من اغرب ما يشهده العالم العربي حاليا، او على الاصحّ العوالم العربية، سيطرة العقل الميليشيوي على دول معيّنة مثل العراق ولبنان. هناك بالطبع في سوريا ما هو أسوأ من العقل الميليشيوي بعدما صار البلد محكوما، اقلّه ظاهرا، من طرف لا همّ له سوى تلبية ما يطلبه الاحتلال الإسرائيلي او المشروع التوسّعي الايراني ذي الطابع المذهبي البحت.
يَحول هذا العقل الميليشيوي دون وجود أي مكان للمنطق. ما المنطق وراء عدم قيام حكومة لبنانية تضمّ كفاءات برئاسة سعد الحريري المكلف بتشكيل مثل هذه الحكومة منذ ما يزيد على شهرين؟ ما المنطق الذي يحول دون ظهور النتائج الحقيقية للانتخابات العراقية والانطلاق منها لقيام حكومة جديدة برئاسة حيدر العبادي او غيره من السياسيين العراقيين؟
الجواب عن هذين السؤالين المرتبطين بلبنان والعراق ان لا حياة سياسية طبيعية في أي بلد تكون فيه ميليشيات مذهبية مسلّحة تريد فرض رأيها وخياراتها السياسية بالقوّة على الآخرين... الّا اذا حصلت معجزة في لبنان يستطيع سعد الحريري في ضوئها تشكيل حكومة تساعد في انقاذ ما يمكن إنقاذه من البلد ومؤسساته واقتصاده ونظامه المصرفي.
في الواقع، اجريت انتخابات نيابية في لبنان يوم السادس من ايّار – مايو الماضي. بعد ذلك بستة أيام، كانت الانتخابات العراقية. معروف من فاز ومن خسر في الانتخابات اللبنانية التي اعتمد فيها على قانون عجيب غريب استهدف قبل ايّ شيء آخر توفير فرصة الوصول الى مجلس النوّاب لشخصيات معيّنة تنتمي الى الطائفة المسيحية لا وجود لقاعدة شعبية لها. سبق لاحدى هذه الشخصيات المارونية ان سقطت في كلّ انتخابات خاضتها في الماضي، في ظروف طبيعية، بسبب وجود رفض لها من الناس العاديين. كان مطلوبا ان تدخل هذه الشخصية مجلس النواب على رأس كتلة تضمّ مجموعة لا بأس بها من الانتهازيين والسطحيي التفكير الذين لا يحسنون سوى قول كلمة نعم.
حصل ذلك بالفعل، وصارت هذه الشخصية تستخدم في مهمّة واضحة المعالم تصبّ في إيجاد غطاء مسيحي لما يطالب به "حزب الله". في مقدّم ما يطالب به الحزب ترجمة كلام الجنرال قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" في "الحرس الثوري" الايراني عن ميزان القوى داخل مجلس النواب اللبناني الجديد الى واقع. قال سليماني ان ايران تمتلك أكثرية من 74 نائبا في مجلس النواب اللبناني الذي عدد أعضائه 128. يتمثل ما تسعى اليه ايران حاليا في لبنان في تشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري تكون فيها صاحبة الكلمة الفصل. تريد من رئيس مجلس الوزراء في لبنان ان يكون مجرّد "مدير" لجلسات الحكومة. يعتبر "حزب الله" بكل بساطة انّه استطاع، عن طريق قانون الانتخابات الذي فرضه على اللبنانيين، تقليص حجم كتلة "تيار المستقبل". بات يدّعي، للأسف الشديد، انّ هناك أصواتا سنّية أخرى في البلد في حين يسيطر الحزب تماما على الكتلة الشيعية في مجلس النوّاب. هذه حسابات إيرانية خاطئة لا تدرك انّ سعد الحريري، وهو زعيم وطني لبناني بالفعل، لا يمكن ان يكون مجرّد رئيس صوري لمجلس الوزراء. الدستور واضح كلّ الوضوح في شأن من يشكّل الحكومة في لبنان وكيف تشكّل هذه الحكومة. ولكن هل هناك من يريد استيعاب انّ لغة السلاح الميليشيوي غير الشرعي لا تبني دولا، بل تدمّر ما بقي من مؤسسات الدولة ايّ دولة. فكيف الامر مع بلد مثل لبنان يعاني من كلّ أنواع الانهيارات ويحتاج اوّل ما يحتاج الى الاستفادة من مؤتمر "سيدر" الذي انعقد في باريس في نيسان – ابريل الماضي. لن يستفيد لبنان من نتائج "سيدر" وغير "سيدر" من دون حكومة متوازنة، حكومة وفاقية، ترفض ما تحاول ايران فرضه على لبنان مستخدمة سلاح "حزب الله" والغطاء المسيحي لهذا السلاح الذي يساهم في الحرب التي يتعرّض لها الشعب السوري.
في لبنان، تفسّر ايران نتائج الانتخابات على طريقتها. في العراق، حيث تمتلك اكثر من ميليشيا مذهبية، نجدها ترفض نتائج الانتخابات. الغت عمليا هذه الانتخابات معتمدة على ميليشياتها. بقدرة قادر، لم يعد في العراق من هو قادر على تشكيل حكومة. تبيّن بوضوح ليس بعده وضوح انّ الميليشيات لا تبني دولا ولا مؤسسات ناجحة. هذه الميليشيات، بغض النظر عمّا اذا كانت تابعة لإيران او غير ايران، هي الطريق الأقصر الى القضاء على ما بقي من العراق. لم يعد السؤال هل ستكون هناك حكومة عراقية جديدة؟ صار السؤال ما العمل بالعراق حيث كشفت التظاهرات الشعبية عجزا على كلّ المستويات لنظام فاشل أصلا قائم على المحاصصة الطائفية. نظام فاشل في بلد تتحكم به عمليا الميليشيات المذهبية ولا شيء آخر غير ذلك.
لا تبني الميليشيات المذهبية وغير المذهبية، أي الميليشيات بكلّ أنواعها دولا ولا تطعم الناس خبزا. ما يبني الدول احترام المؤسسات والمواعيد الدستورية. لا يعود هناك معنى للقوانين والممارسة الديموقراطية حيث سلاح آخر غير سلاح الدولة. سلاح يفسّر نتائج الانتخابات كما يريد وسلاح آخر يلغي نتائج الانتخابات عندما لا تعجبه.
لا بدّ من التوقف طويلا عند الذي يجري في لبنان والعراق. يمكن الذهاب حتّى الى الربط بين لبنان والعراق في هذه الظروف الصعبة التي يمرّ فيها البلدان. ما يربط بين العراق ولبنان هو سيطرة الميليشيات المذهبية على الحياة السياسية في البلدين. لا مفرّ من الاعتراف بان لبنان لا يزال يقاوم. لا يزال سعد الحريري، مع كلّ ما يظهره من مرونة رمزا للمقاومة اللبنانية التي ترفض الاستسلام للامر الواقع الذي يسعى قاسم سليماني، بكل ما يمثله، فرضه على لبنان واللبنانيين.
للمرّة الالف، هناك معركة دائرة في غير بلد عربي بين ثقافة الحياة وثقافة الموت. من بين ما يساعد ثقافة الحياة على الانتصار وجود مؤسسات لدولة تعمل بكلّ حرية في ظلّ احترام للدستور والقوانين المعمول بها واحترام لنتائج الانتخابات بعيدا عن محاولة عن التفسير الايراني لها، كما الحال في لبنان.
امّا ثقافة الموت، فهي تتمثل في ما تعمل الميليشيات المذهبية من اجل فرضه على اللبنانيين والعراقيين. تعمل هذه الميليشيات التي ليس لديها ما تقدّمه غير نشر البؤس، حيثما حلّت، سوى على القضاء على امل في ايّ مستقبل افضل للمواطن العادي. تعمل هذه الميليشيات على ان يكون لبنان والعراق ارضا طاردة لاهل البلدين... لمصلحة مشروع لا وجود لاي افق حضاري له باستثناء تفتيت المنطقة العربية اربا.
0 comments:
إرسال تعليق