السبت، مارس 30، 2019

لماذا اغتيل كمال جنبلاط؟


«
يجب أن نعرف كيف ننتصر فهو أمرٌ أهم من الفوز بحد ذاته»، على إيقاع هذه العبارة رسم الزعيم اللبناني الراحل كمال جنبلاط ملامح غَده بعدما تحول بمعمودية الدم أسطورة في قائد واحد كتب** عنه كثيرون من العرب والأجانب. ميزة «عمود السما» كما يسميه الموحدون الدروز أنه جمع بين الممارسة السياسية والفكر التقدمي بغية إخراج لبنانه من متاهات من وصفهم بالانعزاليين، وبهدف بناء دولة علمانية ديموقراطية تُعيد لوطنه حرية القرار الداخلي، وذلك حين أدرك حجم التضحيات المطلوبة إثر دخول الجيش السوري لبنان مطلقاً مقولته الشهيرة «نحن لا رغبة لدينا بالسجن السوري الكبير... هناك صراع بين الديكتاتورية والديموقراطية. فهم ليسوا بأحرار ويريدون دائماً الحؤول بيننا وبين الحرية».

عائلة جنبلاط المتحدرة من أصل تركي وربما كردي تتألف من عبارتي «جان» و«بولاد» ومعناهما «روح الفولاذ». الأجداد الذين استقروا في سورية وانتقلوا بعدها الى جبل لبنان على مرحلتين: الأولى بين 1607 و 1611والثانية بين 1630 و 1631أطلقت عليهم تسمية جنبلاط كي تتناسب مع اللفظ العربي كما ورد في كتاب الدكتور خليل أحمد خليل «كمال جنبلاط ثورة الأمير الحديث خطاب العقل التوحيدي». لكن اللافت عند هذه العائلة التي تعتبر أقدم اقطاع سياسي في الشرق، أن غالبية رجالاتها قضوا اغتيالاً، وهكذا أُغتيل فؤاد جنبلاط والد كمال في وادي عنبال يوم 6أغسطس العام 1921 أي بعد مرور أقل من عام على إعلان «دولة لبنان الكبير».

كمال جنبلاط الذي دفع بجسده نحو الشهادة يوم 71مارس 7791 على مفترق دير دوريت بين بعقلين وكفرحيم (منطقة الشوف) هجس باكراً بسر اغتياله للعلاّمة عبد الله العلايلي الملقب «الشيخ الأحمر» باعتباره من أبرز مؤسسي «الحزب التقدمي الاشتراكي»، فقال له: «أتعرف أنني سأموت قتيلاً، لا أدري قد يكون حدساً أو حلم يقظة أو وساوس غدٍ مجهول، لكني أراه كشيء مسطور». فهل أعانه عقله التوحيدي على تحمل المجهول الآتي من بوابة الاغتيال المفتوحة في لبنان منذ العام 7791 حتى العام 5002 وما بعده؟

في سبيل لبنان قدم كمال جنبلاط قربانه هو وغيره، فتحول معهم هذا البلد محطة للجنازات المتوالية من دون أن يُقدر لهم التقاط المشتهى. ولطالما ردد المعلم «كُتب علينا ألا نحصد نتائج أفكارنا وثمار جهودنا، إننا نغرس لغيرنا ونعمل لسوانا».

كثيرة هي المؤلفات التي وضعها كمال جنبلاط في السياسة والصوفية والفلسفة والشعر، وعلى وقع جدلية العقل وضده نسج أفكاره فكتب بالعربية والفرنسية. ومن مؤلفاته: «الحياة والنور»، «أضواء على القضية القومية»، «حقيقة الثورة اللبنانية»، «ثورة في عالم الانسان»، «أدب الحياة»، «في ما يتعدى الحرف»، «لبنان وحرب التسوية»، «فرح»، «في سبيل لبنان» (بالفرنسية) ترجم إلى اللغة العربية تحت عنوان «هذه وصيتي».

«سيارة مرسيدس خضراء تحولت ذات يوم تابوتاً. إنها وحدة الحقيقة، فالاجسام متمايزة، إنما الحكمة واحدة والحكماء كلهم واحد. والحق أن الحكيم معلم مدرسة، لكنه معلم مدرسة مختلفة، مدرسة تتعدى الزمن، هي مدرسة الحكمة الرفيعة والطاهرة. في هذا المعنى كمال جنبلاط حاضر». ريمون برنار السياسي الفرنسي الذي ردد هذه الكلمات في رسالة بعث بها إلى وارث الجنبلاطية الجديد في مايو 7791 كان على معرفة جيدة بـ «المعلم» الذي زاره في المختارة، وربما عرف آنذاك أن هذا الشرق لا يتسع لرجالات مثل كمال جنبلاط وانطون سعادة وموسى الصدر ومهدي عامل وحسين مروة وسليم اللوزي ورفيق الحريري وسمير قصير وجبران وتويني.

في الذكرى الرابعة والثلاثين لغياب كمال جنبلاط، تسأل «الراي» عن أسباب اغتياله واجهاض مشروع الدولة الديموقراطية العلمانية الذي نادى به طوال مسيرته السياسية، حاملة الملف إلى الباحثة المتخصصة في تراث كمال جنبلاط الدكتورة سوسن نصر واستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد شيّا صاحب كتاب «كمال جنبلاط لزمن آخر».



ضحية اللعبة الأممية
أكدت الدكتورة سوسن نصر أن تجربة كمال جنبلاط الإصلاحية تمّ أجهاضها من جانب محور دولي، لافتة إلى تخوف جنبلاط على الديموقراطية في لبنان بسبب محيطه الاستبدادي. ودعت الحركة الشبابية المطالبة بإسقاط النظام الطائفي الى العودة لتراث جنبلاط.

• في كتابه «في سبيل لبنان» أشار كمال جنبلاط إلى «الاستقلال الثوري» من أجل تحقيق استقلال القرار السياسي الداخلي من جهة وبناء الدولة من جهة أخرى. لماذا أجهضت تجربة جنبلاط؟

الجواب موجود في كتابه «في سبيل لبنان». المشروع الذي قاده كمال جنبلاط تصادم مع مشروع عالمي كان يعتقد أن محاولة الاستقلال الثوري التي عمل عليها المعلم ستمتد إلى العالم العربي وستؤدي في أضعف الحالات إلى التأسيس لاتحاد فيديرالي عربي. الأميركيون تخوفوا من مشروع جنبلاط، ورأوا أن هذه الطفرة الثورية ستؤثر في بقية البلدان العربية، لذا سعوا إلى اجهاضها. وقد أدرك المعلم ذلك وتحدث عن إمكان تعرضه للالغاء الجسدي أي الاغتيال، وهذا ما حدث. «في سبيل لبنان» نقل إلى اللغة العربية بعد استشهاده، وقد ذكر المعلم في النسخة الفرنسية أن هناك محوراً دولياً يسعى إلى محاصرة استقلال القرار السياسي الداخلي، ورأى أن اللعبة الأممية ستنهي حياته وقد تحقق هذا الأمر.

• انتقد كمال جنبلاط في كتابه ما سماه «الظاهرة الانعزالية» الهادفة إلى عزل لبنان عن محيطه. ما المشروع السياسي الذي طرحه كبديل مما يسمى «القومية اللبنانية»، وما أبرز الأفكار التي طرحها لاسقاط النظام الطائفي الذي تطالب به الحركة الاحتجاجية اليوم؟

النقد الذي وجهّه كمال جنبلاط للظاهرة الانعزالية لم يطاول فقط بعض الموارنة بل تحدث أيضاً عن الانعزالية الإسلامية، فالتطرف في رأيه لا يؤدي إلاّ إلى الانعزال، ورأى أن استقلال لبنان لا يتحقق إلاّ عبر التقدمية الاشتراكية كنظام اجتماعي واقتصادي وفكري، أي نظام التعدد ضمن الوحدة، لذا نادى بالحفاظ على هذه التعددية وبالحفاظ على وجه لبنان العربي، وحين قامت الوحدة بين سورية ومصر العام 8591 كان من أشد رافضي انضمام لبنان إليها بغية حماية التعددية، من هنا يمكن فهم دعوته المتأسسة على قاعدتين: التمسك بوجه لبنان العربي وحماية تعدده الثقافي والديني من دون غلبة لطرف على آخر. عدا عن ذلك، دعا جنبلاط إلى مشروع إصلاحي إداري لكنه تعرض لضغوط من جانب محور اميركي ـ سوري ـ إسرائيلي وقيل له: لا يمكنك السير في الإصلاح الإداري إلاّ في حال تخليك عن القضية الفلسطينية، وقد رفض طبعاً، وهذا الحدث معروف وكتب عنه في وصيته وقال: «إذا وافقت على التخلي عن القضية الفلسطينية فسيلعنني التاريخ ألف مرة». كمال جنبلاط حاصره الخارج والقوى الوطنية في لبنان. مشروعه حول إلغاء الطائفية السياسية عمل عليه طوال تجربته السياسية، والإصلاح عنده لا يرتبط فقط بالنظام بل أيضاً بالاقتصاد وهذا الأمر مذكور في العديد من كتبه ووثائقه.

• ولماذا أشار جنبلاط في كتابه إلى أن الأنظمة العسكرية ومن بينها سورية تتخوف من الحرية في لبنان، وما الذي تغير بين الأمس واليوم؟

ما أشرتِ إليه مذكور في كتابه «في سبيل لبنان». رأى جنبلاط في لبنان دولة حرة، وهذه الحرية تتعرض ويا للأسف الى القمع من بلد مساحة الحرية فيه ضيقة جداً، فكان من الطبيعي أن يتخوف المعلم على الديموقرطية وسط الأنظمة العسكرية، خصوصاً أن اللاعب السوري له دور كبير في الملف اللبناني، ولبنان معرض لاطماع بسبب موقعه الجغرافي، وبالتالي فإن تكريس النظام الحر الديموقراطي يشكل خطراً على محيطه.

• طرح جنبلاط مسألة الدولة الكلية. ما الذي يقصده بهذا المصطلح؟

الدولة الكلية هي دولة المواطن والشعب السعيد، وهذه الدولة التقدمية تحتاج الى الاصلاح في الفكر والروح، وما دام الإنسان يحصل على ما يريد تصبح الدولة بألف خير، باعتبار أن الإنسان والمجتمع يمثلان نواة الدولة الكلية، كون الدولة قامت من أجل الإنسان وليس العكس. في اختصار الدولة الكلية تعني تحرير الإنسان من الارتهان السياسي، أي أنسنة الإنسان وتحقيق أحلامه.

• خلص جنبلاط إلى أن لبنان الطائفي «محكوم عليه بالإعدام». هل الأزمات السياسية التي شهدها لبنان أكدت صحة فرضيته، وإلى أي مدى تعكس الحركة الاحتجاجية اليوم فحوى الدولة العلمانية الديموقراطية التي طالب بها جنبلاط؟

ما نشهده اليوم حصيلة لما جرى في السابق. النظام الطائفي حذر منه كمال جنبلاط، حذر من الاستزلام ومن طغيان الطوائف ومن دخول رجال الدين في اللعبة السياسية، وكان يقول: «إن على رجال الدين عدم التدخل في السياسة» ولكن لم يتحقق شيء. وقبل استشهاده سلم المعلم بما حصل، فاللعبة الأممية والداخلية كانت أكبر منه. الحركة الشبابية اليوم تمثل أحد المطالب التي عمل عليه كمال جنبلاط في مشروعه الإصلاحي، وقد أدرك باكراً مخاطر النظام الطائفي وأزماته الدورية، وأدعو الحركة الشبابية إلى العودة للتراث الفكري الذي تركه جنبلاط. لكن السؤال المطروح: ما الأفق الذي ينتظر هؤلاء الشباب؟ إذا لم يحدث التغيير على مستوى القرار السياسي فإن الأفق سيبقى مسدوداً، والتغيير نحو الدولة العلمانية الديموقراطية يحتاج إلى جهد تنخرط فيه مؤسسات الدولة والمجتمع الأهلي.

• لفت جنبلاط إلى أن النظام السوري يريد ابتلاع لبنان عبر إفشال تجربة الديموقراطية فيه. بعد عملك طوال عشرة أعوام على تراث كمال جنبلاط، لماذا يتخوف النظام السوري من هذه التجربة؟

إذا عدنا إلى التاريخ والجوار الجغرافي، يمكن أن نلاحظ أن لبنان كان البلد الوحيد الذي تمتع بمساحة من الديموقراطية مقارنة بالانظمة العسكرية. تخوف الأنظمة المجاورة من الديموقراطية يمكن تشبيهه ببركة ماء القي فيها حجر بدأ بدائرة صغيرة واتسع تدريجاً، فالديموقراطية الموجودة في لبنان تشكل خطراً على الأنظمة التي تهمش الحرية، وهذه المسألة أدركها كمال جنبلاط ولا تزال مطروحة.

• تحدث جنبلاط عن الديموقراطية الاجتماعية. ما الذي كان يعنيه بذلك؟

الديموقراطية الاجتماعية تعني حرية التملك والفكر والعيش بكرامة، وهذه الديموقراطية لا تأتي من الامتيازات الطائفية، فالمواطنون سواسية ويجب أن يحصلوا على كل حقوقهم. من هنا نادى جنبلاط بتحرير الإنسان منذ الطفولة وتربيته على أساس الفكر النقدي الديموقراطي، وليس بجعله رهينة للمجتمع، فالإنسان لديه مهمة في الحياة في مقدمها تحقيق إنسانيته التي لن تحصل إلاّ عبر الثورة على التقاليد.

 
أين «الحزب التقدمي الاشتراكي» اليوم من التراث السياسي والثقافي والاجتماعي الذي وضعه كمال جنبلاط؟

ويا للأسف «الحزب التقدمي الاشتراكي» بعيد من المفاهيم التي أسس لها المعلم، ليس عن عمد، لكن الظروف الداخلية والاقليمية فرضت نفسها عليه خصوصاً بعد استشهاد كمال جنبلاط. ليس من السهل اليوم تطبيق المفاهيم التي وضعها المعلم، ولو كتب لكمال جنبلاط العيش حتى أيامنا لأجرى العديد من التعديلات على ميثاق الحزب، فهو كان يؤمن بالتطور والحركة ويرفض الجمود، وقد ردد دائماً «إذا خيرت بين المبدأ والحزب لأخترت المبدأ». المفاهيم عند كمال جنبلاط ليست ثابتة ومطلقة بل يحكمها دائماً المنطق الجدلي.

• يستشهد وليد جنبلاط دائماً بعبارات رددها والده من بينها انتقاده لليمين الانعزالي. ما تفسيرك لهذه المسألة؟ ولماذا يتجه جنبلاط الابن نحو العروبة في المراحل المفصلية؟

العودة إلى الينبوع ليست مستغربة، دائماً علينا أن نستقي من الخط السياسي الذي وضعه كمال جنبلاط تحت شعار حرية - اشتراكية - عروبة، فهذه الاقانيم تمثل المرتكز الأساسي لفكر المعلم ومن الطبيعي أن يستشهد وليد جنبلاط بأقوال والده ويعود اليه في الأزمنة الصعبة. تمسك وليد جنبلاط بالعروبة ليس أمراً جديداً في خطابه السياسي، فلبنان لا يمكنه أن يتجاوز هويته العربية، وإذا فعل ذلك فسينحدر نحو التقوقع. على هذا يمكن أن نفهم عودة جنبلاط الابن إلى الينبوع الاصلي.

• بعد مرور 34 عاماً على استشهاد كمال جنبلاط ماذا تقولين؟

بعد مرور 34 عاماً على استشهاده ما زلنا في حاجة إليه. أتمنى على الشباب الذين يطالبون باسقاط النظام الطائفي والتأسيس للدولة الديموقراطية العلمانية، العودة إلى التراث الفكري الكبير التي تركه المعلم، لأنهم سيجدون الأجوبة عن كل الأسئلة التي طرحوها.



مسيرة احرجت الزعامات
رأى الدكتور محمد شيّا أن مشروع كمال جنبلاط الإصلاحي شكل خطراً على الأنظمة الاستبدادية، مؤكداً أن الحركة الشبابية التي تطالب اليوم بإسقاط النظام الطائفي تمثل أحد مطالب جنبلاط، الذي سعى طوال مراحل نضاله إلى محاربة الاقطاع الطائفي.

• في ذكرى استشهاد كمال جنبلاط يُطرح سؤال تقليدي: لماذا اغتيل في مرحلة مفصلية من تاريخ لبنان؟

في كتابي «كمال جنبلاط لزمن آخر» أجبت عن هذا السؤال، وأقول الآن إن مسيرة كمال جنبلاط وخصوصاً بعد العام 7691 شكلت إحراجاً لكثير من الزعامات والقوى المسيطرة داخل لبنان كما في المحيط العربي. رأى جنبلاط أن هزيمة 7691 لم تكن هزيمة للعرب في المطلق بل للأنظمة الاستبدادية التي تاجرت بالقضية الفلسطينية واستبعدت شعوبها عن مجرى التغيير التاريخي ومجرى الصراع مع اسرائيل، واكتفت بالشعارات وتنظيم التظاهرات. وقد أطلق حينها مقولته المشهورة «إن المقصود بالعدوان الإسرائيلي هو الأنظمة التقدمية وليس الأرض، لذلك العدوان فشل لأن الأنظمة الاستبدادية بقيت». لماذا اغتيل كمال جنبلاط؟ السؤال لا يزال قائماً وشعارات كمال جنبلاط فعلت فعلها في كل ساحة عربية، فنشأت أحزاب وجمعيات ومنظمات للمثقفين استلهمت من نضالات كمال جنبلاط الديموقراطية والسلمية وكانت اقوى من دبابات الأنظمة وأسلحتها. والمشهد العربي المتحرك اليوم من البصرة الى الدار البيضاء خير شاهد على أن الديموقراطية والعدالة الاجتماعية اللتين قضى كمال جنبلاط في سبيلهما هما الطريق الوحيد للاستقرار.

• رفض جنبلاط في شكل قاطع إدخال لبنان في «السجن السوري الكبير» مؤكداً وجود صراع بين الديكتاتورية والديموقراطية. ما تفسيرك لذلك؟

هذا حدث مهم يتكرر ذكره مع كل ذكرى استشهاد منذ العام 7791. ولكن دعيني أقول إن لا فائدة من العودة الى هذا السؤال بعد أكثر من 43 عاماً. لقد بات هذا الأمر مهما فقط في معناه وفي ما يرمز إليه. هذه السجون العربية الكبيرة لا تتسع لكمال جنبلاط ولا لبن بلا ولا لخالد سعيد ولا لمحمد البوعزيزي ولا لثوار ليبيا. الأنظمة العربية اليوم سجون، وأياً تكن الشعارات التي تخدع بها شعوبها والعالم الخارجي فهي بلا جدوى، بل إن القومية العربية نفسها بحسب تعبير كمال جنبلاط وكل قومية أخرى هي سجن آخر للانسان. القوميات والأنظمة مجرد سجون اخترعها أصحاب الشعارات والمصالح لحماية أنظمتهم، لذا تخلو من الديموقراطية والحريات. كمال جنبلاط أبدى حذره الشديد من كل نظام قومي وديني، ولم يغير رأيه إلاّ قليلاً في أثناء صعود جمال عبد الناصر، لكنه صارح عبد الناصر نفسه علناً وقال له: «إن الجيش ليس للحكم وإن قمع الحريات والديموقراطية سيقود الى كارثة». هذا القول توجه به الى صديقه من على صفحات جريدة «الأنباء»، ودارت الأيام وأثبتت صدق رؤية كمال جنبلاط، بل إن عبد الناصر نفسه كان يدرك ذلك، وقد قال للمثقف العربي الكبير أنور عبد الملك في باريس: «لا تعد الى مصر لأني أنا نفسي لم اعد أستطيع أن أفعل شيئاً».

•دعا جنبلاط الى بناء الدولة الديموقراطية العلمانية. ما ابرز الخطوات التي قام بها في هذا المجال؟ وهل الحركة الاحتجاجية لاسقاط النظام الطائفي في لبنان تعكس دعوته؟

كمال جنبلاط خاض مرحلتين على الأقل من النضال السياسي، الأولى امتدت من العام 8491 حين انتخب نائباً للمرة الأولى إلى العام 8591 وعمل خلالها للوصول الى الدولة ومحاربة الاقطاع السياسي والاقتصادي وحتى اقطاع آل جنبلاط. وهنا أريد التحدث عن محطة مهمة، حين توفيت والدته الست نظيرة رفض المشاركة في الجنازة ولولا الالحاح الكبير من أصدقائه لاقناعه لما حضر التشييع وقال آنذاك «هذه آخر جنازة اقطاعية تخرج من هذا البيت». علي مدى 61 عاماً نادى جنبلاط من دون هوادة بالدولة العلمانية الديموقراطية غير التقليدية وغير الطائفية، ونجح إلى حد ما بعد ثورة 8591 التي جاءت بصديقه اللواء فؤاد شهاب الى رئاسة الجمهورية. فؤاد شهاب الرئيس النزيه والمتجرد حتى درجة القداسة، شارك جنبلاط طموحه في بناء الدولة العلمانية أو المدنية، لذلك كانت الاعوام الستة لحكم شهاب فترة ذهبية لجنبلاط، أدخل فيها الى الدولة جزءاً كبيراً من طموحاته، مثل «المشروع الأخضر» ومجلس الخدمة المدنية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي والجامعة اللبنانية التي شكلت حاضنا علميا لابناء الفقراء والطبقة الوسطى. ولكن بعدما عجز كمال جنبلاط والاصلاحيون مثله عن تأمين التجديد لشهاب، عاد التقليديون والاقطاعيون الى السيطرة على الداخل اللبناني، وتأكدت السيطرة تلك في انتخابات 2691 التي أسفرت عن فوز الطاقم الطائفي. هذا التحول أرعب كمال جنبلاط ثم اقتنع بفعل الأحداث اللاحقة بين 9691 و3791 بأن شيئاً أكثر جذرية يجب أن يحدث في لبنان بهدف التخلص نهائياً من النظام الطائفي الذي قسَّم البلد عمودياً وجعل مطلب الاصلاح مستحيلاً. وفي كتابه «في الممارسة السياسية» أكد أن الطائفية في لبنان كفيلة منع أي اصلاح سياسي، وإذا كان لا بد من الإصلاح فمن المهم تدمير النظام الطائفي، وهو ما حاول جنبلاط القيام به بين العامين 5791 و6791. ولا شك أن الحركة الشبابية المطالبة اليوم بإسقاط النظام الطائفي تمثل جوهر فكر كمال جنبلاط، لكن التغيير يحتاج الى فترات طويلة، وعلى الطبقة السياسية التخلي عن هذا الارث الطائفي الذي أدخل لبنان في أزمات دورية.

• أين «الحزب التقدمي الاشتراكي» راهناً من ارث كمال جنبلاط السياسي؟

لا أريد الخوض في هذا السؤال، والمهم أن كمال جنبلاط اغتيل كي لا تتحقق مطالبه الاصلاحية في لبنان وكل العالم العربي

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية