ويرد في الوثائق أن حزب «الأحرار» و»الكتائب» ألحّاً في شهر حزيران وتمّوز من عام ١٩٦٧ على السفارة الأميركيّة للحصول على السلاح والمعونات الماليّة. وكتب السفير الأميركي إلى حكومته في هذا الصدد أنه ــ وإن لم يوصِ بتلبية الطلبات الواردة ــ يوصي بأن تُبلَّغ «اللجان المعنيّة» في الإدارة الأميركيّة بالطلبات في حال تغيُّر توصيته في هذا الشأن. وفي حزيران من عام ١٩٦٧، طلب شمعون رسميّاً من الحكومة الأميركيّة تسليحاً ومساعدات ماليّة باسمه وباسم بيار الجميّل وريمون إدّه، وذلك للتصدّي لنفوذ كمال جنبلاط «والمتطرّفين المسلمين». حتى شيخ العقل اليزبكي، رشيد حمادة (كان للدروز شيخا عقل يومها، والوثيقة الأميركيّة وستوكر أشارا إلى حمادة فقط كـ»زعيم درزي») طلب سلاحاً ومالاً من السفارة الأميركيّة في بيروت في ذلك الشهر. وكأن الردّ على هزيمة ١٩٦٧ كان عند كل هؤلاء في تعزيز الحضور الميليشاوي لأعداء المقاومة الفلسطينيّة واليسار في لبنان (وحلفاء العدوّ الإسرائيلي كما سيتضح بعد قليل). ولم ينسَ حمادة هذا، المتحالف مع شمعون (والذي ذكّر بتحالفه مع «الحلف الثلاثي») أن يحذّر السفارة الأميركيّة من عواقب تجهيز الاتحاد السوفياتي لميليشيا كمال جنبلاط. والنائب اللبناني في حينه، أندريه طابوريان، التقى بالديبلوماسي الأميركي تالكوت سيلي في واشنطن، أثناء زيارة الأوّل للولايات المتحدة كي يطلب هو الآخر السلاح من أميركا (لم يتضمّن كتاب ستوكر طلب طابوريان هذا، لكنه نشر الوثيقة على صفحته). وورد في الوثيقة أن طابوريان أكّد أن السلاح لن يُستعمل إلّا ضد «المتطرّفين» وأنه سيردع «التحرّك الشيوعي المعادي» (ص. ١ من الوثيقة التي نشرها ستوكر). (وطابوريان هو الوحيد الذي ذكر في لقائه مع الأميركيّين إسرائيل بالسلب، وأشار إلى اقتناع فريق من اللبنانيّين بخطورة المطامع الإسرائيليّة في لبنان).
وعندما
قصفت إسرائيل حولا في أيّار ١٩٦٨، حاولت الحكومة الأميركيّة إفهام حليفتها
بأن قدرة الحكومة اللبنانيّة على «محاربة الإرهاب» الفلسطيني وعلى الحفاظ
على انحياز الحكومة نحو الغرب تضعف. وإلحاح الميليشيات اليمينيّة ذات
القيادة المارونيّة في طلب التسلّح لم يتوقّف. ففي أكتوبر من عام ١٩٦٨ أبلغ
قيادي كتائبي القائم بالأعمال الأميركي أن الحزب قد يتقدّم بطلب تسلّح
لميليشيا الكتائب، وأن للحزب قدرة قتاليّة بعدد ٥٠٠٠ رجل وقوّة كوماندوس
بعدد يراوح بين ٥٠ و٧٠ (ص.٣٧). وأكّد القائد الكتائبي ان للحزب ما يكفيه من
السلاح الخفيف، لكنه يحتاج إلى «توحيد معايير التسلّح» وإلى سلاح ثقيل.
لكن التقرير أوضح أن الحكومة الأميركيّة لن تلبّي الطلب الكتائبي. حتى
النائب الشمعوني، فضل الله تلحوق، طالب الحكومة الأميركيّة بسلاح لمواجهة
جنبلاط. (كان هذا في زمن كان فيه الشيوعيّون اللبنانيّون يصرّون فيه على
«النضال البرلماني» الصرف).أما الاعتداء الإسرائيلي على مطار بيروت في ديسمبر عام ١٩٦٨ الذي كان فيه إسكندر غانم قائد منطقة بيروت، وقد تلقّى تحذيرات قبل الاعتداء من أجل حماية المنشآت المدنيّة بما فيها المطار (وغانم هذا كان هو الرجل نفسه الذي لامه صائب سلام على تخاذله في اعتداء نيسان ١٩٧٣ ــ عندما كان قائداً للجيش ــ واغتيال قادة المقاومة في فردان، ما أدّى إلى استقالة سلام بسبب رفض سليمان فرنجيّة صرفه من قيادة الجيش، أو محاسبته على أقلّ تقدير) فقد زاد من قلق الحكومة الأميركيّة على استقرار النظام اللبناني الحليف. لكن الحكومة الأميركيّة حوّلت الاعتداء الإسرائيلي الإرهابي على لبنان إلى مناسبة لتشجيع التفاوض وتبادل الرسائل بين الحكومة اللبنانيّة والحكومة الإسرائيليّة. ووجّه ليفي أشكول رسالة إلى الحكومة اللبنانيّة نوّه فيها بالسلوك «التعاوني» (ص. ٤١) للحكومة اللبنانيّة (مع العدوّ) على مدى عشرين عاماً، لكنه حذّر من مغبّة من أي اعتداء من لبنان على إسرائيل. وكان شارل حلو، من دون علم رئيس حكومته ومجلس النوّاب، يسعى إلى تدخّل غربي أو نشر قوّات من الأمم المتحدة في الجنوب اللبناني لحماية حدود الكيان الصهيوني من العمليّات الفدائيّة (لكن إسرائيل هي التي رفضت الفكرة التي كان ريمون إدّة من دعاتها العلنيّين).
لكن شارل حلو كان يتواصل سرّاً مع الإسرائيليّين، كما أخبر أبا إيبان الحكومة الأميركيّة في شهر أيلول. وفي رسالة سريّة ومباشرة وجّهها الرئيس اللبناني إلى إسرائيل، قال لهم إنه «يتفهّم المشكلة التي يُشكّلها الفدائيّون ضد إسرائيل، لكن الحكومة لا تستطيع أن توقف التسلّل كليّاً» (ص. ٥٨). وعندما وصل الجواب الإسرائيلي إلى حلو، ومفاده أن الحكومة الإسرائيليّة ستتخذ «الإجراءات الدنيا لحماية مواطنيها»، وصفه بأنه «يُظهر تطوّراً إيجابيّاً في الموقف الإسرائيلي». وقد أخبرت الحكومة الإسرائيليّة الحكومة الأميركيّة أن «لبنانيّين مرموقين» كانوا يتواصلون معها سرّاً وأنهم «يرحّبون باعتداءات إسرائيليّة على قواعد الفدائيّين بين الحين والآخر».
لكن الموقف الأميركي تغيّر بحلول شهر أكتوبر من عام ١٩٦٩، حين عقدت «مجموعة العمليّات الخاصّة في واشنطن»، وهي لجنة حكوميّة تجتمع للتعامل مع الأزمات، اجتماعاً خاصّاً للتباحث في شأن التدخّل في لبنان. وتركّز البحث على المفاضلة بين تسليح الجيش اللبناني وتسليح «الميليشيات المسيحيّة». ووافق كل المجتمعين على وضع خطة تكون موضع التنفيذ لتسليح الميليشيات اليمينيّة، لكن لم يكن واضحاً الظروف التي يمكن فيها مباشرة عمليّة التسليح. وزارة الخارجيّة رأت أن سقوط الحكم في لبنان يمكن أن يكون الحافز للتسليح. أما ممثّل وكالة المخابرات الأميركيّة، فاقترح تسليح الميليشيات عبر شركة أميركيّة خاصّة (مثل «إنترأرمكو») لمدّ الميليشيات بالسلاح، على أن تتكفّل الحكومة الأميركيّة بالنفقات. وبُحث في أمر التسليح عبر عمليّات إسقاط من الجوّ (ص. ٦٣). وعندما تساءل مسؤول أميركي عن سبب عدم المباشرة بتسليح الكتائب على الفور، أجابه كيسنجر بأن تسليح الجيش اللبناني مماثل لتسليح الكتائب، لأن الجيش واقع تحت «سيطرة ضبّاط متعاطفين مع الكتائب». لا نعرف حسب الوثائق ماذا حصل بعد هذا الاجتماع، لكن الاستنتاج بمباشرة التسليح يكون منطقيّاً، خصوصاً أن كيسنجر أخبر نيكسون بأنه بالإضافة إلى التسليح، فإن الحكومة الأميركيّة ستقوم أيضاً بـ»عمليّات سريّة». لكن وزارة الدفاع حذّرت من أن تسليح الكتائب سيؤدّي إلى صراع طائفي. ومن الأكيد أن الحكومة الأميركيّة قامت بتحريك أساطيلها في البحر على بعد ٤٥٠ ميلاً من لبنان لدعم النظام اللبناني. وفضّل كيسنجر تدخّلاً إسرائيليّاً على التدخّل الأميركي المباشر في لبنان.
ومن العمليّات السريّة التي اتفقت عليها الحكومتان الأميركيّة واللبنانيّة (عبر لقاء بين ميشال خوري والسفير الأميركي) محاولة «إحداث الشقاق» (ص. ٧٣) بين الفدائيّين والأهالي في جنوب لبنان. وقدّم ميشال خوري في كانون الثاني ١٩٧٠ طلباً رسميّاً من أميركا في هذا الشأن، عبر تقديم مساعدات ماليّة سريّة لـ»مؤسّسات دينيّة وسياسيّة» في جنوب لبنان، أو عبر الحصول على مساعدات من شاه إيران بوساطة أميركيّة. لكننا لا نعرف طبيعة تلك العمليّات السريّة لإشعال الفتنة بين الأهالي والفدائيّين (قد يكون قصف العدوّ للقرى من نتاج تلك العمليّات).
وعندما صعّد العدوّ الإسرائيلي من غاراته على لبنان في الأشهر الثلاثة الأولى من عام ١٩٧٠، لم تتوقّف الاتصالات الرسميّة المباشرة بين الحكومة اللبنانيّة وحكومة العدوّ. ونقل «مطران مقيم في القدس من أصل لبناني» (لم يرد اسمه في الوثائق)، وكان يلعب دور الرسول بين حكومة العدوّ ورئيس الجمهوريّة اللبنانيّة تهديداً من موشي دايان بتحويل لبنان إلى صحراء. لكن شارل حلو ردّ على التهديد المباشر بالودّ والاحترام لإسرائيل (وقال إنه كان متحفّظاً في ودّه خشية تسرّب مضمون الرسالة التي بعثها إلى دايان.) وفي رسالته، أوضح حلو أن لبنان يلعب في الماضي والحاضر دور «شرطي إسرائيل»، مع أنه لا يستطيع أن يعترف بذلك. وأضاف حلو أن تدمير لبنان سيكون بمثابة تدمير إدارة شرطة حيفا. وزاد حلو عاملاً طائفيّاً يحمل تعاطفاً مع الصهيونيّة، إذ قال «إنه ليست في مصلحة إسرائيل تدمير الدولة الديموقراطيّة غير الإسلاميّة الوحيدة وذات التنوّع الديني في المنطقة. وإن اللبنانيّين بالرغم من مشاكل تعتري تفهّمهم، فإنهم على الأقل يفهمون مشاكل إسرائيل، وأن هذا قد يشكّل رصيداً قيّماً لإسرائيل عندما تقرّر أن تندمج ــ وليس فقط أن تكون في ــ الشرق الأوسط».

الأحد, يوليو 21, 2019








Posted in:
0 comments:
إرسال تعليق