السبت، يناير 19، 2019

عين الرمانة قبل 43 سنة: اللغز الكبير لا يزال لغزاً

الأحد 13 نيسان 1975 كانت محلة عين الرمانة في ضاحية بيروت الشرقية هي الحدث. ومن يومها ارتبط اسم عين الرمانة وبوسطتها بالحرب اللبنانية.
ما حدث ذلك اليوم في عين الرمانة، لم يكن مفاجأة، رغم فظاعته. كل الذين كانوا يتابعون عمليات التعبئة الطائفية، وشحن النفوس بالحقد والإثارة خلال الأسابيع السابقة، كانوا يتوقعون انفجاراً بصرف النظر عن حجمه وشكله وأسبابه. وعندما يكون المكان مليئاً بالزيت، يكفي أن تنطلق شرارة ولو من عقب سيجارة لتشتعل النار وتمتد إلى كل الأرجاء.
هذه استعادة لأحداث ذلك الأحد:
  1. كان مقرراً أن يبدأ عند الساعة 11 قبل الظهر الاحتفال بتدشين كنيسة سيدة الخلاص للروم الكاثوليك في شارع مارون مارون المتفرع من شارع بيار الجميل، بمشاركة رئيس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل.
  2. في الوقت نفسه كان الفلسطينيون يحتفلون بمهرجان تأبيني أقيم في مخيم صبرا لـ"شهداء الثورة الفلسطينية"، اشتركت فيه كل الفصائل.
  3. الساعة 10 تقريباً، وصلت إلى مكان احتفال أهالي عين الرمانة سيارة فولكسفاغن يقودها لبناني إسمه منتصر احمد ناصر. كانت لوحتها مكشوفة ومعروفة بأنها تابعة لـ"الكفاح المسلّح الفلسطيني".
  4. حاول رجال السير منع ناصر من المرور، لكنه تجاوزهم، وأكمل طريقه بسرعة، فأطلقت عليه النار. توقف ونزل من سيارته بسرعة، وإذ به يسقط على الأرض ويجرح في كفه. على الفور نقله رجال الدرك إلى "مستشفى القدس" الذي تشرف عليه "المقاومة الفلسطينية. وتبين لاحقاً أنه اختفى من المستشفى بعد ساعات
  5. الساعة 10.40 دقيقة تقريباً، أي قبل ثلث ساعة من بدء الاحتفال، وصلت الى الشارع سيارة فيات حمراء غطيت لوحتها بأوراق تحمل شعارات فلسطينية، وكان في داخلها أربعة مسلحين. تجاوزت السيارة حاجز الدرك الذي أقيم إثر عملية إطلاق النار السابقة، وأخذ المسلّحون في السيارة يطلقون النار على الناس المتجمعين عند مدخل الكنيسة. وسقط قتيلاً المسؤول الكتائبي جوزف كميل أبو عاصي، و3 شبان كانوا يقفون في الشارع هم: أنطوان ميشال الحسيني وديب يوسف عساف وإبراهيم حنا أبو خاطر. وأصيب 7  أيضاً بجروح. بعد الظهر كان موعد تقبل بشير جوزف أبو عاصي سرّ العماد.
  6. ردّ شباب عين الرمانة بالرصاص على السيارة عندما حاولت الهرب، فقتل فدائي وأصيب اثنان نقلتهما قوى الدرك إلى "مستشفى القدس"، بينما نقل ضحايا عين الرمانة والجرحى إلى "مستشفى الحياة."
  7. فور وقوع الحادث شاع خبر أن مسلّحين فلسطينيين استهدفوا الشيخ بيار الجميل في محاولة لإغتياله. أسرع كل شاب الى سلاحه، وانتشر المسلحون في الشوارع وعلى أسطح المباني.
  8. في هذا الجو المشحون والمتوتر جداً، وقرابة الساعة 11.30 ظهراً، وفيما أهالي عين الرمانة ما زالوا تحت هول صدمة سقوط 4 قتلى من شبانهم و7 جرحى في المستشفيات، ويحاولون لملمة آثار ما حدث، والرجال المسلّحون يقفون على أعصابهم المشدودة، إقتحمت فجأة الشارع حيث قتل الشبان حافلة مزدحمة بالمسلّحين الفلسطينيين كانوا متوجهين إلى مخيم تل الزعتر، وبنادقهم وثيابهم المرقطة وأعلامهم ظاهرة من نوافذ الحافلة، وهم ينشدون أناشيد حماسية. اعتقد كل من كانوا في المكان أن عين الرمانة تتعرض لهجوم مفاجئ.
  9. لحظات وانهال الرصاص على الحافلة، فقُتل 27 من ركابها ونجا السائق و2 من رجال "المقاومة" بمعجزة بعدما غطتهم الجثث.
  10. من أطلق الرصاص على الحافلة؟
يقول الأستاذ جوزف أبو خليل: لم يكن بين مطلقي النار في عين الرمانة أي كتائبي ملتزم، بل كانوا مجموعة من الأهالي الذين ما أن رأوا الموكب الفلسطيني المسلح حتى هبّ كلٌّ إلى سلاحه، وقد ظنوا أنهم يتعرضون لهجومٍ، وأخذوا يطلقون النار في شكل لا يعبر عن شجاعة بقدر ما يعبر عن ذعر. لقد كانوا كلهم تقريباً لا يتبرأون من الكتائب ولا الكتائب تستطيع التبرؤ منهم. وعلى هذا النحو أصبح حزب الكتائب مسؤولاً عن حادث لم يشارك فيه ولا كانت له يد في أي واقعة من وقائعه.
على أثر حادث الأوتوبيس أقيمت حواجز في عين الرمانة وفرن الشباك، وأشعلت دواليب كاوتشوك لقطع الطرق، وانتشر المسلحون في الشوارع. خلال ساعات معدودة، امتلأت المناطق ذات الغالبية المسيحية من أقصى لبنان إلى أدناه بشائعات ترمي الصوت: بيار الجميل تعرض لمحاولة اغتيال على أيدي الفلسطينيين، وقُتل اثنان من مرافقيه . في المناطق الإسلامية والمخيمات كانت شائعات مناقضة تنتشر، فحواها تقول أن الكتائب هاجمت مخيم تل الزعتر. وفقد الناس عقولهم. عندما تبدأ أصوات الرصاص والديناميت والقنابل والصواريخ تملأ الأسماع في كل مكان، وتستفز الناس لحمل السلاح، لا يستطيع أحد أن يسمع صوت العقل.
لماذا حصل ما حصل في عين الرمانة ذلك اليوم؟
في تحليل هادئ للأحداث التي جرت في عين الرمانة ذاك الأحد، تبين أن السلطات الأمنية اللبنانية، تحسباً منها لما قد يحدث في ذلك النهار (الاحتفال الفلسطيني واحتفال عين الرمانة )، كانت اتفقت في 2 نيسان مع ممثلي المنظمات الفلسطينية (تمثلت "فتح" بأبو حسن سلامة )، على ألا يمر أي موكب فلسطيني بعين الرمانة في ذلك النهار، إضافة إلى أن الذاهب من مخيم صبرا حيث كان الاحتفال الفلسطيني إلى مخيم تل الزعتر حيث كانت متوجهة الحافلة، لم يكن بالضرورة ليمر في عين الرمانة.
من هذه النقطة يصبح السؤال ملحاً: لماذا سلك سائق الحافلة وهو لبناني يعرف طرق المنطقة جيداً الطريق التي تمر بعين الرمانة؟ والأهم لماذا لم تخطره القيادة الفلسطينية بتجنب المرور في عين الرمانة وفقاً للاتفاق قبل أيام؟
– خلال التحقيق معه  لدى السلطات اللبنانية أوضح سائق الحافلة أنه سلك تلك الطريق تحديداً بتوجيه من أحد رجال الشرطة البلدية حين وصل إلى مفترق شارع غنوم – مارون مارون وشارع سعيد الأسعد.
– يبدو أن المنظمات الفلسطينية حققت مع سائق الحافلة فأخبرهم عن طريقة وصوله الى الشارع، لكن التحقيق الفلسطيني لم يكن باحتراف التحقيق اللبناني، فاعتقد الفلسطينيون أن ذاك الشرطي تابع لمفرزة سير بعبدا، بينما تأكد للسلطات اللبنانية أنه كان يلبس لباس الشرطة البلدية.
– ليلاً خرج مسلحون فلسطينيون من مخيم المية ومية واقتحموا منزل أهل النقيب كليم واكيم آمر مفرزة سير بعبدا في المية ومية وقتلوا والده وشقيقه وأصابوا شقيقه الآخر بجروح خطرة، وفي اقتناعهم أن ذاك الشرطي وقف هناك بتكليف من النقيب واكيم، فكان والد النقيب واكيم وشقيقه من أوائل الشهداء الأبرياء في حرب لبنان.
– من هو ذاك الشرطي البلدي؟ رغم كل التحقيقات والعمل الاستخباراتي لم تعرف هويّته ولا أحد عرف كيف وُجد في تلك النقطة وكيف اختفى منها. وكما لو كان شبحاً، بقي سرّه لغزاً من ألغاز حرب لبنان من دون تفسير.
– في تحقيقات السلطات اللبنانية تبين أن منتصر أحمد ناصر راكب سيارة الفولكسفاغن، الذي افتعل المشكل الأول هو من الجنوب ومن مقاتلي "جبهة التحرير العربية" المدعومة من العراق، كذلك هم معظم ركاب الأوتوبيس. وأما سيارة الفيات، التي كانت تقل المسلحين الأربعة، والتي أطلقت النار على جوزف أبو عاصي ومن معه، فبقيت مجهولة الهوية، لأن الجريح الذي نقل منها إلى مستشفى القدس، اختفت آثاره، ولم يعرف من هو، وبالتالي إلى أي فصيل فلسطيني ينتمي، بل إذا كان ينتمي أصلاً إلى المقاومة الفلسطينية. اصطدم التحقيق بجدار تهريب الدليل، الذي ربما كان مفتاحاً لمعرفة منشأ الحادثة.
في النتيجة:
شكلت حادثة بوسطة عين الرمانة الشرارة المطلوبة لاندلاع الحرب في لبنان، بعدما فشلت المحاولة الأولى قبل أسابيع في صيدا.
وبدأت التفجيرات تشعل نار الفتنة بين اللبنانيين والفلسطينيين، وبين اللبنانيين وأخوتهم اللبنانيين أيضاً. وبدأ لبنان يحترق من جنوبه إلى عاصمته، ومن شماله إلى جبله فبقاعه، والضحايا تتساقط بعشرات الآلاف، في حوادث لم يشهدها تاريخه الحديث في التفنن في الإجرام، كالخطف على الهوية والقتل بعد تعذيب الضحية، فضلاً عن السلب والنهب والتدمير والتشريد، فيما خيراته ترحّل إلى البلاد المجاورة، وخيرة شبابه تحزم حقائبها وتتيه في جهات الأرض الأربع تبحث عن وطنٍ يؤويها.
كانت الحصيلة مفجعة: مئات آلافٍ ضحايا، مئات آلاف أخرى هاجروا من دون عودة. آلاف المفقودين، ومثلهم من الشهداء الأحياء الذين لم يعد لهم غدٍ يحلمون به. إقتصاد منهار وخسائر بمليارات الدولارات. قرى وبلدات مدمرة . عائلات مفككة، شباب تائه في وطنه يبحث عن منزل وفرص عمل.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية