الجمعة، يوليو 13، 2018

كَشَّاشْ الحَمام الدولي

في بلاد الشام يسمّونه "حْميماتي" وفي بلاد الرافدين يسمّونه "مْطايَرجي"، أما في بلادنا فيدعى "الكَشَّاشْ". كشّاش الحمام لا تقبل شهادته في المحاكم تبعاً للعرف والقانون. فهو يطلق حمامة المدرّب ليحلق عالياً مع حمام الآخرين من أجل سحبه واستدراجه ليهبطوا معاً بين يدي الكَشَّاشْ وبحكم العُرف والعادة وقوانين لعبة الكَش، يصبح الحمام ملكاً خالصاً له ولا يجوز لأصحابه المطالبة به. إنها سرقة في وضح النهار، وهو ما يجعل لعبة الكش هذه تشكل الاسم الحركي للسرقة الفاضحة (لكن من يقبل) بلعبة الكَش والحَمْحَمة سيتحمل النتائج.

إنها مقاربة واضحة مع السلوك الدولي تجاه الحركات الشبابية والثورات الشعبية العربية فهذه الثورات والحركات التي تحلق في غير بلد عربي، هي في دائرة الاستهداف كالحمام المكشوش، وهناك كَشَّاشْ دولي سيسعى لكَشِّها واستدراجها بسحبها نحو أبراجه وحظائره الجاهزة أبداً لهذا الغرض، وهذا أمر ليس بجديد، لكن العلم بهذه الحقيقة وإدراكها، يمكننا حتماً من تحسُّس موطئ أقدامنا وتدقيق حساباتنا. فسيعملون بكل ما أوتوا من قوة وعزم، لتجيير وتوجيه هذه الثورات في خدمة مصالحهم، ويبقوا للشعوب خراج الثورة من الحقوق والقضايا المطلبية المعيشية، وتحسينات وإصلاحات سياسية هي في خدمة الطرفين المستفيدين، لأن الطرف الثاني هو قطب المجتمع الدولي الأوحد الذي يرعى ويُراقب ويوجه أقصى المستطاع هذه الثورات بما يخدم مصالحه، وخلاف ذلك، لن يُسمح لثورة ان تنجح دون دفع الأتاوة. أليس مفارقة وأمراً لافتاً أن تكون واشنطن حليفاً للثوار والثورات في وجه النظم الحاكمة؟! وهو ما يستحق التأمل والأخذ بالحسبان عند حصر حسابات الحقل وحسابات البيدرْ، عند وقبل نهاية مطافات هذه الثورات. وإذا كانت الاستجارة العربية بالنخوة الأميركية التي لبّت النداء مبرّرها حماية المدنيين من الطغاة الحاكمين، أليس من باب أَوْلى التفكير بهذه الاستجارة وهذه النخوة الفجائية الأميركية، لحماية الشعب الفلسطيني الذي تطحنه آلة الاحتلال، ويلتهمه غول الاستيطان في وضح النهار وعلى رؤوس الأشهاد منذ أكثر من نصف قرن؟!

يجب أن ندرك جيداً، أن هذه الثورات، هي انتفاضات شعوب، تتوق للحرية والديمقراطية والرفاه الاجتماعي، بل هي تفجير لكبت وحرمان وظلم من الحكام دام سنين طويلة. فشعوبنا نبيلة المقصد في ثوراتها ووطنية الحسّ والروح والنوايا. لكن علينا جميعاً أن ندرك بالمقابل، أننا نقع في دائرة المصالح الدولية، ولا يمكن لنا الخروج عن هذه الدائرة الحرجة، الأمر الذي سيحتّم على هذه الثورات ومُخرجاتها، أن لا تخرج عن نطاق تلك الدائرة ومصالح من يدعمونها ويجيّرونها، باعتبار أننا جزء مكون لفسيفساء منظومة المصالح الدولية هذه. وبالتالي يبقى من حق شعوبنا ان تفرح وتنعم بانتصاراتها وتعتز بتضحيات أبنائها الذين استشهدوا وما زالوا على مذبح الحرية، ولكن دون إغفال هذه الحقائق، لأنها مهمة وأساسية في السير اللاحق نحو تحسين موقعنا في المعادلة الدولية والحفاظ على باقي الحقوق للتحصُّل على المتاح منها، من خلال رؤية وسياسة تراكمية واقعية صبورة.

نعم، سيتمتع الشعب الليبي مثلاً وهو حق له، بالانتصار وبالحرية والإصلاح السياسي والاجتماعي، يوما ما الذي بات استحقاقاً حتى في الحسابات الدولية وحسابات مراكز النفوذ وأصحاب المصالح الخارجية، وهذا كلَّه بمثابة قطعة الحلوى التي سيتحصل عليها من خراج ثورته، مقابل الدُمْيَة التي سيقتنصها كشَّاش الحمام الدولي من على سطح البيت الأبيض، والذي تجشَّم عناء حرب الدفاع عن المدنيين وتخليصهم، وتخليص مصالحه من براثن النظم الحاكمة، أو إعادة انتشارها على نحو أجزى وأضمن إن جاز لي التعبير. آخذين بالاعتبار أن كلفة هذه الحرب وفاتورتها مدفوعة في الجيب العربي والدم العربي مع "البقشيش وحبة مِسِكْ"، يعني عملية نظيفة بامتياز وناجحة تماماً ومجزية. وبالتالي أعاود القول، إن إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط و"سايكس ـ بيكو"، إنما هي في جوهرها إعادة رسم وانتشار وتحصين المصالح أولاً وعاشراً، وآخراً بكسر الخاء وفتحها.

هذه الثورات والمتغيرات، ستجري شئنا أم أبينا لمُستَقَرّ لها، ولا يضير العرب ان تكون مصالحهم جزءاً من مصالح أميركا وغير أميركا، لكن الأهم هو تمكين أنفسنا من تجيير هذه المناخات المتأتية عن هذه المتغيرات، لتحسين موقعنا وشراكتنا وحل مشاكلنا في المعادلة الدولية، باتجاه التناسب قدر الإمكان مع حجم الخدمات والمصالح التي يحققونها من بلداننا.

كيف لا، والإدارات الاميركية المتعاقبة ظلت تعلن دوماً وبالفم الملآن أن ما يربطها بالآخر هو توازن المصالح معه وليس توازن القيم والمبادئ وهو "بادي وبدا" من قبل في غير منطقة من العالم. فما أشبه اليوم وغداً بالبارحة، ونحن نرى بأم أعيننا المفارقات العجيبة في أمر سياساتهم تجاه الشعوب. ففي الوقت الذي تجيّش الجيوش والأساطيل الأميركية والغربية لحماية الشعب الليبي المستجير من الرمضاء بالنار، تُطيِّر واشنطن موقفها المطمئن لسورية بأنها لن تتصرف مع دمشق على النحو الذي جرى مع نظام القذافي!! ذلك لأن طبيعة المصالح وتوازناتها الخالية من النفط بين واشنطن وسورية مختلفة تماماً. وبالتالي لا غرابة في قيام واشنطن محرمة الأمان للقذافي و بإلقاء طوق  النجاة   لسورية خدمة لاسرائيل مع التأكيد بأن الشعوب هي من أشعلت هذه الثورات وبريئة من أي اتهام بسوء، لكن ما تفعله أميركا هو محاولة اصطياد هذه الثورات وركوب موجتها على نحو يُمكّنها من توظيفها في خدمة مصالحها التي تحاول خلطها واختلاط أمرها مع وعلى مصالح الشعوب الساعية نحو الحرية والانعتاق. و"صحتين عالشاطر والناطِرْ بيظلُّو ناطرْ".

لقد أقلعت الثورات الشعبية بتشجيع ودفع دوليين غير مسبوقين، وها هي تُحلّق عالياً في شوط الذهاب صعوداً، لكن الأخطر والأهم هو شوط الإياب والهبوط الآمن في المكان الصحيح والأقل كلفه وتبعات وأعراض جانبية.

بعض المؤشرات أنبأت مؤخراً في مصر، أن جماعة "الإخوان المسلمين" هناك هم اليوم الأكثر تنظيماً وجاهزية، والأوفر حظاً في الانتخابات المقبلة، يليهم في المرتبة الثانية أنصار الرئيس المخلوع واميركا، ولا أوزان يعتد بها للأحزاب الأخرى بما في ذلك "شباب الثورة".ولكن السيسي اصبح في الحكم

نعم يا سادتي، إنهم يسلبوننا دميتنا الثمينة ويعطوننا الحلوى بدلاً منها. فهي مرحلة الكَشْ والهَشْ، يكشُّون حمامنا ويستدرجونه ليوجّهوه صوب أبراجهم، بعد أن عزّ نظير النفط وعجز العقل والعلم عن إيجاد بدائله، إنه النفط، القوة العظمى دون منازع ولا شيء غيره. لكنني سأخْلُدُ إلى القول في هذا المقام:

"زمن الشعوب بوجه حكامٍ على حُكْمٍ مُضاعْ. بلاد العرب أثكلها وأثقلها الفساد والدخيل والقرصان والرُّعاع. تجبَّرَ الظلم طاغياً فأوسعها قتلاً وفقراً زاد أعداد الجياعْ. ذئبٌ عوى بساح ِ سبع ٍ شائخ ٍ، هَوْمٌ على وجه الأيائل والضّباعْ. قد قال حين أخفق قصِّي عانَتكْ، مجد الرجولة الذي كان، منهُ ضاعْ. بالباع وبالذراع شبابٌ أطلقت لها السيفَ و"الفَيْس" وأحلام اليَراعْ. حق الشعوب بين القاتل والقتيل، لا يُشترى ولا يُباعْ. ما أضْيعَ الحق الذي تَسمَّر حائراً ما بين حُزنين: اليَمامَةَ* وضِباعْ**. فسيُطلقُ الصُوّان في ذرى الأوطان يوماً، ورداً وحباً عارماً وينتهي الصِّراعْ".



* اليمامة: ابنة كُليبْ.
** ضِباعْ: أخت كليب وزوجة أخ جسَّاس قاتل كُليب
 
بقلم: آصف قزموز
 
 

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية