ثم أنشأ الإسبان بعد ذلك ما سُمِّي في التاريخ بمحاكم التفتيش؛ وذلك للبحث عن المسلمين الذين ادَّعوا النصرانية وأخفوا الإسلام.
إبادة المسلمين في الأندلس
كان الصليبيون الحاقدون إذا وجدوا رجلاً يدَّعي النصرانية ويُخفي إسلامه، كأن يجدوا في بيته مصحفًا، أو يجدوه يُصَلِّي، أو كان لا يشرب خمرًا، أقاموا عليه الحدود المغلظة، فكانوا يلقون بهم في السجون، ويعذبونهم عذابًا لا يخطر على بال بشر، فكانوا يملأون بطونهم بالماء حتى الاختناق، وكانوا يضعون في أجسادهم أسياخًا محمية، وكانوا يسحقون عظامهم بآلات ضاغطة، وكانوا يمزقون الأرجل، ويفسخون الفك، وكان لهم توابيت مغلقة بها مسامير حديدية ضخمة تنغرس في جسم المعذب تدريجيًا، وأيضًا أحواض يُقَيَّد فيها الرجل، ثم يسقط عليه الماء قطرة قطرة حتى يملأ الحوض ويموت، وكانوا -أيضًا- يقومون بدفنهم أحياء، ويجلدونهم بسياط من حديد شائك، وكانوا يقطعون اللسان بآلات خاصة.
كل هذه الآلات الفتاكة وغيرها شاهدها جنود نابليون حين فتحوا إسبانيا بعد ذلك، وقد صوَّروها في كتاباتهم، وعبَّروا عن شناعتها بأنهم كانوا يُصابون بالغثيان والقيء، بل والإغماء من مجرد تخيل أن هذه الآلات كان يُعذَّب بها بشر، وقد كان يُعذَّب بها مسلمون، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله! [3].
ومما يُذكر.. أن هناك عذابًا اختص به النساء العنيدات اللائي كن يشتمن رجال المحكمة؛ وهو تعرية المرأة إلا ما يستر عورتها، وكانوا يضعون المرأة في مقبرة مهجورة ويُجلسونها على قبر من القبور، يضعون رأسها بين ركبتيها ويشدون وثاقها، وهي على هذه الحالة السيئة، ولا يمكنها الحراك، وكانوا يربطونها إلى القبر بسلاسل حديدية، ويرخون شعرها فيجللها، وتظهر لمن يراها عن كثب كأنما هي جنِّـيَّة، لا سيما إذا ما أرخى الليل سدوله، وتُترك المسكينة على هذه الحال إلى أن تجنَّ، أو تموت جوعًا ورعبًا[4].
لقد قام النصارى بإجبار المسلمين على الدخول في دينهم، وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبقَ فيها من يقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. إلا مَنْ يقولها في قلبه وفي خفية من الناس، وجعلت النواقيس في صوامعها بعد الأذان، وفي مساجدها الصور والصلبان بعد ذكر الله وتلاوة القرآن، فكم فيها من عين باكية وقلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمعذورين! لم يقدروا على الهجرة واللحاق بإخوانهم المسلمين، قلوبهم تشتعل نارًا، ودموعهم تسيل سيلاً غزيرًا، وينظرون إلى أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان، ويسجدون للأوثان، ويأكلون الخنزير والميتات، ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات، فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم، ومَنْ فعل ذلك عوقب بأشدِّ العقاب، فيا لها من فجيعة ما أمرَّها! ومصيبة ما أعظمها! وطامة ما أكبرها![5].
لقد كانت محاكم التفتيش والتحقيق مضرب المثل في الظلم والقهر والتعذيب، كانت تلك المحاكم والدواوين تلاحق المسلمين؛ حتى تظفر بهم بأساليب بشعة تقشعر لها القلوب والأبدان، فإذا عُلم أن رجلاً اغتسل يوم الجمعة يصدر في حقه حكم بالموت، وإذا وجدوا رجلاً لابسًا للزينة يوم العيد عرفوا أنه مسلم فيصدر في حقه الإعدام، لقد تابع النصارى الصليبيون المسلمين؛ حتى إنهم كانوا يكشفون عورة من يشكون أنه مسلم فإذا وجدوه مختونًا، أو كان أحد عائلته كذلك؛ فيعلم أنه الموت ونهايته هو وأسرته[6].
وكان دستور ديوان التحقيق (الاسم الرسمي لمحاكم التفتيش) يجيز محاكمة الموتى والغائبين، وتصدر الأحكام في حقهم، وتوقع العقوبات عليهم كالأحياء، فتصادر أموالهم، وتعمل لهم تماثيل تنفذ فيها عقوبة الحرق، أو نبش قبورهم وتستخرج رفاتهم؛ لتحرق في موكب «الأوتودافي»، وكذلك يتعدى أثر الأحكام الصادرة بالإدانة من المحكوم عليه إلى أسرته وولده، فيقضى بحرمانهم من تولي الوظائف العامة وامتهان بعض المهن الخاصة[7].
وبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس، أرسل نابليون حملته إلى إسبانيا وأصدر مرسومًا سنة (1808م) بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الإسبانية.
[2] شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة، ص98، ومحمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/316.
[3] شوقي أبو خليل: مصرع غرناطة، ص109-113.
[4] علي مظهر: محاكم التفتيش، ص98.
[5] مجهول: نبذة العصر، ص130، 131.
[6] الصلابي: دولة الموحدين، ص211.
[7] انظر: محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 7/338.
0 comments:
إرسال تعليق