السبت، فبراير 09، 2019
أسرار حرب لبنان من مذابح صبرا وشاتيلا حتّى رحلة أمين الجميّل إلى دمشق - 2
السبت, فبراير 09, 2019
اضف تعليق
من المفاوضات اللبنانية ـ الاسرائيلية في خلدة
الوفد
القواتي إلى تل أبيب، أواخر عام ١٩٨٢، ضمّ فؤاد أبي ناضر، وفادي أفرام،
وجوزيف أبو خليل. جاء هؤلاء لإقناع وزير الدفاع الصهيوني أرييل شارون،
بمساعدتهم في حرب الجبل. لكنّ الأخير تلقّف ضيوفه بحزم: إلى متى نقاتل من
أجلكم؟ ماذا أخذنا في المقابل؟ لماذا ننحاز إليكم لا إلى الدروز؟ قبل أن
يقترح الحلّ السحري:« لو صرح الرئيس أمين الجميّل علناً بأنه مع إسرائيل،
لتغيّر الموقف كله». أما المذكور، فكان مشغولاً بقرار نشر الجيش في بيروت
الكبرى، وكيفيّة فرضه على القوات اللبنانيّة. هنا تتمّة الفصل السادس من
كتاب آلان مينارغ الصادر باللغتين الفرنسيّة والعربيّة، الذي يوقّعه
الصحافي الاستقصائي يوم الجمعة في بيروت («المكتبة الدوليّة»، مبنى
الجيفينور، ابتداءً من السادسة)
وصل وزير الدفاع بابتسامة عريضة إلى فندق هيلتون في حدود
السادسة والنصف مساءً، يتبعه أوري دان. فاتخذ مكاناً على المائدة القائمة
وسط الصالون وتوجه إلى أفرام:
ـ كيف حالكم؟
ـ خيتسي، خيتسي («بين بين» بالعبرية).
شنّ وزير الدفاع هجوماً فورياً، ومدّ يده إليهم بوثيقة من سبع صفحات مطبوعة بالإنكليزية، ومرفقة بخريطة عليها بعض الملاحظات.
قال:
ـ أرى ضرورياً أن تكون المفاوضات قد بدأت، وأن تعلموا إلى أين
وصلت المناقشات المباشرة مع الشيخ أمين. هاكم هذه الوثيقة. إن كان الشيخ
أمين يريد الوصول إلى نتيجة، فينبغي أن يتعهّد العمل وفق هذا النص غير
الرسمي، ما دام قد رفض توقيعه في اللحظة الأخيرة. ينبغي له توجيه وفده
وفقاً لبنودها. من الأهمية بمكان أن تتصلوا مباشرة بأمين، حتى تعرفوا كيف
ينوي التقدم في التفاوض. إن في ذلك مصلحة للجميع من إسرائيليين ولبنانيين
وأميركيين، ولا سيما أن هؤلاء لا يدركون حقيقة ما يجري. وأحرص من ناحية
أخرى على أن أكرر على مسامعكم أننا لن نغيّر سياستنا حيال المسيحيين
والموارنة والقوات اللبنانية. لكن لدينا مشكلة داخلية خطيرة جداً. كان
رأينا العام ينتظر النتائج؛ إذ وعدناه بأن هنالك اتفاقية مكتوبة. وما لم
تتجسّد عملياً فسوف تكون متاعبنا كبيرة جداً.
فردّ عليه أفرام قائلاً:
ـ يسعدنا أنكم توصلتم إلى اتصال مباشر مع الشيخ أمين، وإن لم يكن
من خلالنا. أما بشأن الوضع على الأرض، فإن حلفاء منظمة التحرير الفلسطينية
والسوريين يعيدون تشييد البنى التحتية في بيروت، ويستخدمون الصدامات في
الجبل لممارسة ضغوط سياسية. نحن على علم بأنكم تواجهون صعوبة في التدخل
هناك بسبب الطائفة الدرزية الإسرائيلية. لكن ينبغي أن تعلموا أن مصادر
إطلاق مدفعيتهم تقع في حمّانا التي يشرف عليها السوريون، وقد التقى مروان
حمادة بياسر عرفات للحصول على دعم بالرجال والسلاح والذخائر…
لم يمتنع شارون عن إبداء ملاحظة مرفقة بابتسامة:
ـ ذهب الشيخ أمين إلى المغرب ليلتقي بأبو إياد وقد عانقه.
فقاطعه فادي أفرام قائلاً:
ـ هذه مسألة أخرى، وأنتم تعلمون ذلك جيداً. إن موقفنا السياسي
يزداد كل يوم ضعفاً. أقترح عليكم دراسة مخططات تضع جنبلاط وأصدقاءه خارج
نطاق القدرة على الإزعاج. لقد كان ذلك موضوعاً ضمن مخططاتنا في العام
الماضي. لقد لاحظ المسيحيون أنّنا لم نعد نمسك بالوضع.
فقال وزير الدفاع بمرارة:
ـ ينبغي لي في سبيل حل هذه المعضلة أن أرسل جنود الاحتياط إلى
لبنان. ولا يسعني القيام بذلك، فيما يقوم التويني وصائب سلام بمهاجمتنا
دونما توقّف.
وهنا بادر فادي أفرام إلى القول:
ـ نحن لا نطلب إليكم القدوم للقتال. لكن لنتصرّف معاً على الأرض…
فقاطعه مناحيم نافوت:
ـ يسعنا أن نطوّر سياسة مشتركة، وأن نخطط للدفاع عن مصالحنا. لكن لن يكون هنالك من نتائج ما لم تتقدّم المفاوضات.
ومن جديد كانت الصفقة واضحة. لكن لم يشأ اللبنانيون سماعها، كأن
تلك الكلمات عاجزة عن الدخول إلى أذهانهم. واستأنف فادي أفرام الكلام
متجاهلاً ملاحظة نافوت تماماً:
ـ فلنفعل شيئاً ما يبرهن على أننا متضامنون معاً. حينئذٍ يسعنا أن نمارس ضغوطاً عكسية على مروان حمادة وصهره غسان التويني والآخرين.
هنا قاطعه شارون:
ـ أعتقد، في البداية، بضرورة إقامة صلة بأسرع ما يمكن مع زاهي
بستاني لمقاتلة الإرهابيين الذين رجعوا إلى بيروت. فهل جرى تدعيم الجيش
اللبناني؟
ـ يلزمه بعض الوقت. هنالك مشروع قانون دفاعي ينبغي أن يركّز سلطات القرار بيد القائد العام.
وتدخل جوزيف أبو خليل:
ـ إن وضع المسيحيين في لبنان هو الذي ينبغي تدعيمه. والقوات
اللبنانية لم تعد تؤدي الدور الذي كانت تؤديه قبل شهرين فقط. فهي لم تعد
تتمتع بالوزن السياسي ذاته، وذلك بسبب أحداث الشوف التي لا تملك حرية
التصرف بها وفق ما تريد. وهي تفقد يومياً ما بين أربعة إلى خمسة عناصر.
فقدنا حتى الآن 85 قتيلاً في الكمائن.
ردّ شارون:
ـ وكم عدد الدروز؟ ما من أحد يعدّهم! لو صرح الرئيس أمين الجميّل علناً بأنه مع إسرائيل، لتغيّر الموقف كله!
وعقّب أبو خليل مغتاظاً:
ـ لنكن واقعيين. لا بد للشيخ أمين، كي يصبح قادراً على الإدلاء
بمثل هذا التصريح، من أن يتخلص بادئ الأمر من الضغوط التي يتعرض لها.
وينبغي أن نكون أقوياء لكي ندعمه. وإذا ما خرجت القوات اللبنانية منتصرة من
معركة الجبل فسوف تلقي بوزنها على الرئيس، فيستطيع فادي حينذاك أن يذهب
ليراه ويطلب منه ما يشاء.
ضرب وزير الدفاع الإسرائيلي بقبضته على الطاولة، وقال:
ـ ينبغي للمفاوضات أن تتقدم. ينبغي للرئيس الجميّل على الأقل أن
يعترف بالاتفاقية التي أقمناها معه وأن يوقّعها. عليه أن يعطي توجيهات
للوفد اللبناني؛ فليس من حلول أخرى. لقد وصلنا إلى خط أحمر.
ـ تقولون إنكم وصلتم إلى خط أحمر، والشيخ أمين يؤكد الشيء ذاته. هنالك إذاً سوء تفاهم بين شعبينا.
فقال شارون بصوت خافت:
ـ لم يعد بوسعنا أن نفعل شيئاً. سنخسر كل شيء بسبب تصرفات أمين.
فماذا طلبنا إليه باستثناء فتح الحدود والتطبيع؟ عليه أن يصرح بأنه مؤيد
للاتفاقية، وسوف نزيح الدروز في 24 ساعة. الرأي هنا لا يشمل الخلافات
القائمة بين المسيحيين. سعد حداد مسيحي، وفرنجية مسيحي، وشمعون والجميّل
مسيحيّان. ينبغي أن أقول لكم بصراحة إن هناك في إسرائيل مَن يرى أن علينا
التعاون مع الدروز. فوليد جنبلاط يبعث إليّ برسائل طالباً أن أقابله. لكني
لم أفعل ذلك.
وتدخّل أبو خليل في محاولة توفيقيّة:
ـ نحن نفهم أنكم تتعرضون لضغوط، لكن الشيخ أمين عندنا يتعرض لضغوط
المسلمين والاحتلال السوري والاحتلال الفلسطيني وبقايا الإرهابيين ورواسب
الدولارات السعودية والليبية. ولئن كانت حكومة بيغن لديها حدود لا تستطيع
تجاوزها، فإن حكومة الشيخ أمين لها حدودها أيضاً. إذا ما استمرت الأشياء
على هذا النحو فسوف نصل إلى القطيعة. وينبغي أن نتجنبها.
فقال شارون ساخراً وهو يلمّح إلى طلب القوات اللبنانية الدائم:
ـ ماذا تقترحون؟ نزع سلاح الدروز؟
فردّ أبو خليل متجاهلاً الملاحظة:
ـ ينبغي دراسة الوسائل لتوسيع حقل عمل الرئيس الجميّل وعملكم.
ولئن لم نتوصل إلى استعادة الأمن في الشوف وعاليه، ولم يشعر المسيحيون بأن
القوات اللبنانية مدعومة دوماً من إسرائيل، فإننا ماضون نحو النكسة.
وعاد شارون بإلحاح:
ـ الأولوية هي الرئيس! طالبوا بالوصول إلى اتفاقية. أبعدوا
المسلمين من حوله. لا تخافوا من الدروز؛ فنحن هنا. المشكلة هي التفاوض وكل
شيء يغدو سهلاً بعد ذلك.
قال فادي أفرام:
ـ كان بعض المسيحيين قد وضعوا في الحسبان القدوم لتمضية عيد الميلاد في القدس، فلم يستطيعوا القدوم. وهنالك شعور بالمرارة…
فصاح وزير الدفاع:
ـ أية مرارة؟ إلى متى يريدوننا أن نقاتل من أجلهم؟ بودّنا أن نسمع
الرئيس يقول إننا سنصل إلى السلام. وعمّا تكلم أنطوان فتّال؟ عن هدنة
1949! نحن في كانون الأول/ ديسمبر 1982! اقرأوا
صحف اليوم لتروا. لا نريد
أن يقول الرئيس سوى جملة واحدة: سوف يحل السلام مع إسرائيل ذات يوم،
والمفاوضات سوف تقود إلى التطبيع. جئتم لتقولوا لنا إن علينا أن نفعل شيئاً
كي تكونوا أقوياء، وبعد ذلك تتكلمون مع الرئيس. هذا مستحيل! على الرئيس أن
يفهم أنّا إذا ما انسحبنا فسوف تواجهون حداد في الجنوب، والسوريين في
البقاع وحمّانا والجبل، وإرهابيي جبهة التحرير الفلسطينية في بعلبك
وطرابلس، والدروز في الشوف. وأنتم في جونية وبعبدا. بيروت سوف تقسّم.
وستحتاجون إلى مراكب للذهاب إلى الدامور، لأن الطريق سوف تنقطع. هذا ما
سيؤول إليه لبنان. كل شيء بين أيديكم الآن، فإلامَ تظنون أن بوسعنا البقاء
حول بيروت؟ لشهرين أو ثلاثة؟ سوف يجب علينا الانسحاب فتصبحون محاصرين.
صدقوني أنه سيستلزم الانتظار طوال جيلين لكي نتمكن من القيام مجدداً بما
قمنا به.
فالتفت أبو خليل نحو مواطنيه قائلاً بصوت متشائم:
ـ إن الجنرال يريد أن يقنعنا بما نحن مقتنعون به، فلنواصل
المفاوضات ولنرَ إلى أين ستؤدي. وليكن ما سوف يكون! لسنا وحدنا المسؤولين
عن مستقبل المسيحيين! سندرس إمكانية سحب قواتنا من الجبل، وليتولَّ أمين
الجميّل المسؤولية. نحن لسنا بآلهة. هنالك شمعون وبيار الجميّل والآباتي
بولس نعمان. فليأخذ كل واحد نصيبه من العبء. وسيؤدي ذلك إلى كارثة لأن
الشيخ أمين سيرتمي في أحضان المسلمين والفلسطينيين والسوريين.
ثم استدار صوب شارون ليضيف:
ـ كنّا مُخفّف الصدمة بينكم وبين أمين. لكن هذا العازل انكسر.
فالقرار السياسي اليوم بين يدي أمين، وإذا ما خسر فادي المعركة في الجبل…
فلست أدري… قد يكون ذلك ما يتمناه أمين…
قال مندي على عجل:
ـ لم تضع الفرصة بعد. وعليكم الاستمرار مع داغان. إن تكن لديكم
مطالب محددة فأعطونا إيّاها لنتمكن من دراستها. سنواصل عمليات التدريب لكي
يفهم اللبنانيون أننا معكم. الدروز يعرفون من ناحيتهم تمام المعرفة أن
الأسلحة تأتي من هنا.
ـ هذا الكلام غير دقيق، فنحن نشتريها الآن من البرتغال.
في لحظة الانصراف، طلب فادي أفرام الاجتماع على انفراد بوزير الدفاع الإسرائيلي، فانعزل الرجلان في زاوية من الصالون.
قال قائد القوات اللبنانية معاتباً:
ـ أنتم تضعوننا مع أمين في السلة ذاتها. نحن نتعهد تحقيق مشروع
بشير. لقد وقّعتم اتفاقية مع أمين، وهذا حسن جداً، لكن ما الذي سيحصل إن
وجدتم أنفسكم في طريق مسدود، ما قد يؤدي إلى صراع؟ لقد وقع خيارنا عليكم
أنتم لا على أمين. فأنتم ضمانة المسيحيين، وإذا كان لديكم محططات محددة
للمستقبل، فنحن نتمنّى أن نكون جزءاً منها.
فسأله شارون:
ـ والشيخ بيار؟
ـ تساوره على الصعيد المسيحي مخاوفنا نفسها. لقد قال إنكم ضمانتنا، ولا تنسوا أن رئيس الجمهورية ابنه. وسنكون معكم حين تحين الساعة.
في المساء ذاته، وفيما كانت ريح وزخات من المطر تهزّ المروحيّة
الإسرائيلية التي حملت اللبنانيين الثلاثة، وهي لا تزال على ربع ساعة من
الزوق، كان فؤاد أبو ناضر رئيس قيادة القوات اللبنانية يدخل البهو الكبير
للقصر الرئاسي. فقد طلب إليه خاله، أمين الجميّل، أن يحضر اجتماعاً يضم من
حوله كلاً من الجنرال إبراهيم طنوس وبطرس خوند (بيدرو) رئيس مجلس الأمن في
حزب الكتائب.
كان خوند الموظف السابق في مصرف «كريديه ليونيه» رجلاً أربعينياً
قصير القامة، أجعد الشعر، وجهه مدموغ كوجه مغامر مقدام. وكان، وهو الكتائبي
القديم، مطلق الوفاء لبيار الجميّل، وبالتالي لابنه أمين. وقد ورث منصبه
في «القوات» عن بشير الجميّل في 13 أيلول/ سبتمبر 1982، يوم انتخب فادي
أفرام قائداً عاماً للقوات اللبنانية، ولم يشأ الجمع بين المنصبين اللذين
كان يشغلهما سلفه بشير.
ـ أنا منزعج بسبب تعطيل السلطة الناجم عن مشكلة انتشار الجيش في
بيروت الكبرى، وأنتم تعرفون مشاعري، فأنا مرتبط بكم، كحزب وكقوات لبنانية،
على المستوى الأخلاقي وبحكم أخوّة السلاح.
فردّ فؤاد أبو ناضر مستغرباً:
ـ قيل لي إن هذا الاجتماع سوف يتناول صعود الجيش إلى الشوف وعاليه، وأنا مندهش جداً، إذ نتعرض لموضوع بيروت الشرقية.
فردّ الجميّل قائلاً بجفاء:
ـ لن يذهب الجيش إلى الجبل، قبل دخوله إلى بيروت. فالأمر يتعلق بطلب دولي لا بطلب محلي فقط.
هنا تدخل بطرس خوند بعد أن تنحنح:
ـ يا شيخ أمين، طلبنا إليك مراراً وبإلحاح أن تتبنانا وتكون
قائدنا العسكري، وأن تفعل ما تعتبره ضرورياً. أصدِر أمراً! ادخل إلى
المنطقة الشرقية! في المقابل نريد ذخائر وطريقاً إلى الشوف وضمانات.
وبوصفنا مقاومة مسيحية فأنت زعيمنا…
فقاطعه أمين بصوت قوي:
ـ أنا لست ضعيفاً! وأنا قادر تماماً على اتخاذ قرار! وإضافة إلى
ذلك أعتبر نفسي قائدكم العسكري. أنا رئيس الجمهورية وأستطيع أن أعلن نفسي
زعيماً للكتائب.
فقال أبو ناضر:
ـ سيُطرَد المسيحيون من الجبل ما لم ينتشر فيه الجيش.
وقال الرئيس مؤكداً:
ـ لديّ مخطط للجبل. ولسوف تصعد في ما بعد وحدات خاصة إلى الشوف وعاليه.
فرد قائد هيئة أركان القوات اللبنانية بحذر:
ـ سوف ندرس ذلك.
وعلّق خوند مستدركاً كلامه الذي لم يفهم جيداً:
ـ أنا لن أعارض ذلك. استخدم القوات اللبنانية غطاءً بالطريقة التي
تريد. أنا، قائد مجلس أمن الكتائب، أقول لك: أصدر الأوامر التي تبدو لك
ضرورية.
انتهى النقاش بموعد شكلي ضربه أبو ناضر وطنّوس لدراسة التبعات المترتبة على اقتراحات الرئيس.
وسط هذا الارتباك، شعر فؤاد أبو ناضر بأنه وقع في الفخ. ها هي
القوات اللبنانية التي أعيدت إلى حجم ميليشيا حزبيّة، وإن كان ذلك الحزب هو
الكتائب، قد بلّغت رسميّاً، وبمباركة خوند، بأن الجيش سينتشر في المنطقة
المسيحية.
لدى وصول فادي أفرام إلى مكتبه، وجد على طاولته تقريراً شاملاً
مقدماً من جهاز الاستخبارات في القوات اللبنانية، تحت عبارة «سري جداً»،
ويتعلق ببيروت الكبرى:
«لقد انصبّت دراسات مخطط الانتشار كلها على وحدة من الجيش
اللبناني: إنها الكتيبة الثامنة المجهّزة بوحدات من القوة العسكرية
الفرنسية (…) ويرمي هذا المخطط إلى تدعيم السلطة المركزية انطلاقاً من
العاصمة لكي ينتشر في ما بعد انتشاراً تدريجياً في مختلف الأراضي
اللبنانية. وسوف تكون مهمته الحفاظ على الأمن، طرق المواصلات بين المدن،
وجمع الأسلحة الفردية الخفيفة. أما الأسلحة الثقيلة والمظاهر المسلحة،
فينبغي أن تختفي وتنسحب خارج حدود «بيروت الكبرى». وهذا المشروع ينبغي أن
يتبناه المكتب السياسي لحزب الكتائب يوم 31/ 1/ 1983 المقبل».
كان التقرير يقدّر أيضاً النتائج المترتبة، على المدى القصير والمتوسط، على نشر الجيش في بيروت الشرقية:
«سوف تغدو القوات اللبنانية منذ ذلك الحين محرومة رئتها الأساسية على الرغم من الإبقاء على المجلس العسكري في الكرنتينا».
1 ــ على الصعيد المالي: إلغاء الأرباح الصادرة عن الحوض الخامس
في ميناء بيروت الواقع ضمن الانتشار. ثم لاحقاً شطب الضرائب التي تُجنى من
بيروت وضاحيتها، وهي تمثل ثلاثة أرباع المصادر، نظراً إلى الكثافة السكانية
والأعمال التجارية والمكاتب والصناعات والمؤسسات من الأصناف كافة.
ــ إذا ما تناقصت الموارد المالية، فإن المناطق الأخرى من نهر
الكلب إلى جسر المدفون سوف تخضع لفرض ضرائب إضافية، ما سيؤدي إلى تذمّر
السكان، إذا لم يجرِ التقليل من الأجور بالنسبة ذاتها. وبالتالي التقليل
إلى حدٍ كبير من كتلة القوى المقاتلة التي يجب الحفاظ عليها.
ــ إذا جرى تقليص حجم القوات اللبنانية، فلن تعود موضع صدقية ولن
تبقى قوة رادعة على الأرض، إضافة إلى التذمّر الذي ستضاعفه خيبة أمل
العناصر.
2 ــ إن القوات اللبنانية، بانسلاخها عن الشوف وحرمانها الخصوم،
سوف تفقد الشرعية التي تراكمت وخرجت بها من الحرب الأهلية في عامي 1975 ـــ
1976، ومن المواجهات ضد قوى الاحتلال السورية.
3 ــ إن استحالة التواصل على الصعيد العسكري بين مناطق كسروان
ومنطقتي عاليه والشوف، سوف تقلّل إلى حد كبير قدرتنا على المناورة، سياسياً
وعسكرياً.
بعد ظهر اليوم التالي، وهو يوم عيد رأس السنة، استدعى القائد
العام لـ«القوات» قادة الميليشيا كافة. فكانوا جميعاً حاضرين في الساعة
المحددة: فادي أفرام، أنطوان بريدي (توتو)، إيلي وزّان (عباس)، أنطون نجم
(نبتون)، أسعد سعيد (هابّي)، كريم بقرادوني، نازار ناجاريان (نازو)، ألفراد
ماضي، بطرس خوند (بيدرو)، سمير جعجع (الحكيم)، مسعود الأشقر (بوسي)، روجيه
ديب، إيلي الزايك، إيلي حبيقة (H.K)، أسعد شفتري (آسو).
وقد أكد أفرام بصورة قاطعة:
ــ مشكلة بيروت الشرقية واضحة بالنسبة إليّ، فما من أحد يطلب
انتشار الجيش في منطقتنا كما يزعم الشيخ أمين. لا على الصعيد الدولي ولا
على الصعيد المحلي. إنه يريد فقط أن يضيف هذه العملية إلى رصيده الشخصي. لو
كان من شأن هذا الإجراء أن يساعده حقاً، أو أن يكون نافعاً للمسيحيين
لوافقت عليه. لكن ينبغي أن نعرف أن نشر الجيش في الأشرفية يعني اجتثاث جزء
كبير من قدرتنا على التحرك، ولا أستطيع القبول بذلك، آخذاً في الاعتبار
انعكاس النتائج على المسيحيين.
وأضاف إيلي حبيقة قائلاً:
ــ إني أعارض انتشار الجيش، فهو من ناحية سينتشر بكل قوته
ووسائله، ولسوف يستحيل عليه فعل ذلك في مكان آخر، ومن ناحية أخرى فإن سبعين
في المئة من عناصره معارضة لنا.
وسأل أنطوان نجم:
ــ وإذا ألحّ أمين الجميّل؟
فطمأنه أفرام قائلاً:
ــ لن يكون هنالك انتشار بالقوة في بيروت الشرقية.
فقال كريم بقرادوني:
ــ أنا أيضاً أعارض ذلك. إن أمين يتصرف على الدوام على خلفية
خلافاته مع بشير، وهو يعمل الآن على تصفية حساباته. لا يتصرف بوصفه رئيساً
مسؤولاً عن دولة وعن الشعب المسيحي. ولا طائل وراء مناقشة هذه المسألة بعمق
معه. علينا التذرّع بالصبر وكسب الوقت. فأنا أتوقّع أن يمارس ضغوطاً
مختلفة لمحاولة تفتيتنا.
وهنا تدخل إيلي الزايك، وكان أحد المقرّبين من الرئيس أمين الجميّل:
ــ آسف لكون كريم يظلم الشيخ أمين، فأنا مقتنع بأن لديه مخططاً.
هكذا قرّر المجتمعون أن يرفضوا الطلب الرئاسي، وأن يحاولوا
استمالة بيار الجميّل وحزب الكتائب إلى موقفهم. ثم مضى كل منهم ليحتفل برأس
السنة مع رجاله.
في هذا اليوم الأخير من عام 1982 كانت عملية «سلام الجليل» قد
كلّفت الجيش الإسرائيلي 368 قتيلاً و2383 جريحاً، فيما تكلفت إسرائيل 3
مليارات دولار في حربها على لبنان.
تأريخ الحرب اللبنانيّة من خارجها
قبل كتاب آلان مينارغ، لم تظهر أي محاولة جديّة على هذا القدر من
التوثيق، لرواية الأيّام المظلمة التي عاشها لبنان، بين أيلول ١٩٨٢، وشباط
١٩٨٤، أي بين المجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بمساعدة
ميليشيات القوات اللبنانيّة في المخيّمات الفلسطينيّة في بيروت، وقيام
الرئيس أمين الجميّل بأوّل زيارة رسميّة لدمشق، طاوياً لفترة صفحة رهان بعض
اللبنانيين على إسرائيل.
يروي المؤلّف بدقّة الصراعات حول السلطة في الداخل اللبناني،
وتراجع النفوذ الإسرائيلي في بلاد الأرز، ودور الدول العربيّة، وتردد
المجتمع الدولي. كذلك يتناول مينارغ شخصيات أساسيّة، أدت دوراً حاسماً خلال
تلك المرحلة، وما زال بعضها في موقعه اليوم، مع ما طبع سلوكها وعلاقاتها
آنذاك من طموحات، وضربات دنيئة، وأكاذيب، وتلاعبات.
ويأتي هذا المجلّد الثاني والأخير من «أسرار حرب لبنان»، ليستكمل
ما بدأه المؤلف قبل ثماني سنوات، من خلال استعادة سرديّة للأحداث والوقائع،
في نص مرجعي يشكّل مدخلاً مهمّاً لفهم معطيات أساسيّة في المرحلة الراهنة.
مستفيداً من كنوز الأرشيف التي أتيح له الوصول إليها، وتتعلّق بمختلف
الأطراف المعنيّة، يروي مينارغ المقلب الآخر من المشهد السائد.
صدر «أسرار حرب لبنان (٢)» عن «المكتبة الدوليّة» في بيروت،
بالفرنسيّة لغته الأصليّة، ومترجماً إلى العربيّة. كذلك أعيد إصدار طبعة
جديدة باللغتين من الجزء الأوّل، وكان عنوانه الفرعي «من انقلاب بشير
الجميّل إلى حرب المخيّمات». ويوقّع آلان مينارغ كل هذه المجلّدات في مقرّ
المكتبة في بيروت، مبنى الجيفينور (القسم D)، وذلك مساء الجمعة ٢٨ الجاري
ابتداءً من السادسة مساءً.
0 comments:
إرسال تعليق