الأحد، فبراير 10، 2019

ابطال بلون تراب الأرض .. امين سعد .. الاخضر العربي .. 1938-1969″

اسمه (أمين موسى سعد)، فلسطيني لبناني، والده من (بنت جبيل) في جنوب لبنان، استقر في حيفا في الثلاثينيات، وفيها ولد (أمين) عام 1938,وأن يكون المرء فلسطينيا ولبنانيا في الوقت نفسه من الامور العادية ,وعلى سبيل المثال فان الدكتور انيس صايغ فلسطيني وسوري ولبناني في نفس الوقت؛والقصة يرويها الدكتور صايغ في كتابه الاخير (انيس صايغ يكتب عن انيس صايغ)
أما الاسم الذي استشهد أمين سعد وهو يحمله فهو (الأخضر العربي). وقد اختار هذا الاسم لسببين اثنين:
أولا: عندما توفيت والدته عام 1955 بنوبة قلبية بين يديه في (برج حمود) في بيروت بعد وصوله إلى المنزل في إجازة من المدرسة الجعفرية في صور، كانت ترتدي ثوبا كان اللون الغالب فيه هو الأخضر، وصورة هذا الثوب ظلت مطبوعة في ذاكرة أمين.
ثانيا: في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي اندلعت الثورة الجزائرية التي استطاعت أن تنتزع الاستقلال في مطلع الستينيات، وقد ترددت في سماء العرب أسماء رموز هذه الثورة من أمثال: بن بولعيد، وعميروش، وديدوش مراد وعبان رمضان وغيرهم، وحين التحق أمين بطلائع الفدائيين الفلسطينيين بعد انطلاق الرصاصة الأولى اواسط الستينيات، اختار الاسم (الأخضر العربي).
التقيت به في دمشق الشام في ليلة قارسة من شتاء عام 1968، كان قد التحق مع عدد من رفاقه بدورة تدريبية عسكرية مكثفة في معسكر الزبداني بالقرب من جبال لبنان الشرقية المحملة بالثلج في ذلك الفصل، وجاء إلى اللقاء وهو يرتدي ثياب الفدائيين المرقطة وقبعة من القماش ذاته.
وسألته: ألا تشعر بالبرد الذي ينخر العظام.
ورد هو بابتسامة وادعة. وفهمت من بعض رفاقه في وقت لاحق أن (أمين) رفض أن يستلم من المعسكر التدريبي غير هذه البدلة والحذاء العسكري،وكان يقوم بغسلها حين تتسخ ؛ويرتديها حين تجف ؛ وظل كذلك حتى استشهاده في الثالث من كانون الأول/ديسمبر عام 1969 في بيادر (شبعا) في مواجهة العدو الصهيوني ؛وأظن أنها كانت كفنه.

حول أكواب الشاي الساخن في تلك الليلة الشتائية القارسة، أخذنا (أمين) إلى حيفا –مسقط رأسه-وجنوب لبنان والشام ..
كنت في تلك الجلسة اليتيمة أتأمل وجه أمين النحيل الذي تغطيه لحية كثة وهو يحكي بصوت أقرب إلى الهمس، وخالجني إحساس بأنني أجلس إلى مشروع(شهيد).
وسافرت إلى ألمانيا في ربيع السنة التالية، وأخذتني المشاغل ثم جاء خبر استشهاد (الأخضر العربي) في الثالث من كانون الأول/ديسمبر 1969 بعد معركة مع العدو الصهيوني في جرود شبعا دامت من الخامسة فجرا حتى الحادية عشرة صباحا، استخدم العدو فيها المدفعية الثقيلة وقذائف الهاون ورشاشات المروحيات، أصيب الأخضر العربي إصابة مباشرة حين تقدم تحت وابل النيران لسحب واحد من رفاقه الذين أصيبوا في المعركة،ووذهبت روحه الى بارئها راضية مرضيه؛ وتم نقل جثمان الشهيد من ارض المعركة على ظهر حصان الى المواقع الخلفية ومنها إلى دمشق الشام التي أحبها، ثم إلى بيروت و(بنت جبيل) ؛وفيها ووري الثرى الذي أحبه.
مئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين كانوا في وداع الأخضر العربي في الأيام الثلاثة التي أمضاها جثمان الشهيد الفلسطيني اللبناني محمولا على الاكف بين دمشق وبيروت وبنت جبيل.
ومن حسن الحظ أن الأخضر العربي كان معتادا على كتابة يومياته. وسنقرأ في اليوميات سيرة ومسيرة مناضل فذ من طراز خاص جدا، يتوجب أن نقرأه في الذكرى السابعة والثلاثين لاستشهاده.
وهنا قراءة لليوميات:
“أمضيت فترة الحضانة في (مدرسة الرابطة) بحيفا، كنا نسكن في دارنا الكبيرة في طرف حيفا الشرقي (منطقة جامع الحاج عبد الله ـ قرب الحلقة)، وكنت أذهب إلى الحضانة برفقة أبي أو بعض أقاربي، وأذكر أنني نلت مرة جائزة كانت عبارة عن قلم رصاص…
وفي (مدرسة الوداد الإسلامية)، في حيفا قضيت قسماً من المرحلة الابتدائية، وقد وصلت إلى الصف الرابع، وكنا في المدرسة عندما قصفها اليهود بالمدفعية، وأذكر أننا اختبأنا  تحت المقاعد…
كنت أذهب إلى المدرسة، أسير مسافة كبيرة مع شقيقاتي كل يوم، نختبئ من الرصاص، ونهرب من شارع إلى شارع، حتى نصل إلى المدرسة، وكذلك في العودة….
وعندما ازدادت الاضطرابات وكثرت الضحايا، أقفلت جميع المدارس… وتفتحت عيناي يومها على الحوادث الدامية، على نكبة فلسطين، الأرض العربية الطاهرة”…
هكذا تتهاطل الصور إلى ذهن (أمين)، إن البيت بغرفه الكثيرة شيء لا يمكن وصفه بالكلمات،  شيء محمل بالسرية والغموض، ولذلك فإنه لا يذهب بعيداً في وصفه.
والحضانة والمدرسة الابتدائية في حيفا، كانتا المكان الذي يحقق فيه ذاته، وفيه نال جائزته الأولى (قلم رصاص)، لكن هذا التسلسل ما يلبث أن ينقطع:
“كنا ننام على دوي القنابل والرصاص ونستيقظ عليها… اعتادت أذني على سماع هذه الأصوات، واعتادت عيناي على رؤية القتلى والجرحى والدماء… ولكنني ظللت أشتاق للمدرسة، للرفاق، للأساتذة، للملعب الفسيح الذي كنا نلعب فيه…
كانت منطقتنا تشعر بالأمان لوجود  الجيش الأردني فيها، كان الجيش الأردني (يربض)، قرب بيتنا، وكان الثوار كثيراً ما يمرون أمام دارنا، فنصفق لهم، وتغرورق عيوننا بدموع الفرح، كان يعجبني كثيراً منظر الثوار بأسلحتهم المختلفة، وكنت أهتف لهم مع رفاقي الصغار (فلسطين بلادنا… واليهود كلابنا)، وكثيراً ما كنت أنزل إلى الشارع وأطلب منهم أن يسمحوا لي بحمل السلاح ولو لدقيقة، كان أملي أن أحمل السلاح مثلهم، أن أصبح ثائراً…”.
وداعاً إذن لعالم الفنطازيا والأحلام، ولتلك الحقبة من العمر التي تثار فيها ألوف الأسئلة…إن الحرب تدمر البيوت، وتيتم الأطفال، وتقضي على الحياة الأسرية الهادئة، وتمنع التلاميذ من الذهاب إلى المدرسة حيث الرفقاء، والأساتذة والملعب الفسيح،
 إن (أمين)، يحمل ـ كما كل أبناء فلسطين ـ حملاً من المعاناة لا يُرى بالعين المجردة، بدوي  القنابل وصور القتلى والجرحى، وكان الاقتلاع والتهجير عند المنعطف؛ وعانى (أمين) قبلها محنة أخرى:
“في هذه الأجواء تفشت الأوبئة، وانتشرت في رأسي (حبوب الرأس)، وكان لابد من العلاج، وبدأ العذاب فقد بدأ والدي يمارس الطب في راسي، وذلك بحلق تلك الحبوب مع الشعر بآلة حلاقة الذقن (!)، وكانت الدماء تسيل بغزارة من كثرة الجروح، وكنت أصرخ صراخاً قوياً، أستنجد بأمي كي تخلصني من أبي، ولكن من يجرؤ على التقدم؟ كان الجميع يخافون منه…
ومع الأسف فقد زاد تطبيب أبي لي من هذا المرض الذي هدد بالفتك برأسي، مارسوا علاجات كثيرة، ثم عرضني والدي على طبيب يهودي، يسكن في حي يهودي، طلب من أهلي إحضاري إلى عيادته يومياً لكي يعالج رأسي بالكهرباء… وكان الذهاب يومياً مغامرة كبيرة كنت أقوم بها برفقة شقيقتي (آمنة) القوية… وشفيت على يد هذا اليهودي، وعاد الشعر إلى رأسي…”.
كان هناك العديد من الأطباء اليهود الذين اكتسبوا محبة الناس لهم بسبب الأعمال الطبية، لكن أعمالهم لم تكن خالصة لوجه الإنسانية، كان هدفهم أن يدفعوا الفلسطيني إلى الإقرار بأن اليهودية، وبالتالي الصهيونية هي مصدر عمل صالح، ولكن هذه الصورة كانت تُمحى أمام الجرائم التي يرتكبها أفراد العصابات الصهيونية، ولذلك فإن (أمين) ـ الحساس والذي يعترف بالجميل ـ لا يقف عند هذا الطبيب، وإنما يمضي في رواية تلك المشاهد المفزعة، والحلم الذي كان يراوده.
الله معنا..
“جعل الثوار من أحد الدارين حصناً من حصونهم، نظراً لموقعه المشرف على الحي اليهودي، وكنا نذهب إلى مواقع الجيش الأردني ونقف قرب المصفحات، نتعجب منها ونتقاسمها، فنقول: هذه لي، وتلك لفلان… وذات مرة ذهبنا إلى هناك، وفوجئنا بالجيش الإنكليزي، كان العلم الإنكليزي يرفرف هناك، ولما اقتربنا شهر علينا أحد الجنود ـ الإنكليز ـ سلاحه، وطردنا…
وأسرعت إلى البيت الثاني كي أخبر الثوار بذلك، قلت لأحد الثوار ويدعى (الخضر) فقال: عندنا علم، لقد انسحب الجيش الأردني من فلسطين نهائياً، وأصبحنا وحدنا يا أمين…
قلت له: ألا يوجد أي جيش معنا؟..
فأجابني: لا يا أمين… الله فقط معنا…
وكنت أرى بعيني دبابات الجيش البريطاني تقصف بمدافعها الأحياء العربية، لقد كان التعاون بين الإنكليز والصهاينة علنياً وظاهراً، ومن هنا بدأت الذكريات الدامية تدخل إلى أعماق نفسي الحديثة الصغيرة، وإلى قلبي الضيق، وتفكيري المحدود…
وكانت تلك ليلة  رهيبة جداً، اشترك الجميع بالحراسة، الكل أصبحوا ثواراً…
وذات ليلة كان سكان المنطقة (ضئيلين) جداً، وإذ بأصوات حفر تسمع منا… ا لأنوار مطفأة، وقد اجتمع الجميع في الطابق الثالث بدارنا، عشرات النساء والأطفال والرجال، لقد كانت الدار مطوقة باليهود، وعشنا تلك الليلة على أعصابنا، حتى الأطفال لم يناموا… وفجأة انطلقت بضع رصاصات، تلاها انفجار قوي، ثم هدوء تام… وانبثق الفجر بنوره، وانتشر الثوار يفتشون في المنطقة… كان الانفجار في بيت جارنا الذي هدم على أصحابه، والرصاص أصاب جارنا (أبو نعيم) في رأسه، ومات تاركاً قربه قرصاً من الدم الأحمر… شاهدته بعيني…”.
إن (أمين موسى سعد)، يرسم بالكلمات: الدم أحمر، وهو على شكل قرص، وعدد السكان كان ضئيلاً والظلام والرصاص والانفجار، وهو يحرص على وصف الصور كقطع الفسيفساء الصغيرة، ضابطاً تتابعها، متخلصاً من ضغطها الداخلي ,
ثم يأتي إلى الاقتلاع :
“خضع أبي للأمر الواقع، وقرر ـ بناء على أمر من الثوار ـ الرحيل، ورحلنا إلى قلب المدينة ـ حيفا ـ وبعد أيام جاء والدي ليقول لنا: سنرحل من هنا نهائياً ـ يقصد من فلسطين ـ. كان يتكلم بدموعه، لقد كان يبكي!!… وسألته: إلى أين يا أبي؟… قال: إلى لبنان.. سنترك هذه الأرض بعد أن باعها ملوك العرب…
قلت: متى سنرجع؟
قال كلمة واحدة: سنعود… واستقرت هذه الكلمة في قلبي….
وصعدنا إلى الشحن الذي أقلنا، وقد وضعنا فيه بعض الأغراض البسيطة، وكنت أحتضن محفظتي المدرسية وكرة قدم،  لقد تركنا كل شيء، أرضنا وبيتنا وأموالنا… وصعدت معنا في الشحن أسرة فلسطينية، وسرنا نمر على دوريات تفتيش  عديدة إلى أن وصلنا إلى (بنت جبيل) ـ مسقط رأس والدي ـ عند الغروب. وسكنا في دارنا في (بنت جبيل) التي تتألف من غرفتين، وسكنت معنا في الدار الأسرة الفلسطينية، وزادت الروابط بيننا، إنهم إخواننا في النكبة والنزوح… تناولنا جميعاً طعام العشاء عند جدي، وأمضيت تلك الليلة  وأنا أفكر: كيف تركنا فلسطين؟.. ولمن؟.. ولماذا؟.. كان تفكيري أكبر من عمري..”.
والتاريخ الفلسطيني سيبقى معلقاً فوق رأس (أمين موسى سعد)، مثل معطف الجندي الملطخ بالدم، يراه في مدرسة (الشيخ اللنجي)- في حيفا-، الذي بدأ معه الدراسة من (أليف لا شين عليها)، وتلاوة سور  القرآن الكريم، عن ظهر قلب، وكتابة الشعر والحِكم، قبل أن ينتقل إلى المدرسة الرسمية.
“كنت في الصف الرابع الابتدائي، وهنا التقيت بإخوتي أبناء النكبة، وأذكر المظاهرات المحزنة التي كنا نقوم بها في ذكرى النكبة، ترفرف فوق رؤوسنا أعلام الحزن السوداء ونحن نردد:
نحن أطفال صغار
أبرياء ظلمونا
يا فلسطين سلاماً
كيف عنك أبعدونا
حرّموا الدنيا علينا
دون عدل شردونا
وبدأت حياتي الفنية، وأنا أرسم علم فلسطين، خريطة فلسطين، فلسطيني يقتل صهيونياً… أصبح الرسم هوايتي”…
من الرسم بالكلمات إلى الرسم بأقلام الرصاص والطباشير.
“نجحت في الشهادة الابتدائية، وكنت الأول في الرسم، وقد علقت الإدارة رسومي في الإدارة والصف”.
ولا ينسى (أمين موسى سعد)، أن يكتب في دفتر يومياته أسماء أساتذته، ورفاق صفه (أقرب الرفاق إلى نفسي)، وسيظل يحرص على ذلك وهو يكتب يومياته في الأعوام (1953-1956)، التي درس خلالها الصفوف التكميلية بالكلية الجعفرية في صور والتي حصل خلالها على جائزة الرسم الأولى:
“كان الموضوع هو رسم الكلية الجعفرية،  وقد فزت بالجائزة الأولى وقدرها سبع ليرات ونصف، وطلبت من الإدارة أن تقبل الجائزة المادية تبرعاً مني لصندوق الكلية، لكنها رفضت ذلك نظراً لضعف حالتي  المادية. لقد كانت ثيابي عتيقة مرقعة، وعلامة الحرمان  تظهر على وجهي… أخذت الجائزة واشتريت بها معطفاً وقميصاً اتقي بهما برودة الشتاء”.
ولسوف يقوده الرسم إلى (الناصرية)، فلقد قام برسم صورة للرئيس جمال عبد الناصر، وبعث بالصورة مع رسالة تهنئة إلى الرئيس جمال عبد الناصر في القاهرة بمناسبة إعلان الدستور الجديد، ورد الرئيس عبد الناصر برسالة شكر أرفقها مع صورته بعد أن وقع عليها بإمضائه، وبقيت الرسالة والصورة بين مقتنيات (أمين موسى سعد).
وعن تلك الفترة يكتب في مذكراته تحت عنوان (مثلي الأعلى).
“في الوطنية: جمال عبد الناصر.
في التدريس: خليل شرف الدين.
في الاستشهاد: عدنان المالكي.
في الإخلاص: سعود الساحلي”.
لقد خلف انسحاب القوات الأردنية التي كانت (رابضة)، قرب بيته في حيفا، خيبة أمل مرة في نفس أمين،كان يريد أن يرى العرب يعملون لاستعادة فلسطين التي تُركت وحيدة عام 1948.
ووجد نفسه ينخرط في أحداث عام 1958 اللبنانية، والتي بدأت عقب نزول القوات الأمريكية في لبنان بطلب من رئيس الجمهورية اللبنانية ـ آنذاك ـ كميل شمعون، وهذا الانخراط جعله وجهاً معروفاً لدى أجهزة المباحث التي كانت تراقب الجميع.
واختار مهنة نبيلة هي مهنة التدريس ابتداء من عام 1962، فدرس في (المدرسة العربية) في الغبيري في عامي (1962و1963)، وكذلك في (الكلية الوطنية) بين عامي (1963و1967).
كان يردد قول أفلاطون: إن التربية هي إعطاء الجسم والروح كل ما يمكن من الجمال، وكل ما يمكن من الكمال.
وكان يؤمن بأن الأطفال لا يولدون بشراً، بل يصيرون بشراً بفضل التربية، وأن الشعوب التي تتوافر لها عناصر التربية الحيّة، لابد أن تبلغ أهدافها في المجالات كافة.
لكل ذلك فإن المدرس (أمين موسى سعد) الذي شهدت له (المدرسة العربية)، و(الكلية الوطنية) في بيروت، بأنه كان مدرساً ناجحاً تعليمياً، بل ومثال المدرس الناجح تعليمياً ومسلكياً، كان معنياً بالتعليم والسلوك، والوعي وازدهار الشخصية، وبلورة الفكر، وغرس النزعات الخيرة في دخائل نفوس تلامذته، لأن رسالة المعلم عنده ليست مقصورة على تلقين المعلومات وحشو أذهان التلاميذ بالمعارف، وإنما القيام بتربيتهم وإعدادهم إعداداً صالحاً للحياة المستقلة من مختلف وجوهها ونواحيها، وإلزامهم بتقوية ملكاتهم، وتهذيب أخلاقهم، وتعهد غرائزهم وميولهم، وغرس العادات الصالحة في نفوسهم، والاندماج معهم بروح الأخوة لتبصيرهم الحق…
ولقد كان (أمين موسى سعد) رائداً وموجهاً لتلاميذه، وبين أوراقه نماذج عديدة من الآثار القيمة التي تبين جانباً من دوره في حقل التعليم، أبرزها (رسالة إلى طالب) التي يخاطب فيها الطالب، أي طالب:
“تحياتي إليك وأنت تحيا على مقاعد الدرس، في جو مليء بالعمل، حيث الملأ ينطلق من سعادة ائتلاف الحياة بالعمل… أريدك يا أخي، مثلاً طيباً، ملء نفسك الثورة والتحرر، والإيمان  يعبئ قلبك… لك العُلا إذا سرت على دروب المثل العليا، وما إنشاء النفس إلا عملا يناوئ مساوئ الظروف ويثبت حق الحياة…كن عملاقاً يحطم قيود الجهل والرعب والظلم والعبودية غير آبه بالأخطار، بدار نحو المستقبل بعزيمة ثابتة…”.
ويكاد الطلاب يسمعون لكلماته دوي المدافع وهو يقول:
“كن ثائراً متمسكاً بالإيمان والتضحية، واعمل بإخلاص، ولو كلفك ذلك الدم والروح، انتبه إلى دروسك، وحقق النجاح بفضل إرادتك، ومن ثم فأنت على موعد مع واجبك المقدس تجاه وطنك، عندما تخرج إلى حياة العمل، وأنت تتمتع بالثقافة والتربية، والاستعداد للنضال”.
وهذه الرسالة هي واحدة من دروس المدرس (أمين موسى سعد) في اللغة العربية، ناهيك عن الأسئلة، التي كان يوجهها حول نص الرسالة، حيث يطلب من طلابه أن يذكروا جمع مفردات (ائتلاف ـ إليك ـ طليعة)، وأضداد مفردات (عملاق ـ الجهل ـ النظام ـ الضلال)، وشرح الكلمات (افتراءات ـ اللا اكتراث ـ يناوئ)… أو الطلب من طلابه أن يكتبوا موضوعات إنشائية حول التضحية بوصفها (انطلاق مصيري نحو نكران الذات، وعمل بطولي في سبيل الآخرين، تنبثق من قلب جريء ونفس أبية نبيلة، كما أنها من صميم القيم الإنسانية الرفيعة الخالدة)ـ(في14آب1964)ـ.
وتتلاحق موضوعات الإنشاء عنده حول: (عاصفة الفدائيين التي انطلقت تزرع الرعب والهلاك في قلب الصهاينة المحتلين)، أو (التبرع لجيش تحرير فلسطين)، أو (مأساة فلسطين التي تعيش في ضمير الشعب بكامله من المحيط إلى الخليج… صف شعورك نحو إخوتك النازحين المشردين، واذكر واجبك  وواجب العرب نحوهم ونحو فلسطين).
وعن الحرمان يطلب من طلبته أن يكتبوا في هذا الموضوع:”مع تساقط الأمطار، تتساقط دموع المعذبين، ومع البرد القارس، تلتوي أجسام الأبرياء، ومع الرياح المزمجرة، تتساقط أرواح المشردين، ومع البرق الوضاء، والرعد الكاسح… تحدث أيها الناشئ عن هؤلاء الأبرياء الذين يعيشون الشتاء في جو رهيب”.وعن الشهيد يقول (أمين موسى سعد):
“الشهيد هو ذلك الملاك النائي في المتعة المثلى، ونراه  في كل معترك، إنه الروح الخالدة في ضمير الشعب، ترطبها مؤق العين، وتبقى تسبح في عالم التنبؤات وقد غدا محياها رمزاً للتفاؤل، وكأنها ترتل إلى كل موطن قائلة:”فِ بوعدكِ نحو الوطن، قم بالواجب، وابتعد عن اللامبالاة، ولا تكن ملهاة في عالم التأوهات التي أمسى مع حفدة الخمول.
إنه القلب الطيب الجريء الذي خربشه رصاص الظلم والعدوان ببطء، ولكن بدون نوع من الإيذان، إنه شلال البيئة ورمز البلدة المفضلة، ورغم مرور السنين المربدة المملوءة بالعبء، فخلود الشهيد واجب حتمي يتطلبه وجود الأمة ورغبتها في الحياة.
له تقدير التربة المغذاة بدمه، وشكر آخر نجوم الأفق، ودعاء النفوس… إنه عنوان الأمة في كفاحها الطويل، ومنه تنطلق أفواه الحياة الحرة الكريمة، ومن دمائه تتفجر ثورات الأحرار، وتضاء سبل الكرامة”.
هل كان (أمين موسى سعد) يستعد للشهادة تحت اسم (الأخضر العربي)….
بالتأكيد فإن الأمر كذلك، فقد كان معلماً صادقاً، ومشرفاً كشفياً مشجعاً لتلاميذه وهو يكتشف معهم البيئة اللبنانية والعربية السورية، ويقودهم إلى السهول والجبال لكي يتعلموا حب وطنهم الصغير، ووطنهم الكبير…
وهذا هو المعلم الذي غرس في نفوس طلابه فضيلة الحفاظ على الوعد، يكتب في مذكراته داخل سجن المزة في دمشق الذي اقتيد إليه في العاشر من شباط عام 1962، بتهمة العمل لإعادة الوحدة بين سورية ومصر…
“أذكر بأنني وعدت قبل اعتقالي بأيام قليلة خمسة طلاب من الصف الأول تكميلي بجائزة لكل فرد، وذلك تقديراً لهم في كتابة الموضوع الإنشائي الأخير، والذي يدور حول المشكلة الحالية تقريباً، ولم أنفذ وعدي بعد، فهل يا ترى سأعود، وأُقدم إلى فلذات كبدي جوائز رمزية؟ أم أنني لن أعود، وأحرمهم من حقهم في المكافأة والتقدير؟ آمل أن أعود، وإذا لم أعد، أرجو أن تعطى لهم هذه الجوائز من أغراض بيتي، بل أحسنها، ولكي تبقى ذكرى مني لهم، تحمل في طياتها أجمل عبارات الحب والتقدير، لهم ولجميع طلابي”.
وتحمل الفقرة التاريخ التالي: (العاشرة، والدقيقة العاشرة ليلاً من يوم السبت 17/شباط/1962).
هذا هو (الأخضر العربي) أو (أمين موسى سعد) الذي وصفه مطران حوران، وجبل العرب (باسيل سماحة) بأنه (مشعل حق ونبراس يقين)، وناداه (يا صديقي الأخضر العربي، يا مثال الربيع يعود بالدم النقي إلى عروق أمتنا فتزهر حقولها وتثمر أشجارها بثمار العطاء والاستشهاد)…
ويبدو أن الأخضر العربي قام بزيارة المطران باسيل سماحة، ودعاه لزيارة خنادق المقاومين في الجنوب وهذا المطران يكتب في رثاء الأخضر: (لا تظن أيها الصديق أنني سأحسبك غيرت موعداً كنت قد أعطيته يوم عرضت علي وبضع رفاق لك ودعوتموني إلى زيارة خنادق الشرف والكرامة حيث شعت أنوار مبادئكم، ولن أحسبك غيرت موعداً إذ قضيت شهيداً قبل الموعد الذي قررناه معاً…  ستكون معنا يا أخضر العهود بلحيتك المسترسلة شلالات خير وعطاء، بهامتك  المشرئبة عزة وشرفاً، بصوتك الآتي من أعماق أعماق براكينك الثائرة…..).
ويكتب أمين سعد عن اعتقاله في (سجن المزة) بدمشق و(سجن الرمل) في بيروت، تحت عنوان (أذكر):
“أوقفت وضربت وعذبت مراراً، اشتركت في ثورة لبنان، وحملت السلاح طيلة شهور هذه الثورة، حملت سلاحي المقدس الذي أحضرته من دمشق، بعد مسير حوالي مائة وخمسين كيلو متراً في تعب متواصل وسيراً على الأقدام، وكنت أربط سلاحي بدمي وروحي.
أصبت بشظايا قنبلة خفيفة في مظاهرة استنكار  إعدام الضباط الأحرار في العراق أمام السفارة العراقية في بيروت، وقد فقدت كمية كبيرة من دمي، وعشت أياماً في ألم وسهر متواصل، أقول وكلي عزم وإيمان بأن كل هذا النضال المتعدد الذي قمت به ماهو إلا نقطة صغيرة  من محيط الواجب المقدس علي… وما عليَّ إلا أن أرفع من مستوى النضال في تفكيري وعملي، وأعيش مرحلة أكثر جدية، وأعنف فعالية من الماضي”.
ويبدو أنه اختار بعد هزيمة حزيران عام 1967 المرحلة الأكثر جدية، والأعنف فعالية… اختار أن يصبح مقاوماً بالسلاح الذي رآه في أيدي الثوار عام 1948، وحلم بأن يحمله ذات يوم عندما يصبح ثائراً.
ولقد كان صادق الوعد، فلقد بذل دمه في ساحة المواجهة، في الثالث من كانون الأول/ديسمبر عام 1969، قبل سبع وثلاثين عاماً من الآن، وكان حينها في الثانية والثلاثين من عمره.
أنا لا أعرف عنوان شقيقاته (أمينة) و(آمنة) و(نجمة) و(خديجة)، وكنّ الأغلى على قلبه، بعد فلسطين، وهذه مناسبة لكي أبعث لهن بأسمى آيات التقدير لروح شهيدهن وشهيدنا، عسى أن تطمئن روحه التي فاضت عند تخوم (بركة النقار) التي تحررت بسواعد الجيل الجديد المقاوم، ولعل بعضهم كان  من تلاميذ (الأخضر العربي)، المعلم، الرائد الذي لم يكذب أهله.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية