الجمعة، أغسطس 31، 2018
الرواية المحرمة.. بتفسيرات وتاويلات القوى الدينية
الجمعة, أغسطس 31, 2018
اضف تعليق
انطلاقا من فهم السياسة الدينية للسلطة السياسية الحاكمة طيلة مراحل
نظام يوليو 1952 يمكن فهم طبيعة الصراع الذى تم حول الرواية، وهو ما استطاع
الكاتب محمد شعير أن يلتقطه بذكاء، ويكشف عن ماهية الأطراف المتنازعة
وخلفية انحيازاتها الأيديولوجية ومحمولاتها الفكرية إزاء النص الروائى، وما
ينطوى عليه خطابها الدينى من محمولات سياسية تجاه النظام فى ظل توتراته
وصراعاته مع الاخوان المسلمين ونظرائهم وأشباههم حول المسألة الدينية فى
السياسة والفكر المجتمعى.
من هنا اعتبرها بعض المشايخ المعروفين من ذوى الانتماءات الاخوانية أو
المحافظة معركة مصيرية وسياسية بامتياز، وإنهم يدافعون عن مكانتهم المؤسسة
على محاولة احتكار التفسير والتأويل الدينى فى شئون الحياة و المجتمع
والفرد والسياسة.
ربط الكاتب بين الخطاب الدينى والمحافظ إزاء الرواية، وبين تقرير لجنة
المائة حول الميثاق الوطنى التى شكلها كمال الدين حسين، والتى صاغت تقريرا
شهيرا حاولت فيه ضبط التوجهات السياسية والاجتماعية التى انتهى إليها
الميثاق الوطنى.
صراع استخدم الأقنعة والتأويلات الدينية لإخفاء الصراع السياسى
والاجتماعى الذى احتدم بين بعض أجنحة السلطة السياسية على محورى اليمين
واليسار، وانتقل إلى الإعلام كجزء من محاولة ضبط السياسة الاجتماعية
الناصرية حول العدالة الاجتماعية والاشتراكية العربية، وذلك من خلال
استخدام الإسلام والدين عموما فى الصراع السياسى، وهو ما سوف نجده فى
المراحل السياسية المختلفة فى عهود السادات ومبارك وما بعد حول الأفكار،
والروايات، والأشعار والمسرحيات والأعمال الفنية، صراع فكرى حول الدين وبه
وعليه فى الصراعات الاجتماعية والسياسية والفكرية.
إن نظرة على الخطابات الدينية والأدبية حول رواية أولاد حارتنا، تشير
إلى اللغة الإيديولوجية وتعميماتها، وانطوائها على النزعة الاتهامية الحادة
التى تميل إلى حسم معركة تبدو سياسية بامتياز، وهو اتجاه برز أيضا مع
محاولة بعض النقاد والشعراء المحافظين تأثيم قصيدة النثر، بل التمسك بأقنعة
اللغة الأيديولوجية الجامحة على نحو ما فعل بعض دعاة ومنظرى الشعر الحديث،
حينما وصمت الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة شعراء قصيدة النثر بأنهم تعبير
عن شعور أولئك المطلقين بالنقص أمام الشعر الحقيقى، كما أن هذا الإطلاق
تحقير للشعر واللغة العربية والجماهير العربية والأمة العربية لاحظنا هذا
الموقف الاتهامى واللغة الشعاراتية المحتقنة والمتوترة بعنفها اللفظى، من
بعض الشعراء والكتاب والقراء إزاء «أولاد حارتنا» وسعوا إلى تحويل السرد فى
الرواية إلى مدار الحقيقة الدينية كما وردت فى النص المقدس المؤسس، بينما
التخييل السردى يختلف نوعيا عن الحقائق الدينية، وعن الواقع الوضعى أو
التاريخى.
هذا النمط من المقاربة سياسى ودينى بامتياز ويجافى المقاربة والتحليل
النقدى للعمل الروائى، لاسيما فى الأعمال الأدبية التخيلية بامتياز، لأن
الأدب العظيم هو ببساطة، لغة مُحملّة بالمعنى إلى أقصى درجة ممكنة، وفق
عازرا باوند، وعندما تناول الرواية الناقد البارز صلاح فضل ذهب إلى القول
«أثبتت بالدليل النصى» أنها تصور أدبى خيالى لتاريخ الخليقة وقصة الأديان،
يقف بالتوازى مع التصُّورات الأسطورية المتوارثة، والدينية المقدسة،
والعلمية المُحدثة، دون امتزاج مع أى منها.
فكما أن العلم لا يعتدى على الدين عندما يبحث بأدواته عن مجرّات الكون
وتاريخ الانفجار الأعظم ويحددّ أعمار الصخور بملايين السنين، فإن الأدب
يقدم تصورا مستقلاً عن سعى الإنسان فى الأرض منشدا منها العدالة والحق
ومقاومة الظلم، وبرهنت أن شخصية الجبلاوى التى تتضمن بعض الأوصاف المشابهة
لمفهوم الأولوهية تحمل من الصفات البعيدة عنها أضعاف ذلك، وأن مشاهد الخلق
المطابقة للنص الدينى لا تتجاوز 26%، مقابل المخالفة الصريحة التى تبلغ
74%، وانتهيت إلى أن الرواية وهى تعرض علاقة الدين بالعلم ركزت على
التطُّور الاخلاقى للبشر، وقدمت رؤية فنية بالغة النضج وعالية القيمة لا
تصدر إلا من أديب مشبع بثقافة بيئته التى تُعٌّد مهد الأديان السماوية،
يكنُّ لها كامل الاحترام، لكنه لا يفنى فيها، ولا يتنازل عن حقه فى تجاوزها
وتقديم تفسير إبداعى لتاريخها، (وعين الناقد ص27).
هذا الرأى هو نتاج لمنهج التحليل النصى، وثمة مقاربات نقدية بنيوية وما
بعدها تناولت هذا العمل الروائى، لدى نقاد بارزين آخرين كجابر عصفور
وآخرين، ركزت على السرد والتخييل والبناء، وليس المقارنات مع القصص الدينى
كما ورد فى النص المقدس أو تأويلاته لدى المفسرين والفقهاء، لأن المجالين
الدينى والأدبى يختلفان فى طبيعة كل منهما وأدوات مقاربتهما منهجيًا
واصطلاحيًا.
هذا التباين بين النقد الأيديولوجي والدينى السياسى والنقد الأدبى هو
تعبير عن التطور فى المدارس النقدية منذ الثمانينيات والتسعينيات وما بعد.
يشير الكتاب إلى القدرة الفائقة والموجزة والمكثفة فى سرد الكاتب الأجواء
السياسية والفنية والاجتماعية التى استطاع من خلالها تحيين الأزمة
وامتداداتها، وتفاعل أطرافها التأويلى مع الرواية وعوالمها.
استخدم الكاتب المنهج التاريخى من خلال التحقيق الصحفى «الاستقصائى»
بأدوات متعددة، وغاص فيما وراء الوثائق والشهادات، والمصادر الأصلية
والثانوية، وتدقيق المصادر والوقائع التى تشكل السردية الموازية للنص
الروائى، وتقصى الخطابات الدينية والأدبية والسياسية المختلفة وأطرافها
ومتابعة الآراء النقدية حول الرواية وصراع التأويلات الأيديولوجية والدينية
حول شخوصها، وذلك من خلال مقاربة تحقيقية اتسمت بالدأب، والدقة والتوثيق
الدقيق.
يحتاج الكاتب فى الجزء الثانى من الكتاب أو فى الطبعة الثانية إلى
الرجوع إلى عديد من الكتابات النقدية، والأسلوبية المتميزة التى تناولت
رواية «أولاد حارتنا» من خلال الأدوات والمصطلحات النقدية الحداثية وما
بعدها، والتى كشفت عن التغاير بين الحقيقة السردية وبين الحقيقة الدينية فى
النص المقدس وتأويلاته.
ومن الشيق ملاحظة السلاسة الأسلوبية واللغة الاصطلاحية الواضحة،
والتشويق المتميز فى عرض الجوانب والأطراف المختلفة للأزمة. عمل جاد ومتميز
لكاتب قدير وكتاب مهم، من أبرز الكتب التى صدرت مؤخراً.
نبيل عبدالفتاح
0 comments:
إرسال تعليق