الاثنين، فبراير 11، 2019

التنظيمات الناصرية في لبنان بدايتها

في 1963 نشأ اول تنظيم ناصري كتنظيم يلتزم شعار جمال عبدالناصر "التنظيم هو ضمانة استمرار الثورة". انشىء التنظيم خلال لقاءات ابتدأت في 1963 في منزل كمال شاتيلا، وكان ذلك بعد طرح عبدالناصر فكرة "الحركة العربية الواحدة" رداً على الانفصال ومشاريع البعث للتوحيد. لكن الى جانب محاولة شاتيلا كانت هناك محاولتان أخريان: الأولى لعبدالرزاق يوسف دوغان، الطالب في الجامعة العربية، باسم "الحركة العربية الواحدة". والثانية كان تحركاً حمل اسم "المثقفون الثوريون"، وكان على رأسه عصام العرب. ومن خلال حوارات بين شاتيلا والعرب، اتُفق في النهاية على تشكيل "اتحاد قوى الشعب العامل". وجرت حوارات اخرى بين شاتيلا ودوغان لكن اعتبارات التصدّر والتنافس العائلي البيروتيين حالت دون التوصل الى نتيجة.
وشاتيلا كان في 1963 طالب حقوق في الجامعة اللبنانية، وكان على صلات واسعة وبأنــاس متعـــددي الاتجاهـــات.
في الفترة نفسها، 1963 - 1964، ظهرت محاولة اخرى في الجامعة العربية ارتبطت بالطالب خليل شهاب وحملت اسم "وحــــدة النضـال العربـي". كما ظهرت محاولة لسمير كبريت وابراهيم منصور وطلال سنو واحمد حمّود، وهم طلاب في الجامعة العربية، سمّوا انفسهم "الاتحاد الاشتراكي العربي - الاقليم اللبناني"، وقدموا انفسهم كامتداد للاتحاد الاشتراكي في سورية الذي كان امينه العام جمال اتاسي. على ان هذه المحاولات جميعاً انحصرت في الطلبة الجامعيين دون اي اثر لها في الشارع.
اما "المرابطون" فلم تكن محاولة تنظيمية، ولا تنظيما. كل ما في الامر ان ابراهيم قليلات ومجموعته تشكلوا في ثورة 1958 كطرف مقاتل، وكان قليلات مرافقا كبيرا لصائب سلام، وهناك تقليديا علاقات ودّ بين اسرتي سلام وقليلات. وفي 1974 طُرح على قليلات اقامة تنظيم ناصري موحد مع الآخرين. طرح ذلك خليل شهاب وطلال سنو ورشيد قباني وجلال بكداش، مقترحين عليه الانضمام الى "الاتحاد الاشتراكي العربي" الذي كان نشأ فعلاً نتيجة مؤتمر القوى الناصرية الذي انعقد في ليبيا في 18 آذار مارس 1973. لقد انبثقت من هذا المؤتمر دعوة لانشاء الحركة العربية الواحدة، وشُكّلت لجنة برئاسة الدكتور رفعت محجوب الذي كان ناصرياً يومذاك. وكان رد قليلات: أنا تنظيم عسكري وعملي تحت الأرض، انني أمضي على بياض معكم لكنْ هذا وضعي. أما في طرابلس فكان فاروق المقدّم الذي اعتبره الكثيرون ظاهرة مشابهة لقليلات في بيروت، خليطاً ناصرياً ويسارياً وفلسطينياً. انه لا تنطبق عليه مواصفات الناصرية.
قليلات وشاتيلا والعرب ودوغان وشهاب وكبريت، كانت اعمارهم في اواسط الستينات تتفاوت بين اواخر العشرينات لأكبرهم قليلات، وما يقرب العشرين لأصغرهم كبريت، وشاتيلا يقع في الوسط. وهم كلهم سنّة بيارتة، يعود بينهم عصام العرب، في اصوله، الى عرب المسلخ. وقليلات قبضاي وابن تاجر، وشاتيلا وكبريت من عائلتي ملاكين صغار، ودوغان، ابن يوسف دوغان رئيس نقابة تجار الخضار والفاكهة، وهو في وقت مبكر توقف عن العمل السياسي، اما شهاب فمن اسرة ملاكين صغار في رأس بيروت. ووحده عصام العرب انتمى الى طبقة فقيرة.
حتى 1970 كانت التنظيمات الناصرية كلها غير محسوس بها على الصعيد الشعبي. لم تكن اكثر من بؤر منظمة وسط تيار جماهيري كاسح. وزاد في سوء الوضع مجيء المقاومة الفلسطينية الى لبنان في 1967، وخصوصاً بعد معارك 1970 في الاردن.
فقد طرأ خلل في رؤية القيادات الناصرية البيروتية للمقاومة: خليل شهاب رأى ضرورة الاقتراب منها والتحول محاميا لمنظمة التحرير الفلسطينية، وشاتيلا، في المقابل، اختار الوقوف ضد "فتح" من البداية، خصوصاً بسبب موقفها من القاهرة.
مع رحيل عبدالناصر، في 1970، خرجت اول تظاهرة ناصرية منظمة بقيادة شاتيلا شارك فيها 30 الف متظاهر. ثم جاءت، في 1972، ادارة المعركة الانتخابية لنجاح واكيم. تنظيم المعركة كان يستند، من دون شك، الى خلفية تفاهم مصري - سوري - ليبي، وقد اختير نجاح لأنه مسيحي لا بد ان يصوّت له المسلمون. التصويت كان لعبدالناصر وليس لشاتيلا وواكيم، الا ان تنظيمهما صار في وسعه، وبراحة، ان يعتبر نفسه التنظيم الناصري. لكن الضربة الناجحة هذه التي ضربها شاتيلا، سريعاً ما اعقبها شعوره بالغيرة من نجاح.
في 1972 تعرض "اتحاد قوى الشعب العامل" لطفرة ولانتشار عجز التنظيم عن استثمارهما في كل لبنان. ونشأت آلية حزبية كانت تُجرّب لأول مرة من خلال التثقيف، ومن خلال عمل شعبي ومطلبي غريب تقليديا عن الناصرية: ماء، كهرباء، بطالة، نفايات وتنظيف الخ.
لكن قبل ذلك وفي 1971 كان حدث تطور مهم ترك تأثيرات لاحقة ضخمة. فشاتيلا كان ارتد ووقف مع انور السادات في معركته مع علي صبري واليسار الناصري، وقاد تظاهرة مؤيدة له اتجهت الى السفارة المصرية في بيروت، وهذا مع العلم ان كمال بكى للوهلة الاولى حين عرف بأحداث مايو وقال: راحت مصر.
فشاتيلا لم يكن مرضياً عنه في القاهرة قبل ايار مايو 1971، وكان جناح علي صبري يعتبره ولداً في تركيزه الآحادي على الوحدة العربية وغموض انتماءاته الاجتماعية. على اي حال، استمر في توجهه الجديد هذا لا سيما مع سحق الانقلاب الشيوعي في السودان، فنزل شاتيلا في تظاهرات ضد الشيوعيين في بيروت ورفع شعار "حكم الطبقة الواحدة يدوم ساعة، وحكم اتحاد قوى الشعب العامل يدوم حتى قيام الساعة". وتهيأت أجواء صدام بينه وبين الشيوعيين ممن كانوا يقذفونه بتهم التعاون مع اطراف شتى.
في المقابل برز شبان ناصريون يرفضون سياسة السادات ويعتبرون انه انحرف بعد مايو، وفي مناخ التنافس على الزعامة بين البيروتيين برزت مجموعة "وحدة القوى الناصرية" التي تشكلت في معظمها من شبان يقطنون عين المريسة: محمد قباني، كمال يونس، منير الصيّاد، جلال بكداش. وحده يونس لم يكن بيروتياً ولا سنياً، اذ هو شيعي جنوبي من قرية زيتا في الزهراني، هاجر اهله الى بيروت.
وهذه المجموعة تبنّتها الاحزاب اليسارية والمقاومة، وحاولت وضعها في مواجهة اتحاد قوى الشعب. وفي كل مهرجان كانوا يعطونها كلمةً تُلقى في مهاجمة شاتيلا. فوحدة القوى لا تعادي اليسار والشيوعيين، بينما تعادي السادات، فيما شبانها في تنافس على الصدارة البيروتية مع شاتيلا.
محمد قباني من عائلة ميسورة، درس في الجامعة الاميركية، وكان اكبر افراد المجموعة. ويونس ابن تاجر صغير، درس في كلية العلوم بالجامعة اللبنانية، والصياد من عائلة فقيرة هي عائلة صيادين في عين المريسة، تخرّج في التربية البدنية من القاهرة، اما جلال بكداش فنجل عبدالرحمن بكداش، رئيس نقابة القصّابين.
وحصلت مجابهات بين التنظيمين، لكن وحدة القوى ظلت ضباطا من غير جنود، باستثناء بؤر محدودة في المصيطبة وحي اللجا، وحضور طفيف في منطقة صور.
وفي المقابل، فالاتحاد انتشر، في 1972 وما بعدها، في الثانويات والجامعة اللبنانية ودور المعلمين، وشكّل "لجان العمل الجامعي" و"لجان العمل الثانوي" و"لجان العمل الشعبي"، واصبح له وجود تنظيمي ما بين الشمال والجنوب. لقد استقطب في الجنوب شيعة ووجودا فعليا. كان الاتحاد كله يتثقّف بكتب واحدة ولغة واحدة: كتب عصمت عبدالمجيد اساساً، وخصوصاً "أسس الاشتراكية العربية". والعضو ما كان يُقبَل او يصبح عاملاً ما لم يقرأ هذا الكتاب ويخضع لامتحان فيه. فالكتاب المذكور كان، في رأي شاتيلا، محك الفصل بين الناصري والشيوعي.
لقد غدا الاتحاد التنظيم الجدي للناصريين في لبنان.
والحال ان دور السادات، ودور ليبيا في المقابل، كان لهما ابعاد اخرى. فلقاء آذار 1973 في طرابلس الغرب، الذي تم بدعوة مجلس قيادة الثورة الليبي، حضره مئات الناصريين العرب قياديين وكُتّاباً ومثقفين وصحافيين، وكان الهدف الخروج ببرنامج للثورة العربية واداة لها.
وقد انتهت النقاشات الطويلة الى نتيجتين: الاولى، حل جميع التنظيمات الناصرية والاندماج في الاتحاد الاشتراكي العربي، والثانية، تشكيل لجنة للاتصال بانور السادات برئاسة رفعت المحجوب وعضوية احمد كمال ابو المجد وعبدالوهاب الزنتاني وامين الأعور، والطلب اليه السعي لتأكيد التزام مصر بالناصرية. لكن اللجنة لم تجتمع ولم تقابل السادات.
وفي اجتماع طرابلس هذا، وافقت القوى اللبنانية المشاركة على الحل والاندماج، ما عدا اتحاد قوى الشعب الذي تمثل بشاتيلا وواكيم وطارق ناصر الدين. وقد اهين هناك شاتيلا وقوطعت كلمته وطُرد بسبب دفاعه عن السادات، كما قبع طويلا في الفندق.
ومع العودة الى بيروت حاولت التنظيمات الاخرى تطبيق ما تم التوصل اليه في ليبيا، فبدأ الاعداد من القوى التالية: وحدة القوى الناصرية، وحدة النضال العربي بقيادة خليل شهاب، وحدة النضال الناصري التي انشقّت عن وحدة النضال العربي وقادها المحامي رشيد قباني، الاتحاد الاشتراكي العربي - الاقليم اللبناني، شباب البقاع الناصري وعلى رأسهم عبدالرحيم مراد وعلي الصميلي وعمر حرب، وكلهم سنّة بقاعيون، الاولان بينهم من بلدة غزّة والثالث من المرج، ورابطة الطلبة العرب الوحدويين التي كان قد انشىء فرع لها في لبنان آنذاك كتعبير عن وجود طلابي لبناني داخل جسد قومي عربي.
وكان شباب البقاع ورابطة الطلبة على صلة وثيقة بالتنظيم الطليعي الذي انشىء سراً في القاهرة اواخر عهد عبدالناصر، وتولى السادات حله والتشهير به.
ومراد والصميلي وحرب هم حاليا في اواسط اربعيناتهم، اولهم صناعي ومغترب ناجح، والثاني ملاك متوسط، والثالث صاحب مدرسة وملاك متوسط ايضاً. اما الرابطة وقياداتها فاصغر ببضعة سنوات من قيادات شباب البقاع، وكان ابرز تلك القيادات خليل الخليل، وهو سني من اسرة متواضعة من عرب المسلخ، ومصطفى رجب، سني من غزة في البقاع وفي وضع اجتماعي متوسط، وكذلك حال فهد العبدالله وهو سني من بعلبك، وسميح سنو، السني البيروتي، وفيضي حمادة، الشيعي الهرملي ذا الخلفية العشائرية، فيما صدر عاطف صيداوي، السني الطرابلسي الذي توفي في 1980، عن وضع اجتماعي ادنى.
المحاولة أدّت فعلا الى انشاء الاتحاد الاشتراكي العربي، الا انها كشفت عن الهزال الشعبي لمعظم هذه التنظيمات. فباستثناء شباب البقاع المحاطين شعبيا بقرى البقاع والمنخرطين بعمل شعبي، وكذلك رابطة الطلبة التي ضمت قرابة 60 منتسباً، كشف الآخرون عن فقر استقطابي مدهش. كذلك كشفت النقاشات عن حجم الفروقات النظرية بين المجموعات، فكان خلاف دائم حول تعريف الاشتراكية: هل هي اشتراكية عربية، كما تقول وحدة القوى، ام تطبيق عربي للاشتراكية العلمية، كما يقول سمير كبريت متأثّراً بجمال أتاسي؟
يومها كانت ليبيا تشترط ان تتم وحدة فعلية للاتحاد الاشتراكي العربي من اجل ان يحظى بمساعداتها، فكان لا بد بالتالي من وحدة مظهرية، رغم ان شباب البقاع ورابطة الطلبة ومنير الصياد كانوا جادّين في الرغبة بالوحدة. على ان الوحدة لم تكن جدية فعلاً، وظل كل تنظيم يعمل من داخل الوحدة كجسم متماسك، فلم يكشف احد خلفية وضعه التنظيمي للآخر. وكانت الطامة الكبرى مع بروز السلاح والتسلح بعد اغتيال معروف سعد. ففي يوم تشييعه التقت عناصر الاتحاد الموحدة حديثا على باب جمعية متخرجي جامعة بيروت العربية، لتنطلق في تظاهرة واحدة، بيد ان الخلاف دب بينها حول: مَن الذي يتسلم السلاح الموجود، وهو 16 قطعة سيمينوف و8 مسدسات، كانت تقدمة من عبدالقادر غوقة، السفير الليبي في لبنان يومها؟
وافتُعل صدام آخر حول التركيبة التنظيمية، فاتهم البعض مجموعة منير الصياد بانها لا تقدّم كشفــاً بعناصرهــا. وكانت النتيجة ان ظهر اول انشقاق عن الاتحاد قاده خليل شهاب في تموز يوليو 1975، حاملا اسم "الاتحاد الاشتراكي العربي - التنظيم الناصري - القيادة العامة للأفواج العربية".
آنذاك كانت في عز نشاطها منظمة التحرير التي كانت حريصة على بناء مواقع داخلية. وفعلاً ما لبث ان حصل الانشقاق الثاني في كانون اول ديسمبر 1975 بقيادة كبريت، حاملا اسم "الاتحاد الاشتراكي العربي - الاقليم اللبناني - الناصريون".
وكان الانشقاق الثالث بقيادة الصياد في تشرين الاول اكتوبر 1976، حيث عزي لابو اياد دور اساسي فيه. وقد نجم عن الانشقاق الجديد "الاتحاد الاشتراكي العربي - التنظيم الناصري".
لكن، في المقابل، وفي تلك الفترة، اندمج ما تبقى من الاتحاد الاشتراكي، اي شباب البقاع والرابطة اساساً، مع "حركة انصار الثورة" بقيادة الحاج مصطفى الترك. فعلى رغم معرفة جماعة الاتحاد بصلة الترك الوثيقة بـ"فتح"، وجدوا ان لا مفر من هذه الخطوة بفعل حاجتهم الى وجود بيروتي مؤثّر بعدما كان قد خرج معظم البيروتيين.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية