب شحادة
0 comments:
إرسال تعليق