الاثنين، يونيو 17، 2019

أبو المجد.. قصة كوهين الثورة الذي اخترق أكثر الجبهات حساسية واغتيل ولم يمت


كان يوم الثلاثاء 16 نيسان/أبريل، يوما عاديا بمقياس الكوارث التي تشهدها سوريا منذ سنوات، ورغم أن هذا اليوم حمل خبرا عن عملية اغتيال لواحد من ضباط المخابرات الغامضين في نظام الأسد، فإن الخبر بدا طبيعيا في سياقه، إذا قلما نجا "طباخ سم" من تذوق سموم القتل والتعذيب التي جرعها لكثير من السوريين، وأمثلة ذلك بيّنة لمن أراد، يتصدرها مجرمون من أمثال: حسن دعبول، جامع جامع، هشام اختيار، رستم غزالي.. وآخرون.

في ذلك اليوم تناهى إلى المسامع خبر اغتيال الضابط بالأمن السياسي "عبد الحميد عبد المجيد"، المكنى "أبو المجد"، بفعل عملية تبنتها مجموعة ثورية تطلق على نفسها "سرايا قاسيون"، وجل ما تم تسريبه عن "أبو المجد" أنه ضابط من "دوما" اخترق فصائل الثورة في منطقة "الهامة" بريف دمشق، وشارك في باعتقال العشرات في "قدسيا" لاحقا، ولهذا جاء اغتياله جزاء وفاقا لما اقترفه من خيانة.
ولكن هذه المعلومات العامة عن عمالته لمخابرات الأسد، تبدو بسيطة جدا مقارنة بالتفاصيل التي حصلت عليها "زمان الوصل" من مصدر وثيق الاطلاع والقرب من "أبو المجد"، وهي تفاصيل نسجت قصة تشابه بل وربما تفوق في إثارتها وغرابتها قصة الجاسوس "كوهين".
قصة عمادها تاريخ طويل من الخيانة، واختراقات خطيرة وعالية المستوى في أكثر من مكان وجبهة، وختامها معلومة صادمة تؤكد بالصورة أن الجاسوس "أبو المجد" لم يلق حتفه في عملية الاغتيال.
*زكّاه القادة
يبدأ المصدر حديثه من غوطة دمشق التي كانت سباقة للانخراط في الثورة، سلميا ثم عسكريا، حيث استطاع"أبو المجد"، الضابط في مخابرات النظام، أن يحصل على تزكية من قادة معظم أو كل الفصائل الفاعلة في الغوطة، بدعوى أنه انشق وصدق في انشقاقه بعدما تيقن من إجرام النظام، وبحجة الحاجة إلى خبرته في صيانة السلاح، ومن يومها بات الرجل يعرف بلقب "أبو المجد صيانة".

وحتى يكمل "أبو المجد" الحبكة، فقد أصر على أن يبقى "انشقاقه" طي الكتمان، ولا يعلنه في شريط مصور كما جرت العادة، كما إنه رفض الانضمام لأي فصيل بعينه، متذرعا بأنه يريد أن يكون في خدمة الجميع بعيدا عن الفصائلية، فيما كان هدفه اختراق الجميع، بدءا من القيادات الكبرى.

ويؤكد المصدر أن عمله في إحدى الفصائل المقاتلة جعله على احتكاك ولقاء دائم بـ"أبو المجد"، معقبا: لقاءاتي به لا تعد ولاتحصى، فقد كنت أجلب له السلاح الذي يحتاج لإصلاح، ولكنه كان يقوم -كما اكتشفنا لاحقا- بتخريبه أكثر.
ويتابع: في البدايات أحسن "أبو المجد" عمله في إصلاح أسلحة خفيفة وثقيلة، بهدف كسب ثقة الثوار من قادة وعناصر، بل إنه شارك في تطوير بعض الأسلحة مثل قواذف "آر بي جي" وصواريخ "كونكورس"، ولكنه لاحقا بدأ في تنفيذ مهامه التخريبية في تعطيل الأسلحة، ومن بين ذلك ما كان يفعله من تركيب صواعق وهمية على الصواريخ المعدة لاستهداف النظام في دمشق ومحيطها، وقد فشل إطلاق هذه الصواريخ عدة مرات، وعندما كانت الأسئلة والشكوك تثور، كان "أبو المجد" يتذرع بإساءة الفصائل لتخزين السلاح.

"أبو المجد" الذي يقترب حاليا من سن الأربعين، واظب على مهمته المخابراتية بالغوطة الشرقية من عام 2011 حتى عام 2014، إلى أن استفاق الثوار ذات يوم فلم يجدوا للرجل أي أثر ولا خبر، ليتبين لاحقا أنه غادر نحو "الهامة" في ريف دمشق، تاركا وراءه لغزا بدأت تتكشف خيوطه رويدا رويدا.

ورغم فداحة صنيعه، فإن تخريب أسلحة الثوار بحجة إصلاحها لم يكن سوى مهمة ثانوية، أمام مهامه الخطيرة الأخرى، وأهمها اختراق قرار الفصائل ونقل تفاصيل خططها للنظام بل والمشاركة في رسم مسار معاركها، مستفيدا من احتكاكه المباشر بمعظم القادة، الذي يسميهم المصدر دون تردد، قائلا إن قائمة القادة هذه تضم كلا من قائد لواء جيش الأمة "أبو صبحي طه"، وقائد لواء شهداء دوما "أبو علي خبية" وقائد فيلق الرحمن "عبد الناصر الشمير" وقائد كتائب السيف الأموي "أبو عمر حنفي"، وصولا إلى قائد ومؤسس "جيش الإسلام" زهران علوش.
ويؤكد المصدر في شهادته  أن "أبو المجد" كان قادرا على الالتقاء والحديث مع هؤلاء القادة وغيرهم، وكان عدد منهم يتردد على "أبو المجد" في بيته، بل إن هذا الجاسوس كان يحضر اجتماعات لهم، يدلي خلالها برأيه تحت ستار "النصح" و"الخبرة" بمخططات النظام، فيما كانت نيته تعطيل أو تأخير بعض المعارك، وهذا ما فعله ونجح فيه مرات كثيرة، ومن أمثلة ذلك إفشاله اقتحام بلدة المليحة الاستراتيجية.

*اخترق "رجال الكرامة"
رغم أنه خرج في ليلة ظلماء كما يقال، فإن "أبو المجد" كان من الدهاء والخبث إلى درجة أنه أعاد التواصل مع أكثر من قيادي بالغوطة (وفي مقدمتهم زهران علوش)، مدعيا أنه خرج مكرها لمداواة أمه المريضة، وأنه سيرجع إلى دوما وإلى عمله في إصلاح أسلحة الثورة عندما تشفى.

ولكن المهمة الاستخباراتية التي نفذها في "الهامة" كانت كفيلة بإحراق بطاقته نهائيا، حيث تبين للفصائل هناك أن الشخص الذي جاءهم عام 2014 بحجة أنه هارب من جحيم القصف في الغوطة ومكث بين ظهرانيهم سنة وعدة أشهر، ما هو إلا عميل مخابراتي متورط بالفعل في عملية تفجير مستودع للأسلحة تابع للثوار في "الهامة".
وكالعادة جاء اكتشاف الأمر متأخرا، حيث كان "أبو المجد" قد فر من المنطقة واختفى، ليظهر –ويا للغرابة- في منطقة أخرى، وبمهمة جديدة قوامها اختراق صفوف "رجال الكرامة" بالسويداء التي كان يرأسها "وحيد البلعوس" قبل اغتياله على يد النظام (خريف 2015).
ويؤكد المصدر أن الخلايا النائمة للثوار رصدت "أبو المجد" في السويداء مخترقا "رجال الكرامة"، الذين تولى قيادتهم كل من "رأفت البلعوس" و"ليث البلعوس"، حيث كانت مهمة الجاسوس هذه المرة تهريب عملاء للنظام قبض عليهم "رجال الكرامة" انتقاما من النظام وجرائمه بحق "رجال الكرامة".

ورغم أن رأس "أبو المجد" بات مطلوبا لثبوت عمالته، فإن الخلايا النائمة في السويداء لم تكن لديها لا الصلاحيات ولا الإمكانات لاغتياله في وقتها، لأن مهمة هذه الخلايا كانت تقتصر على الرصد والتبليغ فقط، وهكذا تحرك "أبو المجد" نحو ساحة أخرى للاختراق وهي مدينة "التل" التي كانت تعد معقلا من معاقل الثوار المهمة في ريف دمشق عموما، والقلمون خصوصا.
وحسب مصدرنا فإن عراب نقل "أبو المجد" إلى مدينة التل كان شخصا محسوبا على الثورة يدعى "أبو اسكندر. ط"، وهذا الأخير هيأ للجاسوس اختراق صفوف فصائل معارضة في المدينة، من بينها "جبهة النصرة"، وعبر هذا الاختراق نجح "أبو المجد" في تسريب معلومات حساسة للنظام، بل وحتى في تهريب عدد من عملائه وعناصره الذين كانوا في قبضة الثوار.

ولكن هل انتهت مهمات "أبو المجد" عند هذا الحد، يجيب المصدر: لا، كاشفا أن الرجل انتقل من "التل" إلى جرمانا التي تتخذ موقعا حساسا لقربها من الغوطة، وهناك تولى "أبو المجد" الإيقاع بالخلايا النائمة والسرية التابعة للثوار، قبل أن يستقر به المقام في مدينة "قدسيا" بريف دمشق، عقب إكمال النظام لصفقة تهجير أهلها ومقاتليها الذين رفضوا "التسوية".

*عبوتان لم تقتلاه
في قدسيا تفرعن "أبو المجد" وبدا عاريا على حقيقته كضابط مخابرات أسدي متوحش، فبدأ يمارس هواياته في المداهمات والاعتقالات، وترهيب شباب التسويات للالتحاق بجيش نظامه، وصولا إلى تفعيل كل إمكانات وخلايا التجسس التي أتاحت له الكشف عن منشآت خلفتها الفصائل وراءها (مستودعات، مشاف ميدانية.. إلى آخره.).

وقد استطاع "أبو المجد" بهذه الأفعال أن يكسب صيت الضابط الشرس، وصورة الرجل الغامض الرهيب، مؤطرا ذلك بمظاهر "المرافقة" التي كانت تحيط به وتحرسه، وكان مروره في أي حي يثير الرعب، حتى جاء يوم الثلاثاء 16 نيسان الماضي، وهو اليوم الذي قررت فيه مجموعة ثورية وضع حد لأسطورة "كوهين" وخيانته وجرائمه.
فقد خرج "أبو المجد" يومها من بيته واستقل سيارته مجتازا بها بضع مئات من الأمتار، وهنا انفجرت عبوة ناسفة زرعتها "سرايا قاسيون" في سيارته، فخرج الجاسوس منها مغطى بالدماء وهو يزحف، ولجأ إلى مدخل إحدى البنايات ليختبئ به، وهناك حصل انفجار ثان كان من المفترض أن يجهز عليه نهائيا، وسرت الأنباء والصور التي تؤكد أن العميل الخطير لاقى مصرعه.. ولكن.

لكن المصدر باح بمعلومة صادمة للغاية، موثقا إياها بصورة، تفيد أن "أبو المجد" نجا من الموت، بعد أن نقل إلى مشفى المزة العسكري، حيث نجحوا في إسعافه ومداواة جراحه الخطيرة، غير إنهم لم يستطيعوا تلافي بتر قدمه اليسرى.
وقال المصدر إن "أبو المجد" تعرض لكسور وحروق بليغة في جسده، وقد خضع لسلسلة عمليات في مشفى المزة، وتم تنويمه في هذا المشفى قبل نقله إلى "مشفى الشرطة" بحرستا، كونه محسوبا على ملاك الأمن السياسي التابع لوزارة الداخلية، وما زال حتى لحظة كتابة هذا التقرير في "مشفى الشرطة".

*وبعد
فإن التفاصيل المثيرة والألغاز التي مهدت الأرضية لاختراقات "أبو المجد" غزيرة، ولم يحن بعد أوان كشف بعضها، ولكنها في النهاية تفتح الباب على أسئلة محيرة، لايمكن التكهن بإجاباتها، لاسيما أن معظم القيادات التي خالطت هذا الجاسوس إما قتلت أو اختفت من المشهد بطريقة غريبة... غريبة كغرابة سقوط المناطق التي اخترقها "أبو المجد"، لاسيما غوطة دمشق، حزام النار الذي لم يكن النظام يحلم باجتيازه إلا أن تحترق فيه جحافل كبيرة من قواته، ولكنه اجتازه بفعل الأعمال الجاسوسية والمعلومات التي قدمها "أبو المجد" كما يقول مصدرنا، عندما طلبنا منه أن يلخص قصة "كوهين الثورة".. حيث قال: معرفة أبو المجد السابقة بخطط وتكتيكات فصائل الغوطة بل وحتى تحصيناتها كان لها دور فعال في سقوطها بيد النظام، ولقد استطاع هذا العميل أن يكيد بخبث لثورتنا، ولو تم اكتشافه منذ البداية لما كنا قد وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية