المقاربات الشيعيَّة لغياب المهديّ:
في فضاء الفكر الشيعيّ الاثنا عشري ثلاث مقاربات في فقه الدولة في أثناء غياب المهديّ: 1- المقاربة التقليديَّة: خلاصة هذه المقاربة هي وجوب انتظار ظهور الإمام الغائب وامتناع المشاركة السياسيَّة حتى ظهوره، والتمهيد لظهوره يكمن في عقيدة الانتظار، ومن ثَمّ الابتعاد عن شؤون الدولة والحكم والسياسة. وهذه المقاربة هي المعتمدة من فقهاء الخطّ الإماميّ قديمًا وحديثًا، حتى قدوم الخميني، وإليه تنتمي مدرسة النجف، وقطاع كبير في مشهد وقم حيث التفكيكيّون والإخباريّون. وظلّت المدرسة الشيعيَّة تعتقد بأنّ الفقه هو القادر على تقدّم الأمم، وأنّ النصّ السلطويّ أمر أُغلِق تمامًا[3]، وأنّ أيّ «راية تخرج قبل خروج المهديّ هي راية ضلال، أو كل راية تُرفع قبل قيام القائم فصاحبها طاغوت يُعبد من دون الله»[4]، ومن ثَمّ وجب الانتظار حتى خروج المهديّ المنتظَر وعدم المشاركة السياسيَّة حتى ظهوره. وهؤلاء أصحاب نظريَّة «الانتظار». 2- المقاربة الثوريَّة: وهي التحوّل الذي أدخله الخميني على الفكر الشيعيّ والميراث الحوزويّ والدرس الفقهيّ والعقديّ، وتمثّل هذه المقاربة انقلابًا واضحًا على الخطّ العامّ للتشيّع، ذلك لأنها أحلّت نظريَّة التمهيد محلّ نظريَّة الانتظار. 3- مقاربة الدستوريّين: وهي التي طرحها النائيني وفقهاء الثورة الدستوريَّة[5] بامتدادها حديثًا، متمثّلة في مفكّرين كبار أمثال شريعتي وبازركان وموسى الصدر وشريعة مداري وغيرهم. وما زالت هذه المقاربة هي الخطّ المعتمد لدى الإصلاحيّين الشيعة في إيران مثل كديفر وسروش، وفقهاء لبنان مثل شمس الدين وفضل الله والأمين، وبعض الحركيّين في العراق. وتتمثل في الدعوة إلى المشاركة السياسيَّة الدينيَّة المدنيَّة، واحترام سيادة القانون وسلطة الشعب، حتى ظهور المهديّ، أي إنّ هذه المقاربة حالة وسط بين نظريَّة الانتظار ونظريَّة التمهيد.
والذي يَعنينا في هذه الورقة هو التركيز على المقاربة الثانية، التي تبنّاها الخميني، إذ مثّلت انقلابًا واضحًا في الفكر الشيعيّ على المستقرّات والأعراف المذهبيَّة الراسخة، ومأسست لحالة تثوير وفوضى في المنطقة كلّها، وما زال الإقليم يئنّ من تلك النظريَّة غير المسبوقة في الفكر الآيديولوجيّ عامّة والشيعيّ خاصّة.
الانقلاب على الميراث الشيعيّ:
الملمَح المهمّ هنا أنّ عقيدة المهديّ الشيعيَّة كانت مدعاة طَوال التاريخ الشيعيّ إلى ابتعاد الجماهير الشيعيَّة عن السياسة وتبنّي نظريَّة «الانتظار» التي تَعني عدم المشاركة السياسيَّة أو حتى المطالبة بحكم دينيّ، لأنّ إقامة الدولة وما يتبعها من إقامة حدود وفرائض وإعلان جهاد، من حقّ الإمام الغائب فقط، وليس لأحد أن يحلّ محلّه في شؤون السياسة والحكم، لأنّ إمام الزمان هو الذي سيملأ الأرض عدلًا بعد أن مُلئت ظلمًا وجورًا. أمّا البشر فمهما بلغوا من صفات الكمال فلا يمكن أن يملؤوا الأرض عدلًا بعد أن مُلئت جورًا[6]. وكان الخطّ الرئيسيّ للتشيّع سائرًا على هذا الدرب، بل إنّ أئمَّة الشيعة الكبار ألزموا أتباعهم السمع والطاعة لكلّ حاكم، عادلًا كان أو ظالمًا، سُنّيًّا كان أو شيعيًّا، وحرّموا الخروج على الدولة، فالإمام موسى الكاظم (128-183ه) -الإمام الثامن عند الشيعة الإماميَّة- يأمر الشيعة بطاعة السلاطين على كلّ حال «فإن كانوا عُدولًا فليسألوا الله إبقاءهم، وإن كانوا جائرين فليسألوا الله صلاحهم»[7]. وهو نفسه ظل منعزلًا عن السياسة وشؤون الحكم[8].
وقد سنحت الفرصة لفقهاء الإماميَّة في مراحل كثيرة أن ينقضّوا على السلطة، لا سيّما بعد أن تسنّم بعضهم مراكز متقدّمة في بنية السلطة العباسيَّة والأمويَّة، مثل الشريف المرتضى في دولة آل بويه، ومع ذلك فلم يفعل ذلك، «لأنه لا يعرف ما هو شرع السماء،أو دولة العدل، مع غياب شبه كامل لتوصيف تلك الدولة الفاضلة التي تجدها مكتوبة في أدبيّات الفارابي وأفلاطون، فكلّ من تصدّى للتلبّس بهذه المهمّة كانت نتيجته لعنة الإمام/ المهديّ الغائب»[9]. وكانت هناك أكثر من فرصة على مَرّ التاريخ لفقهاء الإماميَّة عُرضت عليهم من الثوّار أو من الحكّام أنفسهم، فكان موقفهم واحدًا لم يتبدّل،وهو أنّ «كل دولة دون وجود المعصوم هي دولة لا شرعيَّة وغصبيَّة»[10].
فنظريَّة الانتظار كانت هي الميراث الحوزويّ الشيعيّ طَوال التاريخ كلّه حتى قدوم الخميني في إيران، فانقلب على الموروث الشيعيّ، وحوّل رؤية الجمهور الشيعيّ للعقيدة المهدويَّة من الانتظار إلى تمهيد الأرض لقدومه، مما يعني إشعال الحروب في المنطقة، والتوسّع في السيطرة على مقدّرات دول الجوار، ودعم الطائفة الشيعيَّة في بقاعٍ شتى في الشرق والغرب على حساب الأكثريَّة السُّنّيَّة وعلى حساب الدولة الوطنيَّة. فلم تكُن الثورة الإيرانيَّة بمثابة انقلاب على الدولة الوطنيَّة والتعدّديَّة السياسيَّة فقط، بل أيضًا على مستقرّات المذهب الشيعيّ، وخطوطه الرئيسيَّة، وقواعده العامّة الكلّيَّة، «فقلبت موازين القوى داخل المنظومة الفكريَّة الشيعيَّة في شقّها السياسيّ والاجتماعيّ، فما بعد الخميني ليس كما قبله»[11].
فبعد أن كان المهديّ عقيدة شيعيَّة مدعاة للسكون والخضوع والابتعاد عن العمل السياسيّ في الأعراف الشيعيَّة، صارت عقيدة المهديّ مدعاة للثورة والخروج والاقتتال والتدخّل في الدول الأخرى، لتهيئة الأرض لقدومه[12]. وبعد أن كان الفقه الكلاسيكيّ الشيعيّ يؤمن بعقيدة الانتظار وأنّ المهديّ هو الذي سيُقيم دولة العدل، وأنّ التمهيد لظهوره يكون فقط بالانتظار، وأنه كلّما مُلئت الأرض ظلمًا كان ذلك مدعاة لخروجه كي يملأها عدلًا، صار الفقه الثوريّ الخمينيّ يؤمن بفكرة التثوير تمهيدًا لظهوره، وأنه لا بُدّ من نُصرة المستضعفين في كلّ مكان، تمهيدًا لظهوره. فالانتظار في القراءة الخمينيَّة هو العمل والتمهيد والإعداد للظهور، وذلك بإقامة الدولة في عصر الغيبة[13]، وهو التفسير الذي لم يكن موجودًا طيلة أربعة عشر قرنًا من الزمان، منذ نشأة التشيّع في العصر الأوَّل وحتى قراءة الخميني لمفهوم الانتظار. فقد أمدّ الخميني التشيعَ السياسيّ بديناميَّة وحركيَّة، بعقيدة المهديّ المنتظَر عبر التفسير السياسيّ للدين وعَقْدَنة المذهب[14]، وهو ما يُعَدّ خللًا منهجيًّا وعلميًّا، أو ما يُسمّيه البعض بنظريَّة «الوثبة الفجائيَّة»، ويُقصَد بنظريَّة الوثبة الفجائيَّة الانتقال بين عناصر العلم وحقوله، بل ربما عناصر الموضوع ذاته دون وسائط أو روابط توثّق الصلات بين حلقاته، فيحدث الانتقال من نتيجة إلى نتيجة، ومن مقدمة إلى نتيجة، دون أيّ براهين قطعيَّة وأدلّة يقينيَّة، لا سيّما إذا كان البحث في المجال العقائديّ الذي لا يحتمل الظنّ[15].
هذه النظريَّة تتجلّى في البحث المهدويّ عند الشيعة، فنجد رفضًا لاستخدام العقل أمام افتراضات موروثة أُقحمت في البحث المهدويّ. فيُقال بأنّ الأرض لا يجوز أن تخلو من إمام، أي من حكومة ودولة، وأن الإمام -الرئيس أو الخليفة أو القائد- يجب أن يكون معصومًا ومعيَّنًا من قِبَل الله، ثمّ الانتقال إلى نظريَّة الغيبة والانتظار، التي تؤيد فكرة غيبة الإمام المعصوم. والسؤال هو: لماذا يغيب ويختفي ولا يظهر ليقود المسلمين ويؤسّس الحكومة التي لا بدّ منها، ما دام أنّ الأرض لا يجوز أن تخلو من إمام؟ فالغيبة إذًا تناقض صارخ -بعبارة المفكّر الشيعيّ أحمد الكاتب- مع وجود الإمام الذي يفترض أن يتصدّى لقيادة المسلمين، ولا يجوز له أن يغيب عن الساحة، كالوجوب العقلانيّ لوجود ضبّاط المرور في التقاطعات والمحاور والميادين، وأنّ غيابهم يُعَدّ تناقضًا تامًّا مع قاعدة «لا بُدّ من تعيين الدولة لضبّاط المرور»، ولا يفيد وجودهم خلف ستار دون قيامهم بمهامّهم. فرفضوا استخدام العقل هنا مع أنهم استخدموه في مقدّمات من قبيل: «ضرورة وجود الإمام»، و«ضرورة كونه معصومًا»، و«ضرورة كونه معيَّنًا من قِبَل الله»[16]. فهذه الفجوات ومناطق الفراغ العلميَّة والمنهجيَّة هي ما تُسمّى بنظريَّة الوثبة الفجائيَّة، وهي من أمارات الخلل المنهجيّ الذي يحدث من خلاله الالتفاف على الحقيقة العلميَّة لإيهام المتلقي بما ليس كائنًا في نفس الأمر. أيضًا هُم يقرّرون وجوب وجود وظهور الإمام من أجل إقامة العدل كي تمتلئ الأرض عدلًا كما مُلئت جورًا، ومن أجل تطبيق الشريعة الإسلاميَّة وقيادة المسلمين، والإفتاء لهم وحلّ مشكلاتهم التشريعيَّة[17]، ويقفزون على الحقيقة التاريخيَّة أنّ الأئمَّة حتى في حياتهم لم يشاركوا في الحكم والسياسة، وأنّ إمامتهم كانت إمامة دعوة وإرشاد[18]. فكيف يُجمَع بين الأمرين؟ وهو ما جعل المدرسة النجفيَّة تتمسّك بفلسفة «الانتظار» حتى اليوم، وعندما حاجج الخميني آية الله محسن الحكيم سنة 1965م وطلب منه اتخاذ موقف ضدّ الشاه والسفر إلى إيران للاطلاع على الأوضاع بنفسه، قال له الحكيم: «وما الذي يمكننا عمله؟ وما تأثير ذلك؟»، فقال الخميني: «له أثر قطعًا، فنحن بهذه الانتفاضة أوقفنا المخطّطات الخطيرة للحكومة، كيف لا أثر له؟! إذا اتّحد العلماء فسيكون ذلك مؤثرًا»، فقال الحكيم: «إن كان فيه احتمال عقلانيّ فلا بأس بالتحرك بطريقة عقلانيّة». ومما قاله الخميني للحكيم: «ألم تقدّم ثورة الحسين بن علي -عليه السلام- خدمة مؤثرة للتاريخ؟»، فقال الحكيم: «وماذا تقولون عن الإمام الحسن، إنه لم ينهض؟»، فقال الخميني: «الحسن لم يجِد الأنصار»، فقال الحكيم: «وأنا لا أرى عندي من يطيعني»[19].
واستمرّ هذا النهج من حوزة النجف حتى اليوم، الذي لا يرى قراءة الخميني للمنظومة الشيعيَّة بأكملها، ولا يرى أهليَّة الفقهاء للحكم والبروز للشأن السياسيّ، فضلًا عن التصادم بين رجال الدين والسلطة، ومن ثَمّ بقي المهديّ هو المخوَّل فقط بشؤون الحكم والحدود وإدارة الدولة، ومن ثَمّ بقيت عقيدة الانتظار ثابتة لا تتبدّل، بخلاف الخميني الذي يرى وجوب تصدّر الفقيه في الشأن العامّ والحكم، وأنّ عليه واجبات تمهيد الأرض لظهور المهديّ، وأنه نائب عن المهديّ طيلة فترة غيابه.
إحلال نظريَّة «التمهيد» محلّ نظريَّة «الانتظار»:
كان للانقلاب على الميراث الفقهيّ والعقديّ في الدرس الحوزويّ أثر كبير على مسار التشيّع برمّته، إذ حلّت -بذكاء تامّ- نظريَّة «التمهيد» محلّ نظريَّة «الانتظار» في الحوزة الدينيَّة بمدينة قم[20]، ومن ثَمّ فتفريخ العلماء سيكون وفقًا لتلك النظريَّة، وقد حدث ذلك بموازاة مأسسة نظريَّة التمهيد/ القراءة الخمينيَّة في مؤسسات الدولة التعليميَّة والثقافيَّة والتربويَّة. هذا التحوّل، بل الانقلاب، في الفكر العقديّ الشيعيّ الموروث والمستقرّ لما يقرب من ألف سنة يبرّره الخميني بقوله: «قد مرّ على الغيبة لإمامنا المهديّ أكثر من ألف عام، وقد تمرّ ألوف السنين قبل أن تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظَر. في طول هذه المدة، هل تبقى أحكام الإسلام معطلة، يعمل الناس خلالها ما يشاؤون؟ ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ هل ينبغي أن يخسر الإسلام من بعد الغيبة الصغرى كل شيء؟ الذهاب إلى هذا الرأي أسوأ في نظري من الاعتقاد بأنّ الإسلام منسوخ»[21]. وهذا النصّ خطير جدًّا في التبرير العقلانيّ للانقلاب على الموروث العقديّ والدرس الدينيّ المستقرّ، وبإقرار من الخميني نفسه للأسباب التي ذكرها، وهي في مجملها عقلانيَّة وليست نصوصيَّة، مما يتيح له القفز الفلسفيّ على مستقرّات المذهب[22]، وعلى أقوال الفقهاء القدامى الذين هم بمثابة أعمدة المذهب.
ونلاحظ كذلك أنه أدمج الإسلام بالمذهب واختزلهما، «هل ينبغي أن يخسر الإسلام من بعد الغيبة الصغرى كلّ شيء؟»، وبرّر بهذه العبارةَ التحوّلُ الخطير الذي حدث، مع أن فقهاء الاثنا عشريَّة القدامى عملوا على صناعة مخرجات لتلك الإشكاليَّة التي استخدمها الخميني، أو على الأصحّ لم تكن هي بمثابة الإشكاليَّة عندهم لأنهم تعاملوا مع الواقع، فأجازوا الخضوع والتعامل مع السلاطين والانطواء تحت الدولة القائمة وعدم مواجهتها بأيّ نوع من أنواع المواجهة، وعَدّوا هذا الموقف مبدئيًّا لا تكتيكيًّا لقوّة القول بالغيبة ووجوب الانتظار[23]، بخلاف الخميني ومدرسته الذين قرؤوا هذا الموقف بأنه تكتيكيّ وليس استراتيجيًّا، تبريرًا وتمريرًا للقول بولاية الفقيه. فالشريف المرتضى[24]، وهو من أعلام القرن الخامس الهجريّ وأحد أكبر فقهاء الشيعة الإماميَّة، يقول: «ليس علينا إقامة الأمراء، إذا كان الإمام مغلوبًا، كما لا يجب علينا إقامة الإمام في الأصل، ليست إقامة الإمام واختياره من فروضنا فيلزمنا إقامته، ولا نحن مخاطبون بإقامة الحدود فيلزمنا الذمّ بتضييعها»[25]. فالتكليف مُنتفٍ أصلًا لتنصيب الإمام بعبارة المرتضى، لأنّ تلك المُهِمَّة هي من مهامّ الأئمَّة المعصومين الذين حُدّدوا سلفًا -في الرؤية الاثنا عشريَّة- فليس لبشر أن يتدخّل في تلك العمليَّة الإلهيَّة المحضة، فالاختيار إلهيّ والتنصيبُ إلهيّ كذلك[26]. وفي حالة غياب المعصوم ليس عليهم سوى الانتظار لأنه المُخَلِّص. وهذا الخطّ كان هو الخطّ الرئيسيّ للتشيع الإماميّ قديمًا وحديثًا حتى هذا التحوّل الطارئ الذي حصل على يد الخميني[27].
إذًا، كان بإمكان الخميني أن يُدمج عموم الشيعة في الدول السنّيَّة والوطنيَّة الحديثة، سيرًا على منهج الشريف المرتضى وعموم فقهاء الشيعة، بل وعموم الأئمَّة المعصومين الذين اندرجوا في أجهزة الدولة الأمويَّة والعباسيَّة ولم يؤسسوا لثنائيَّة «نحن والدولة»، لكنه فضّل الانقلاب على الإرث الشيعيّ تمهيدًا للقول بولاية الفقيه، فلولا قوله بفساد عقيدة الانتظار ما وُجدت ولاية الفقيه.
المهديّ في التجاذبات السياسيَّة:
لم تُستغلّ فكرة المهديّ فقط في السياسة الخارجيَّة للدولة الإيرانيَّة، ولا بين رجال الدين والفقه في الدرس الحوزويّ فقط، بل كانت عاملًا من عوامل التجاذب السياسيّ بين قادة العمل السياسيّ في الداخل الإيرانيّ أيضًا، لكسب أصوات الجماهير وتأييدهم، ولترجيح فريق على آخر في العمليَّة السياسيَّة، ومن ثَمّ نزلت مسألة المهديّ من كونها عقيدة إلى كونها أداة ضغط وتجاذب واستغلال سياسيّ بين الفرقاء السياسيين من نفس المنهج والمذهب.
ففي الانتخابات الإيرانيَّة الأخيرة كان المهديّ أداة توظيف سياسيّ ومحلّ تجاذب في الانتخابات الرئاسيَّة، فنشرت عدّة صحف محسوبة على التيّار المحافظ أن انتخاب حسن روحاني للرئاسة يؤخّر ظهور المهديّ[28]. وفي عهد أحمدي نجاد حاول التلاعب بفكرة المهديّ والضغط على معارضيه من جماعات الضغط والمجتمع الحوزويّ من خلالها، مما أزعج رجال الدين أنفسهم. فقد أقام أحمدي نجاد أول مؤتمر دوليّ بشأن «العقيدة المهدويَّة»، وجاء عقد المؤتمر بعد خطاب أحمدي نجاد في الأمم المتحدة الذي طرح فيه فكرة المهديّ. وفي تصريحات له عقب المؤتمر قال: «ليس لديّ شكّ في أنّ شعب الجمهوريَّة الإسلاميَّة يستعدّ لعودة الإمام الغائب، وبإرادة الله فإننا سنشهد ظهوره قريبًا»[29]. ويقول في أحد خطاباته: «ومسؤوليتنا أن نقيم في إيران مجتمعًا نموذجيًّا يكون مقدّمة لذلك الحدث العظيم/ ظهور الإمام». وبحسب الصمادي فإنّ قضيَّة المهدويَّة لا تنفصل عن مجمل التنافس والتجاذب السياسيّ في إيران، وتتجاوز في حقيقتها الجوانب العقائديَّة لتصل إلى صراع النفوذ والقوة في إيران[30].
واتّهم المعارضون لأحمدي نجاد إيّاه بالترويج لفكرة المهديّ لتحقيق مآرب سياسيَّة، إذ أنتج فيلمًا عن المهديّ في عهده [يُتردّد بأنّ التيّار النجاديّ يقف وراءه]، ويخرج بنتيجة مفادها أنّ خامنئي ونجاد من جنود المهديّ، وهما اللذان سيسلّمان له الراية. ويُسقِط الفيلم روايات شيعيَّة على شخصيَّة خامنئي ويرى أنه هو السيد الخراساني صاحب الجيش القويّ الذي سيسلّم الراية إلى المنجى الموعود، وأنّ أحمدي نجاد هو شعيب بن صالح الذي يقود حربًا ضد الفساد وينتصر على جيش السفيانيّ ويمهّد الأرض لظهور إمام الزمان[31]. فاعترض آية الله مكارم الشيرازي، وغيره من الآيات، على الفيلم وقال إنه من شأنه أن «يوجّه لطمة إلى معتقدات الناس وإيمانهم بالمهدويّة، وهو كذب محض»[32].
وفي تسجيل منسوب إلى أحمدي نجاد وهو يتحدث إلى المرجع الدينيّ آية الله جوادي آملي قال إنه أحسّ بحضور إمام الزمان وبهالة من النور تحيط به عندما كان يتحدث في الأمم المتحدة، وقد قوبل كلامه بكثير من النقد[33]، فقد اتهمه كثير من رجال الدين باستغلال عقائد الناس الدينيَّة لأهداف سياسيَّة، ودافع نجاد في المقابل عن توظيف هذه الفكرة لأغراض سياسيَّة[34].
ويزعم ممثل الوليّ الفقيه لإدارة شؤون مسجد «جمكران» في قم، والرئيس السابق لمنظمة الشهيد الإيرانيّ محمد حسن رحيميان، أنه كان شاهدًا على لقاءات سرّيَّة بين المرشد الأعلى الإيرانيّ علي خامنئي والإمام المهديّ، موضحًا أنّ عدد اللقاءات كان 13 مرة، في سرداب مسجد جمكران في مدينة قم. وقال بأنّ خامنئي يستلهم بصيرته وحكمته من خلال لقاءاته المستمرّة بالإمام الثاني عشر. وكان ذلك في أثناء حرب 2006م بين حزب الله وإسرائيل، وأنه طلب من المهديّ أن ينصر حسن نصر الله في تلك الحرب على إسرائيل[35].
وزعم أيضًا آية الله مكارم الشيرازي أنّ سرّ النجاحات المتتالية للمرشد الأعلى هو علاقته الوثيقة والمتواصلة في أحد مساجد قم مع الإمام المهديّ[36]، إذ يساعده في إدارة البلاد[37]، مع أن مكارم الشيرازي نفسه اعترض على استغلال نجاد لمسألة المهديّ سياسيًّا لكسب القواعد الجماهيريَّة. وهذا كله له جذور في عهد الخميني نفسه، حتى إنّ بعض التأييد الحماسيّ لحكم الخميني أتى من الاعتقاد واسع الانتشار بأنه حقًّا من سلالة النبيّ محمد [صلى الله عليه وسلم]، لذا فقد يكون هو المهديّ الذي طال انتظاره[38].
على خُطى الصفويين:
وهذا الخطّ الذي سار فيه الملالي والآيات في طهران هو خطّ الصفويين القدامى، فالشاه إسماعيل الصفوي ادّعى لقاءه بالمهديّ في كهف مدينة تبريز، وقال له: «لقد حان وقت الخروج، اذهب فقد رخّصتك»، وادّعى كذلك رؤيته للإمام علي وأنه نائب المهديّ في غيبته[39]. فحاولت الدولة الصفوية تقديم نفسها كدولة عقائديَّة ومرتبطة بالأئمَّة الاثنَي عشر، وطوّر الشاه إسماعيل أو تطوّر على يديه فكر سياسيّ جديد مثّل تطورًا انقلابيًّا في الفكر السياسيّ الشيعيّ، وحاول الالتفاف على فكر «التقية والانتظار»، فادّعى أنه أخذ إجازة من «صاحب الزمان: المهديّ» بالثورة والخروج ضد أمراء التركمان الذين كانوا يحكمون إيران، وبينما كان ذات يوم مع مجموعة من رفقائه الصوفيَّة خارجين للصيد في منطقة تبريز مرّوا بنهر فطالبهم بالتوقف عنده، وعبر هو النهر ودخل كهفًا، ثم خرج متقلدًا سيفًا وأخبر رفقاءه أنه شاهد في الكهف «صاحب الزمان»[40]، وأنه قال له: «لقد حان وقت الخروج»، وأنه أمسك ظهره ورفعه ثلاث مرات، ووضعه على الأرض وشدّ حزامه بيده ووضع خنجرًا في حزامه، وقال له: «اذهب فقد رخّصتك»[41].
فإذا كان الشاه الصفوي يقابل المهديّ، وإذا كان الخميني يقابل المهديّ، وإذا كان خامنئي يقابل المهديّ، إذًا فهذه الأنظمة شرعيَّة، وحروبها حروب مقدَّسة، وهي حكومات إلهيَّة يجب الإذعان لها لأنّ الصبغة الإلهيَّة تصبغها، وهي المتفرّدة بحفظ معالم الدين، وأيّ ردّ عليها أو مناقشة لسياستها سيكون ردًّا على المهديّ شخصيًّا، ومن ثَمّ سيكون ردًّا على الله. تلك هي الرسالة التي تصل إلى العوامّ والناس بانتشار أخبار لقاء الآيات والقيادات بصاحب الزمان/ المهديّ.
وهذه المزاعم خارجة، لا عن المعقوليَّة فحسب، بل عن منظومة الفقه الشيعيّ نفسه، التي تنكر رؤية الإمام في عصر الغيبة، فضلًا عن مجالسته والاسترشاد به، مما يؤكد ذلك التحريف الذي أُدخل على المذهب وتوظيفه سياسيًّا، مستغلّين العقائد الشيعيَّة في التوظيف والتمرير السياسيّ، كما فعل الصفويون والقاجاريون من قبل.
وهذا النهج الذي يتبعه الساسة ورجال الدين الإيرانيون يعولون عليه لتمرير مخططاتهم الداخليَّة والخارجيَّة، «فالرادّ على الفقيه كالرادّ على المعصوم، والرادّ على المعصوم كالرادّ على الله»، ومن ثَمّ فالسياسة والحروب والتوسع وأيّ شيء إنما هو نابع من إرادة الإمام الممثلة في إرادة المرشد. ومن ثَمّ فإنّ دخول الحرب السوريَّة والتمدّد في الشام إنما هو بإرادة الإمام الغائب، تنفيذًا لأوامره وتوجيهاته، كي تتهيّأ الأجواء لظهوره، إذ من دلالات ظهوره مقتل أكثر من مئة ألف إنسان في دمشق وما حولها[42]، وتدمير جامع الأمويين في دمشق، ومن ثَمّ فالحرب السوريَّة لها طابع دينيّ وطائفيّ، إذ يرتبط مستقبل الشيعة ومعتقداتها بتلك الحرب.
وفي خلال لقاء الشيخ علي سعيدي، ممثل المرشد لدى الحرس الثوريّ، بقيادات في الحرس الثوريّ قال: «إنّ الثورة الإسلاميَّة تهيّئ الساحة الدوليّة لظهور الإمام المهديّ، واليوم نحن نقف على أعتاب هذه المرحلة التي سيظهر فيها»[43]. وقال: «اليوم هناك معسكران يعملان بكلّ قوّة لمنع ظهور المهديّ، الأول: هو المعسكر الخارجيّ بقيادة أمريكا، والثاني: هو المعسكر الداخليّ الذي يتشكّل من الليبراليين والعلمانيين، إذ إنّ هذا المعسكر من الصعب جدًّا معرفة مواقفه لأنه يتخفى بغطاء النفاق»[44].
ونلاحظ في مثل هذا الخطاب تبرير القمع الداخليّ ضد المعارضين السياسيين لأنهم ليبراليون وعلمانيون ضدّ المهديّ ومبادئه، وتبرير التوسع الخارجيّ في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغيرها، لتمهيد الأرض لظهور المهديّ، ولمنع القوى الإمبرياليَّة من اعتقال المهديّ أو قتله[45].
ويمكن تلخيص واستقراء بعض مجالات التوظيف السياسيّ للمهديّ، في النقاط التالية:
الزجّ بالشباب إلى ساحات المعارك. خطابات الرؤساء للتأثير على قدرة الناخبين. خطابات المرشد لصبغ اجتهاداته بالقدسيَّة. التوسّع في المنطقة باسم المهديّ، تمهيدًا له. شَغْل الجمهور بقضايا جدليَّة، وخرافيَّة، ومعارك هامشيَّة على حساب المشكلات الحقيقيَّة الداخليَّة.
وأهمّ نقطة هي تخدير الشعب الإيرانيّ والشيعة عمومًا بوجوب التحمّل والانتظار، والمشاركة في تمهيد الأرض وتحضيرها لظهور المهديّ، والسير مع السلطات التي تحكم باسم المهديّ تسريعًا لوتيرة ظهوره، ففي خطاب الخميني بتاريخ 15 شعبان 1400هـ [28 سبتمبر 1980م]، قال: «إنّ قضيَّة غيبة الإمام هي قضيَّة مُهِمَّة، تبيّن لنا أمورًا من بينها أنه لم يكن لإنجاز عمل عظيم كهذا، وهو تطبيق العدالة بمعناها الحقيقيّ في العالم بأسره بين جميع بني الإنسان، سوى المهديّ المنتظَر، سلام الله عليه، فكل نبيّ إنما جاء لإقامة العدل وكان هدفه تطبيقه في العالم كله لكنه لم ينجح، وحتى خاتم الأنبياء الذي كان قد جاء لإصلاح البشر وتهذيبهم وتطبيق العدالة فإنه أيضًا لم يوفَّق، وإنّ مَن سينجح بكلّ معنى الكلمة ويطبّق العدالة في جميع أرجاء الأرض هو المهديّ المنتظَر»[46].
فإذا كان الأنبياء لم يحققوا العدالة الكاملة فيجب على الشعب أن لا ينتظر منا تحقيق العدالة الكاملة، وأن يلتفّ حولنا مهما حصلت تجاوزات في عناصر العدالة والمساواة، سعيًا إلى تمهيد الأرض لظهور المهديّ الذي سنكون جميعًا جندًا من جنوده لتحقيق العدالة الكاملة. هذا لسان حال الخميني بالطبع، في هذا الخطاب التخديريّ للجماهير.
منع اغتيال المهديّ:
يسعى الساسة ورجال الدين في إيران إلى ممارسة سياسات بعينها تحت غطاء منع «اغتيال المهديّ»، فالتلفزيون الرسميّ الإيرانيّ يتّهم السعوديَّة بالتخطيط لاغتيال المهديّ لحظة ظهوره عن طريق القنّاصة المتمركزين على الأبراج المحيطة بالكعبة، مطالبًا بأن يكون هناك تحرّك إيراني لمنع اغتيال المهديّ من قبل السعوديَّة[47].
ويقول أحمدي نجاد بأنّ الدول الغربية تسعى لاغتيال الإمام المهديّ، فقال: «يجب على الشعب الإيرانيّ أن يضع يده في يد الإمام المهديّ. لسنا وحدنا من يحاول تتبّع الإمام المهديّ، بل إنّ كل الدول الأوروبيَّة والولايات المتحدة الأمريكيَّة سبقتنا بخطوات عديدة للبحث عن مكان الإمام المهديّ، وموعد ظهوره. إنّ البحوث والدراسات التي كُتبت وأُنتجت في الجامعات الأمريكيَّة عن الإمام المهديّ تعادل أضعاف البحوث والدراسات التي كُتبت عن المهديّ في الحوزات الشيعيَّة في قم والنجف. إنّ الاستخبارات الغربية التقت بعديد من الشخصيّات الإسلاميَّة التي تلتقي بالإمام المهديّ سرًّا، وفرغت كلّ المعلومات التي تمتلكها هذه الشخصيات عن الإمام المهديّ، وأصبح ملف الإمام جاهزًا لاعتقاله»[48].
ونلاحظ أنّ هذا التبرير يمثّل غطاء للسياسة الإيرانيَّة في التدخل في شؤون الدول الأخرى بزعم أنها تسعى لاعتقال المهديّ، علاوة على توظيف داخليّ من نجاد ضد مناوئيه لاستدرار تعاطف العوامّ والمتشدّدين.
والتخويف من اغتيال المهديّ أو قتله وتوظيف ذلك سياسيًّا، استُقي من روايات ضعيفة قديمة، فهناك رواية تاريخيَّة تتحدث عن محاولة المعتضد العباسيّ القبض على المهديّ وإرساله ثلاثة من الشرطة وذهابهم إلى بيت الإمام الحسن العسكريّ -والده- في سامراء، ورؤيتهم في البيت بحرًا من الماء ورجلًا على حصير على الماء، قائمًا يصلي، وغرقهم عند محاولتهم التقدم نحوه للقبض عليه، ثمّ اعتذارهم وتراجعهم[49].
فيبدو أن تلك الروايات الضعيفة والخرافيَّة ألهمت الزعماء في إيران لاستغلالها وإعادة إحيائها وترميمها، ولكن هذه المرّة ليس ضد العباسيين، بل ضد العرب والأمريكان وغيرهم.
لكن هنا مجموعة من الأسئلة تبحث عن إجابات ولا يمكن التغاضي عنها منهجيًّا، من قبيل: لماذا لا يفترض الشيعة موت المهديّ في سردابه[50] ومخبئه، وأنه قد حان أجله في وقت من الأوقات، كما مات آباؤه وأجداده من قبل؟ وهل العصمة تقتضي التخليد إلى أرذل العمر؟ وهل كونه وُلد واختبأ بعيدًا عن السلطات وقتئذ يقتضي أن يُخلَّد ولا يمسّه الموت؟ هذا السؤال قد يكون محوريًّا حتى عند كثير من الشيعة أنفسهم، مما يجعل رجال الدين يزعمون لقاء المهديّ ومقابلته وأخذ مشورته. ولماذا لا يفترضون، افتراضًا عقلانيًّا، أنّ القوّة الإمبرياليَّة التي يتّهمونها بـأنها تسعى لاعتقال المهديّ قد اعتقلته أو اغتالته؟ أليس هذا واردًا وعلى ألسنتهم وفي أدبيّاتهم؟
وعلى فرض وجود المهديّ أو ظهوره، فلماذا دومًا الافتراض أنه سيُقيم العدل أو يشارك في الحكم أو يؤسس دولة، مع أنّ الأئمَّة من قبله وبإجماع الشيعة أنفسهم لم يشاركوا في الحكم ولم يقيموا دولة، ولم يعتنوا بالجوانب السياسيَّة، بل غاية أمرهم ممارسة التقية حسب روايات الشيعة، فلماذا دومًا الافتراض أنّه بظهوره سوف تتبدّل الأحوال ويتغيّر العالم؟ وإذا كانت إيران تسير في ضوء توجيهات الإمام الغائب فواقع سياستها الداخليَّة والخارجيَّة والقمع الذي تمارسه والإرهاب الذي تصدره دليل قاطع على زيف أطروحة دولة العدل ونحو ذلك من فلكلورات تُستعمل لدغدغة مشاعر الجماهير.
وإذا كان المهديّ قد اختفى في الأصل خوفًا على حياته وهو صبيّ صغير، فلماذا لم يظهر عندما كبر وبلغ؟ وإذا استمرّ الخوف على نفسه من الظهور في أثناء كبره فمَن يضمن عدم قتله إذا ظهر[51]؟ وهل مهديّ يتسم بالخوف والجبن ولجأ إلى التستر والسراديب وخاف من قتل العباسيين قديمًا ومن اعتقال الأمريكان حديثًا، يمكن أن يقود المعارك ويخاطر بحياته؟ وهل كل تلك المعارك التي تخوضها الدولة الإيرانيَّة كي يظهر المهديّ تستحقّ أن تُسفَك فيها الدماء وتُشرذَم فيها المنطقة؟ وهل ظهوره غاية في ذاته أم من أجل العدل والحرّية والكرامة؟ هذه كلّها أسئلة لا إجابات لها[52]، وفجوات منهجيَّة يقفزون عليها ويرمّمونها بروايات ضعيفة، أو تبريرات عقليَّة لا طائل من ورائها في مقام عقديّ خطير، يؤثر على العوامّ، ويثير عواطف الجماهير، فتكون الحرب عقديَّة، ويكون سفك الدماء عقيدة، ويكون التغلغل في شؤون الدول الأخرى عبادة في المنظور الآيديولوجي.
القفز على الحقائق التاريخيَّة:
فكرة الدولة المهدويَّة هي في الأساس مصادمة للدرس الفقهيّ الشيعيّ، وممارسة أئمَّة الشيعة المعصومين في الأطروحة الاثنا عشريَّة، فلا الظاهرة الروائيَّة ولا الظاهرة التاريخيَّة تدعم القول بممارسة السياسة للإمام المعصوم أو إقامته لدولة العدل. فالثابت تاريخيًّا أنّ الأئمَّة المعصومين لم يمارسوا العمل السياسيّ، بل اتخذوا سبيل العزلة السياسيَّة أو التوجّه نحو الاعتكاف والعبادة بعيدًا عن السياسة. ولذلك ذهب بعض مفكّري الشيعة إلى أن الأئمَّة كانوا أئمَّة في الدين والدعوة والفقه لا في الحكم والسياسة[53]. وعلى سبيل المثال فالإمام الرابع علي زين العابدين رغم أنه عاصر يزيد بن معاوية، وعاش فترة الحجاج بن يوسف، فإنه لم يشارك في السياسة، ولم يدعُ الناس إلى الخروج على الدولة، واعتزل الدنيا وزهد فيها، وكان مسالمًا للأمويين، ومقربًا من الخليفة عبد الملك بن مروان[54]. وقد سُمي السجّاد لكثرة سجوده ودعائه، وجُمعت أدعيته باسم «الصحيفة السجّادية». وهذا الخطّ الذي رسمه علي زين العابدين هو خطّ الحسن بن عليّ، أي إنّه قدّم الدعويّ على السياسيّ، والدينيّ على الحركيّ، وهذا يعني أن الإمامة كانت إمامة هداية وإرشاد فقط، وليست زعامة سياسيَّة[55]. وقد كان للإمام السجّاد ولدان، أحدهما محمد ولُقّب بالباقر، والآخر زيد. وقد كان زيد الأصغر سنًّا وتتلمذ على واصل بن عطاء مؤسس دعائم العقلانيَّة المعتزليَّة، فتأثر به، وجاءت نظريّته في الإمامة مطبوعة بطابع عقلانيّ واقعيّ، بالنسبة إلى التيّار الشيعيّ العامّ، بعيدًا عن الميثولوجيّات، بتعبير الجابري[56]. لكن جمهور الشيعة الإماميَّة اختاروا محمدًا الباقر إمامًا بعد أبيه ولم يختاروا زيدًا، فكان زيد ينكر إمامة أخيه الباقر، ويَعُدّ نفسه أحقّ بالإمامة، وكان يرفض منهج أخيه في التنسّك والعبادة والبعد عن السياسة، وكان يقول: «ليس الإمامُ منّا من جلس في بيته، وأرخى ستره، وثبط عن الجهاد، ولكن الإمام منا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حقّ جهاده ودفع عن رعيته، وذب عن حريمه»[57]. لكن الشيعة الإماميَّة رفضوا أطروحة زيد ومشاركته السياسيَّة ودعوته للخروج على الدولة.
ثمّ تمرّ القرون ويأتي الخميني ليُثَوّر المذهب الاثنا عشريّ رغم أن الإجماع الشيعيّ الاثنا عشريّ نبذ هذا النهج من قبل وفي حياة الأئمَّة أنفسهم. ونجد في عهد الإمام الثامن علي بن موسى الرضا [153-203هـ] أنه كان وليًّا لعهد الخليفة المأمون، إذ بايع المأمون وصار وليًّا لعهده[58]. ومن ثَمّ ندرك أنّ التشيّع الخميني يقفز على الظاهرة التاريخيَّة ولا يُحدّد مواقع أو مناطق الفراغ المنهجيَّة، بمعنى أنّه استدلّ بإمامة الأئمَّة دون أن يُحدّد هل هي إمامة دعوة أم إمامة دولة، ثمّ سحب عصمة الأئمَّة لتشمل الفقهاء، ثمّ قرر -فقهيًّا وأصوليًّا- الحكم نيابة عن الإمام المعصوم، وجعل الرادّ على الفقيه كالرادّ على المعصوم والرادّ على المعصوم كالرادّ على الله. ثم جعل التمهيد لإقامة الدولة المهدويَّة فرضًا دينيًّا، في مصادمة للفقه الكلاسيكيّ الشيعيّ، وانقلاب عليه، الذي قامت عليه أُسس النظريَّة الإماميَّة من حيث اشتراط العصمة والنصّ في الإمام، واستلاب واغتصاب دور المهديّ المنتظَر[59].
المهديّ في المرويّات:
بدأت فكرة المهدويَّة مبكرًا منذ عهد الإمامِ علي رضي الله عنه، فعندما مات رفض جماعة من أتباعه التصديق بوفاته وقالوا: «إنّ عليًّا لم يُقتل ولم يمُت، ولا يقتل ولا يموت حتى يسوق العربَ بعصاه ويملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت جورًا وظلمًا»[60].
وبعد وفاة محمد بن الحنفيَّة[61] سنة 81هـ انقسم الشيعة إلى فرقتين: فرقة تزعم أنه لم يمُت وإنما شُبّه للناس، وشُبّه لحفيد أخيه محمد الباقر الذي زعم أنّه دفنه بيده. وفرقة أخرى قالت بوفاته وزعمت أنّ محمدًا الباقر هو الإمام الخامس، وقد استتبّ الأمر له بعد وفاة ابن الحنفيَّة[62]. وبعد وفاة محمد بن الحنفيَّة تصدّر ابنُه أبو هاشم كقائد للشيعة في وجه الأمويين، ولكن سرعان ما توفي دون أن يظهر، فزعمت شيعته وأنصاره أنه المهديّ المنتظَر، وأنه حيّ ولم يمُت[63]. وكذلك زعموا أنّ محمد النفس الزكية [100-145ه] هو المهديّ المنتظَر، لأنه كان يُشبه النبي صلى الله عليه وسلم في الخُلق والخَلق واسمه واسم أبيه، وكان عندما يركب دابّته يتصايح الناس: المهديّ المهديّ[64].
وكذلك بعد وفاة جعفر الصادق اختلف الشيعة هل وصّى الصادق أن يخلفه ابنه الأصغر موسى الكاظم أم ابنه الأكبر إسماعيل، فذهب بعضهم إلى أنه عيّن موسى الكاظم، وقال آخرون بل عيّن ولده الأكبر إسماعيل، «وسُمّي هؤلاء الإسماعيليَّة»، ثم قال بعضهم بأن إسماعيل هو المهديّ المنتظَر[65].
وزعم بعض الشيعة أنّ موسى بن جعفر الكاظم هو المهديّ، وزعم بعضهم أنّه يراسله ويُكاتبه ويقابله. لكن علماء من الاثنا عشريَّة رفضوا هذا الكلام لأنّ موسى «مات ظاهرًا ورآه الناس ميتًا ودُفن دفنًا مكشوفًا ومضى على موته أكثر من مئة وخمسين سنة لا يدّعي أحد أنه يراه، ودعواهم أنه حيّ فيه تكذيب الحواسّ التي شاهدته ميتًا»[66]. وإذا كان موسى بن جعفر مات ظاهرًا ورآه الناس ميتًا مكشوفًا ومضى على موته مئة وخمسون سنة فإنّ ولادة المهديّ ابن الحسن العسكريّ لم تكن واضحة ولا جليَّة لعموم الناس في تلك المرحلة، ولو كانت ولادته واضحة لظهر للعيان، وما اختلفوا حوله. ونلاحظ أن النوبختي استدلّ على معقوليَّة غيبة المهديّ بعدم تجاوزها الحدّ المعقول والطبيعيّ للغيبيّات المتعارفة [يقصد ثلاثين سنة في وقته]، لكن قد طالت الغيبة بعد وفاة النوبختي بمئات السنين [وصلت الآن إلى 1178 سنة]، وهذا في ذاته تجاوز للحدّ المعقول على مذهبهم، مما ألجأ متكلّمي الشيعة إلى استحداث أدلّة تعبويَّة جديدة والتوسل بأدوات عرفانيَّة وفلسفيَّة لردم هذه الهوّة الكبيرة. ونلاحظ أنّ متكلّمي الشيعة الاثنا عشريَّة يستدلّون كل برهة من الزمن بأدلة جديدة على المهديّ الغائب، كما نلاحظ أنه بعد رحيل كل إمام أو فقيه شيعيّ تظهر فرق شيعيَّة جديدة تزعم أنه هو المهديّ، وصاحَب ذلك مجموعات من وضّاعي الأحاديث والمغالين ممن لهم مصالح سياسيَّة ودنيويَّة. فبعد وفاة موسى الكاظم [الإمام السابع] توقف بعض أصحابه عليه، وعدّوه القائم/ المهديّ، الذي وعدت به الروايات التي سمعوها ممن سبقهم، ومن بعض الوضّاعين أيضًا.
وهذا دليل على أن بحوث المهدويَّة لها مداخل شتى، وتعتريها الضبابية والشوائب المنهجيَّة، فليست واضحة علميًّا ومنهجيًّا، ومن ثَمّ فإنّ إدراجها في جملة العقائد يُعَدّ تطرفًا شديدًا[67]، فضلًا عن تبنّيها من قبل دولة ترسم سياستها بناءً على تلك التوهّمات. فلم تكن الأمور واضحة حتى في حياة أئمَّة الشيعة، فبعد وفاة كلّ إمام كانوا يختلفون في من يخلفه، الابن الأكبر أم الأصغر، وينقسمون إلى فرق وتيارات بناءً على اختلافهم في من يخلفه، بل وصل الأمر إلى خلاف حتى بين الأشقاء من الأئمَّة أنفسهم، كما حصل بين محمد الباقر [الإمام الخامس] وأخيه زيد [مؤسس، وإليه تُنسب فرقة الزيدية]، إذ طعن زيد في إمامة أخيه الباقر، ونسب الإمامة إلى نفسه.
وهذا الخلل المنهجيّ رصده المفكر الشيعيّ أحمد الكاتب فقال: «كل ذلك التنوّع والتعدّد في الحركات المهدويَّة يعبّر عن غموض مفهوم الإمام المهديّ واحتمال كونه أيّ واحد من أهل البيت، وهو من يقوم بالسيف ويخرج ويقيم دولة الحقّ، ولو كانت هُوِيَّة المهديّ قد حُدّدت من قبل منذ زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأئمَّة الأحد عشر السابقين لما اختلف المسلمون ولا الشيعة ولا الإماميَّة ولا شيعة الإمام الحسن العسكريّ في تحديد هُوِيَّة المهديّ، ولما اعتقد بعضهم بكونه [الإمام الحسن العسكريّ] نفسه»[68].
وإذا كانت الفرق الشيعيَّة نفسها قد اختلفت في المهديّ، وإذا كانت لا توجد روايات قطعيَّة الدلالة عمن هو المهديّ بالتحديد، يبقى التمسك به كعقيدة خارجًا عن نطاق القواعد الأصوليَّة الشيعيَّة نفسها، ويبقى التمسك به كحالة لتثوير المذهب وتسييسه عاملًا من عوامل التوظيف السياسيّ ليس إلّا، لا سيّما إذا لم يرِد ذكره في القرآن ولا في الروايات القطعيَّة، ولا حصل عليه إجماع شيعيّ-شيعيّ[69].
ثقافة المهدويَّة وشدّ عصب الدولة:
يعتقد النظام الإيرانيّ أنّ ربط الجمهور الشيعيّ الدائم بالطقوس والشعائر والغيبيّات[70] هو السبيل الأفضل لبقاء الشعب تحت سيطرة الملالي[71] والآيات، فعملت الصفويَّة قديمًا والخمينيَّة حديثًا على شحذ الهمم وتأجيج المشاعر على مدى شهرين كل عام [محرم وصفر]، بل على مدى عام كامل، وأصبح كلّ يوم عاشوراء، وكلّ أرض كربلاء، وروّجت لعليّ وخصاله وشخصيّته المتجسّدة في الثورة والشهادة والجهاد، ورفض خلافة الجور، ولكنها في الوقت ذاته عملت بذكاء على توجيه كل المشاعر الانتقاميَّة والعواطف الملتهبة للتيّار الشيعيّ الرافض للاستبداد والتمييز نحو الجبهة التركيَّة وضدّ عموم أبناء الأمّة الإسلاميَّة[72]. ومن ثَمّ فإذا كان الشعب فقيرًا فيجب أن يتحمّل لأنّ المهديّ سوف يظهر ويحلّ مشكلة الفقر، وإذا كان ثمة ظلم فيجب الصبر عليه لأنّ المهديّ سيظهر ويملأ الأرض عدلًا كما مُلئت ظلمًا. فهي عقيدة تثبيط وتغييب لإرادة الشعب وموقع الأمّة في اتخاذ القرار السياسيّ وتقرير المصير العامّ، بالإضافة إلى صبغ هالة القدسيَّة على قرارات النظام السياسيّ بوصفه نائبًا عن الإمام المعصوم، وبوصفه لا يُقرر أمرًا إلا بمعيَّة الإمام المعصوم وبحضوره، حتى ولو كان غائبًا، فإنّ التواصل معه بصورة ما باقية ودائمة، لمعرفة توجيهاته وإرشاداته، ومن ثَمّ فإنه راضٍ تمام الرضا عن السياسات العامّة للنظام السياسيّ ما دام يقابل الفقيه أو الرئيس ونحو ذلك. تلك السياسة كانت متّبعة في عهد الصفويين أيضًا لإلهاء الناس عن المطالب الحياتيَّة الرئيسيَّة وإخضاعهم بالغيبيات والمسكّنات الدينيَّة، أملًا في تحسّن الظروف في دولة المهديّ وقت ظهوره، ولإضفاء صفة القداسة والمعصوميَّة على قرارات النظام بصفته نائبًا عن المهديّ.
وتدرك القيادة الإيرانيَّة أنّ إقامة الدولة المهدويَّة العالميَّة «أستاذيَّة العالم» شبه مستحيلة، وهي من بنات أفكار نظريَّات تسييس الدين، وتعارض الحقائق على الأرض، والمعايير الدوليّة والسياسيَّة المحليَّة والإقليميَّة، ولكن هذا النوع من الخطاب هو المألوف لدى الإسلاميّين المتشدّدين الذين يحلمون بصناعة إمبراطوريَّة كبيرة وإلغاء الحدود، ويستحضرون الفقه القديم في العصر الحديث، دون أيّ تفرقة أو تمييز بين الثابت والمتغيّر، وبين القطعيّ والظنّيّ. لكن الهدف الرئيسيّ من وراء استخدام هذه الأدبيّات من الحكومة الإيرانيَّة هو الزجّ بشعبها في معارك خارجيَّة تحت اسم «الجهاد»، ومن إفقار الشعب داخليًّا، وكل هذه الأمور تحت مزاعم توطئة الأرض وتمهيدها لظهور المهديّ. وهنا يمكن إدراك خطورة المشروع الإيرانيّ في المنطقة، تحت مظلة ما يُسمّى بتمهيد الأرض لظهور المهديّ.
ومجمل القول أنّ فكرة المهدويَّة أضحت «شأنًا إيرانيًّا معاصرًا حيويًّا فكريًّا وسياسيًّا»، ولم تقف عند كونها عقيدة كلاسيكيَّة ترسّخ الكمون والانتظار، بل تمّ تثويرها وإخراجها من سياقها التاريخيّ، ومكانتها الحوزويّة والعقديَّة لصالح القراءة الخمينيَّة التثويريَّة المعاصرة.
الخلاصة:
ومما سبق تتأكد خطورة الأدبيّات الإيرانيَّة المتمترسة خلف العقيدة المهدويَّة الشيعيَّة، لأنّ تلك الأدبيّات تؤدّي إلى تثوير جماعات الشيعة لا الإيرانيين فقط، وتؤدّي إلى صناعة ولاءات عابرة للحدود ومتمرّدة على الأوطان من بعض الجيوب الشيعيَّة الموالية لإيران في الدول الأمّ، بأنْ يساهموا بنصيب وافر في عمليَّة التمهيد الجارية لظهور المهديّ، وهذا التمهيد يُوسع مُهِمَّة الثورة إلى ما يتجاوز الحدود الإقليميَّة الإيرانيَّة، فيؤكد استمرار الثورة على المستوى الوطنيّ والخارجيّ، والكفاح مع «بقية الحركات الإسلاميَّة والشعبيَّة لتمهيد الطريق لتشكيل مجتمع كونيّ واحد»، و«الكفاح لتحرير جميع الشعوب المحرومة والمظلومة في العالم»[73]، وتأكد ذلك عمليًّا بعمليّات تخريبيّة واسعة قام بها موالون لإيران في دول خليجيَّة وعربيَّة بغطاء سياسيّ ودعم لوجيستي من طهران[74].
إنّ إيران لا تتعامل مع المنطوق السياسيّ الدوليّ وفقًا للقوانين والمعايير الدوليّة، أو حتى المعايير الأخلاقيَّة المذهبيَّة، «ولكنها تتعامل بما يحفظ مستقبل الهدف القوميّ الأكبر وهو الدولة العالميَّة، دولة العدل المهدويَّة»، أو أستاذيَّة العالم كما يدندن الحركيون[75]. ومن ثَمّ فالعقيدة المهدويَّة الإيرانيَّة بقراءتها الخمينيَّة تمثل خطرًا حقيقيًّا على دول المنطقة كلها، وتعمل على إخضاع المنطقة لدولة الوليّ الفقيه للعمل على جاهزيَّة الدولة الإمبراطوريَّة لقدوم وظهور الإمام الغائب. وتعدّت تلك الخطورة لتشمل الشعب الإيرانيّ نفسه عن طريق إخضاعه لحكم «ممثلي الله» الذين يعتقدون بأنهم نوّاب الله على الأرض، وأنّ مناصبهم إلهيَّة لا يجوز لأحد أن يخلعهم منها، وأنّ قراراتهم نهائيَّة وما على الشعب سوى السمع والطاعة. فالإيمان بوجود المهديّ وأنه مصدر الشرعيَّة الدستوريَّة [وهي نظريَّة التمهيد في القراءة الخمينيَّة] دفعهم إلى إضفاء مسحة دينيَّة على نشاطاتهم السياسيَّة والاستغناء عن اكتساب أيّ شرعيَّة شعبيَّة أو ديمقراطيَّة، وبالتالي إعطاء أنفسهم صلاحيات ديكتاتوريَّة، وهو ما هدّد ويهدّد التجارِب السياسيَّة الحديثة التي يقوم بها الشيعة، ويقف عائقًا أمام التطوّر الديمقراطيّ للمجتمعات الشيعيَّة، بحسب المفكر الشيعيّ أحمد الكاتب[76]. ولذا كان الحوار مع الملالي والآيات الذين يتحكّمون في صناعة القرار الإيرانيّ اليوم ضربًا من المستحيل، حتى يتخلَّوا عن هذه الأطروحة ويلتزموا بالقواعد الحاكمة والتأسيسيَّات الأخلاقيَّة والقانونيَّة المتعارف عليها. ويمكن رصد أهمّ النتائج في النقاط التالية:
1- اختلاف الرؤى الشيعيَّة حول مسألة المهديّ، ما بين رؤى فقهيَّة تقليديَّة راسخة تحرّم العمل السياسيّ تمامًا حتى ظهوره. ورؤى تثويريَّة تسعى إلى الإحلال محلّ المهديّ في العمل السياسيّ وتأسيس الدولة، والتحدّث باسمه، وفي ذات الوقت تسعى إلى تمهيد الأرض لظهوره عبر دعم الميلشيات والجماعات الأدنى في الإقليم تحت مظلّة التمهيد لظهوره. 2- كان المهديّ في الفقه الكلاسيكيّ الشيعيّ أداة سكون واندماج للشيعة في ظلال الخلافة قديمًا والدولة الوطنيَّة حديثًا، وكانت هذه هي فلسفة نظريَّة «الانتظار» التقليديَّة. ثمّ انقلب الخميني على الموروث الفقهيّ والعقديّ الشيعيّ، وقام بتثوير المسألة المهدويَّة، فتحولت إلى أداة استقطاب وتكوين جماعات أدنى وشبكات عنكبوتيَّة تعمل في الخفاء بعيدة عن الدولة الوطنيَّة، وتسعى للانقضاض عليها تمهيدًا لظهور المهديّ. أي إنّ الخميني استطاع أن يحلّ نظريَّة «التمهيد» محلّ نظريَّة «الانتظار». والتمهيد في نظره لا يكون إلا بتثوير المذهب وتسييسه وعَقْدَنته. وهذا العنصر هو ما انتقده وليّ العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان، لأنّ هذا العنصر كان كفيلًا بتأجيج المنطقة بأكملها، وتفجير الصراعات الطائفيَّة والمذهبيَّة فيها. أمّا نظريَّة الانتظار الراسخة في الفقه الشيعيّ قبل قدوم الخميني فلم تكن كذلك. 3- أخطر ما تمّ ترسيخه في الانقلاب الخميني على الميراث الشيعيّ في المسألة المهدويَّة وإحكام قبضة مدرسته على قطاع عريض من شيعة الداخل والخارج هو التوظيف السياسيّ والتفسير الحركيّ للمسألة المهدويَّة، إذ حشد عشرات الألوف للقتال في سوريا والعراق للدفاع عن المهديّ وتمهيد الأرض لظهوره. وكذلك توظيف واستغلال بعض الجيوب الشيعيَّة في المنطقة من أصحاب الولاءات عابرة الحدود، لتكون من جنود ممثل المهديّ الوحيد في الأرض وهو القائد الأعلى في إيران. 4- ولم يُكتفَ بهذا، بل استُغلّ المهديّ حتى في الصراعات السياسيَّة الداخليَّة بين المحافظين والإصلاحيين، فابتُذلت الفكرة، وامتُهنت من كثرة استغلالها وعقدنتها وتوظيفها سياسيًّا. 5- وقد لا توجد حلول عمليَّة سوى أن يقوم الفقهاء الراسخون أصحاب الخطّ الحوزويّ الأصيل باستعادة السيطرة على العقليَّة الإيرانيَّة والشيعيَّة وإعادة نظريَّة الانتظار إلى أوجها كبديل لنظريَّة التمهيد الخمينيَّة. في هذه الحالة فقط يمكن للجماعات الشيعيَّة الأدنى أن تلتئم وتندمج في حدود الدولة الوطنيَّة. وفي هذا السياق يمكن للدول العربيَّة أن تشجّع وتستثمر في خطّ التشيّع الفقهيّ التقليديّ بصفته تشيعًا تاريخيًّا وميراثًا ثقافيًّا نشأ في الحاضنة العربيَّة والسنّيَّة، قبل انزوائه لصالح التشيّع السياسيّ الصفويّ ثمّ الخمينيّ. وقد تتغير موازين القوى لصالح المدرسة الدستوريَّة الإصلاحيَّة التي يتزعمها اليوم سروش وكديفر في إيران وكثير من فقهاء لبنان، لأنّ المشاركة السياسيَّة لهذه المدرسة ومواجهتها المباشرة للقراءة الخمينيَّة وتعرّضها للاضطهاد المباشر يجعل منها بديلًا مباشرًا وجاهزًا لقيادة الدولة الإيرانيَّة، وإعادة الأمور إلى مواضعها، بخلاف المدرسة التقليديَّة التي أجهزت الدولة الإيرانيَّة عليها بعد الثورة. 6- تستفيد إيران من نظريَّة «التمهيد» داخليًّا عبر التحدث باسم المهديّ، وإخضاع الجماهير لأيّ قرارات سياسيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة تمسّ أمنهم وقوّتهم باسم النيابة عن المهديّ، وخارجيًّا بتأجيج بعض الأقلّيات المرتبطة بالقراءة الخمينيَّة وصناعة ولاءات وجيوب عابرة للحدود في المنطقة والإقليم، تُعَدّ أداةَ ضغطٍ إيرانيَّة وابتزازٍ سياسيّ على دول في المنطقة، علاوة على توظيفها كمصدّات جغرافيَّة وديموغرافيَّة لصالح المشروع الإيرانيّ.
0 comments:
إرسال تعليق