الأمر الآخر ان السفير الأميركي في لبنان، في حقبتي حلو وسليمان فرنجيّة (حتى لا نتحدّث عن غيرهما من الحقبات التي لا تغطّيها الوثائق التي بين أيدينا) كان شريكاً فعليّاً في الحكم، لا بل كان المُرشد الأعلى للرئيس اللبناني الذي لا يُقدم على خطوة من دون مشورته. وكان الرئيس اللبناني في زمن ما قبل الحرب (حتى لا نتحدّث عن أزمان أخرى) خاضعاً بالكامل لإرشادات هذا السفير، إلا في ما يتعلّق بالعلاقات مع العدوّ الإسرائيلي. إذ كان الرئيس اللبناني (مثل شارل حلو كما رأينا وسنرى) يتواصل معه سرّاً، من دون إعلام السفير، حفاظاً على السريّة المطلقة، ولأن الحكومة الأميركيّة كانت تفضّل ان تمرّ العلاقة اللبنانيّة الرسميّة مع إسرائيل عبرها.
مرّت الرسالة السريّة من شارل حلو إلى موشي دايان من دون ضجيج. لا بل ان البيئة السياسيّة اللبنانيّة لم تكن في وارد إبداء العداء للعدوّ الإسرائيلي رغم الخطب الرنانّة في الساحات العامّة. لا نعلم عدد الساسة الذين اطلعوا من حلو على مراسلاته السريّة مع العدوّ، لكن من المنطقي افتراض علم أقطاب «الحلف الثلاثي» والبطريرك الماروني (خصوصاً أن الكنيسة كانت نشطة في لعب دور الوسيط وناقل الرسائل بين العدوّ ورئيس الجمهوريّة). وقد أبلغ وزير الخارجيّة اللبنانيّة آنذاك، نسيم مجدلاني، الحكومة الأميركيّة ان «(كمال) جنبلاط، خلافاً لموقفه المتشائم قبل أيّام من تطوّرات الوضع في الجنوب، بات يشعر بإمكانيّة تطبيق بنود «اتفاق القاهرة» فقط في حال تفهّم إسرائيل وتعاونها» (ص 77). لكن الاعتداءات الاسرائيليّة على لبنان والشكوى من أعمال الفدائيّين لم تتوقّف. وقد هدّد قائد القطاع الشمالي في جيش العدوّ الاسرائيلي مندوباً لبنانياً رفيعاً في لجنة الهدنة في الناقورة بإقامة منطقة عازلة على الحدود، وحرص العدوّ على تسريب التهديد إلى الاعلام. وفيما كانت جريدة «النهار» في 7 أيّار 1969 تُبلغ قراءها أن السفير الأميركي في لبنان أكّد للرئيس اللبناني أن الحكومة الأميركيّة ستستعمل نفوذها مع حكومة العدوّ للتخفيف من الاعتدءات الاسرائيليّة، كانت التقارير الرسميّة الأميركيّة، بحسب الوثائق، تشير الى أن ليس امام واشنطن ما تفعله إزاء هذه الاعتداءات. أي ان «النهار» كانت تتبرّع بما يُحسّن صورة أميركا امام الرأي العام العربي، حتى لو كانت أخبارها مختلقة.
العلاقات بين هذه الميليشيات والحكومة الأميركيّة توثّقت أكثر. ففي
نيسان من العام نفسه، التقى شارل مالك الرئيس ريتشارد نيكسون في واشنطن
لمدة نصف ساعة (كان مالك معروفاً من قبل اليمين الأميركي المتطرّف المعادي
للشيوعيّة، فيما كان نيكسون من الأقطاب المبكّرين في حركة معاداة الشيوعيّة
الأميركيّة ــ منذ أول انتخابات نيابيّة له في جنوب كاليفورنيا ضد منافسة
له وصفها تشنيعاً بـ»السيّدة الزهريّة» لوصمها بالدمغة الشيوعيّة). كما كان
مالك معروفاً من نيكسون الذي كان نائباً للرئيس في أزمة 1958 في لبنان. لم
يعثر المؤلّف ستوكر على محضر لقاء نيكسون ــــ مالك. لكن سجلّ الهاتف في
البيت الأبيض يشير الى أن نيكسون اتصل بمدير وكالة المخابرات المركزيّة،
ريتشارد هلمز، أثناء وجود مالك في المكتب البيضاوي. وأوصى مالك الذي حمل
رسالة من البطريرك المعوشي الى الرئيس الأميركي، بالاتصال بالدول العربيّة
«المحافظة» للضغط عليها لوقف تمويلها للفدائيّين، وبتسليح «قوى خاصّة
محدّدة في لبنان». ويمكن الافتراض ان اتصال نيكسون بهلمز أثناء اللقاء كان
بهدف تسليح الميليشيات من دون المرور بأقنية السفارة الأميركيّة في بيروت
حفاظاً على السريّة.واللافت في الوثائق الأميركيّة المدى الذي كانت تُدار فيه السياسة الخارجيّة للبنان من قبل الرئيس، وبتجاهل تام لرئيس الحكومة. فعندما زار جوزيف سيسكو لبنان، منتصف نيسان 1969، لم يستطع الأخير الحديث مع الرئيس اللبناني في المواضيع الأمنيّة لأن الرئيس رشيد كرامي كان حاضراً في الاجتماع بحسب ما ذكر التقرير. لذا، كانت العلاقة بين واشنطن وبيروت محصورة بشخص الرئيس اللبناني ومَن ينتدبه سرّاً لتمثيله في العلاقة مع الولايات المتحدة. وأدّت رحلة سيسكو، إضافة إلى مداولات الخارجيّة الأميركيّة، إلى بحث مسألة إشراك الفدائيّين الفلسطينيّين في مفاوضات «السلام». لكن الطرح كان يُقابل بالرفض من قبل البيت الأبيض. وكانت مبادرة روجرز أقصى ما سمح به اللوبي الصهيوني في واشنطن.
الألاعيب السريّة بين الحكومتين اللبنانيّة والاسرائيليّة تواصلت، بالتزامن مع تكثيف الاعتداءات الاسرائيليّة على لبنان في أيّار حين غزت قوّات العدوّ الإسرائيلي لبنان، وصدر قرار من مجلس الأمن يدعو الى انسحاب إسرائيل. مع استمرار الاعتداءات ، وارتفاع اعداد النازحين من الجنوب، قرّرت الحكومة اللبنانيّة تقديم شكوى إلى مجلس الأمن. وفي واحد من اللقاءات في لجنة الهدنة في الناقورة، أخبر الجانب اللبناني الجانب الإسرائيلي ــــ وكأنه يسأله رأيه ــــ بنيّة لبنان تقديم شكوى رسميّة إلى مجلس الأمن، فما كان من الإسرائيلي إلا أن وجّه تحذيراً رسمياً للبنان، وطلبَ عدم تقديم شكوى مقابل «تخفيف» ــــ وليس وقف ــــ القصف. استجاب لبنان للطلب، ولم تقدّم الحكومة اللبنانيّة شكوى إلى مجلس الأمن، لا بل حتى لم تطلب من المجلس مجرد الانعقاد، واكتفى شارل حلو برسالة الى المنظمة الدولية.
وبحلول نهاية عهد شارل حلو، تغيّر موقف الرئيس اللبناني وموقف السفير الأميركي من مسألة تسليح الميليشيات اليمينيّة. فقط طلب السفير بورتر من سيسكو، في وزارة الخارجيّة في حزيران ١٩٦٩، إعادة النظر في موقفه من مساعدة «الميليشيات المسيحيّة». وليس لدينا النص الكامل لجواب سيسكو، لكنه وافق بورتر ان «الحالة اليوم لم تعد كما كانت في الماضي» بالنسبة إلى تسليح الميليشيات اللبنانيّة «خصوصاً المسيحيّين».
وفي لقاء بين مندوب شارل حلو الخاص ميشال خوري، والسفير بورتر، أبلغ خوري
السفير ان بعض الزعماء المسيحيّين، بمن فيهم البطريرك المعوشي، يحثّون
إسرائيل على «القيام بعمليّة حاسمة وقاصمة ضد الفدائيّين» (العبارة
بالانكليزيّة صعبة الترجمة إلى العربيّة إذ هي تحتمل أيضاً معنى «القيام
بما لم يُعمَل من قبل» عسكريّاً هنا). لكن خوري قدّر خطورة التشجيع
اللبناني لاسرائيل. وزاد الحاح رئاسة الجمهوريّة على الإدارة الأميركيّة
حتى آخر أيّام عهد حلو لتسليح الميليشيات (تتناقض هذه الرواية مع روايات
كريم بقرادوني الذي يردد دائماً ان الحكم في لبنان لم يباشر بتسليح
الميليشيات إلا بعد اشتباكات ١٩٧٣). ففي ١٧ حزيران ١٩٧٠، حثّ خوري الحكومة
الأميركيّة على تقديم مساعدة لـ»الميليشيات المسيحيّة» قائلاً انها تشكّل
رادعاً مهمّاً ضد الفدائيّين. وفي ٢٣ حزيران، طلب حلو من الإدارة
الأميركيّة، عبر ميشال خوري، تقديم السلاح إلى «الميليشيات المسيحيّة».
وكانت إجابة السفير بورتر لحلو بليغة في معانيها، إذ أجابه بأن الحكومة
الأميركيّة لن تعلمه إذا كانت قد قدمّت تسليحاً للميليشيات وأنها ستنفي ذلك
لو سُئِلت عن الأمر. فقد كان بورتر حريصاً على إفهام حلو ان تسليح
الميليشيات يكون سريّاً أو لا يكون. وفي ٢٩ حزيران تقدّم حلو بطلب تسليح
بالنيابة عن كميل شمعون لأسباب «انسانيّة». وأضاف ان ليس «بمستطاعه بضمير
مرتاح ترك المسيحيّين ينامون كل ليلة مذعورين من الإبادة على يد
الفلسطينيّين ذوي التسليح القوي وأعوانهم». وحاول حلو اقناع الدولة الكبرى
بأن تسليح الميليشيات سيكون في مصلحة أميركا لأنهم سيوفّرون عليها عناء
التدخّل المباشر لإنقاذ مواطنيهم. وأجابه بوتر بأن استجابة الحكومة
الأميركيّة ستكون «سريّة تماماً». أما في مراسلاته مع حكومته فقد أوضح
بورتر أن كل اعتراضاته السابقة على التسلّح «تجاوزتها الأحداث». وفيما لم
يجزم ستوكر بأن الحكومة الأميركيّة سلّحت الميليشيات آنذاك (لأنه لم يعثر
على وثائق تجزم بذلك) فإنه عثرَ على وثيقة لسيسكو عام ١٩٧٣ يقول فيها ان
الحكومة لا يمكن ان تنظر في شأن تسليح الميليشيات كما في عام ١٩٧٠، موحياً
انها فعلت ذلك في الماضي (ص ٨٥).
وفي صيف الانتخابات الرئاسيّة، تسارع الالحاح اللبناني من أجل تدخّل
أميركي في الاختيار. فقد كتب شارل مالك (الذي كان يدعم شمعون) مذكرّة من ٥١
صفحة للرئيس الأميركي يشرح فيها مخاطر انتخاب فؤاد شهاب. وحذّر البطريرك
المعوشي أيضاً واشنطن من مغبّة انتخاب شهاب. لكن الأخير أخبر سياسيّاً
لبنانيّاً بأن السفير الأميركي (الذي كان يكنّ اعجاباً له) مرّ عليه وأعلمه
بتأييد الحكومة الأميركيّة لانتخابه. ويبدو ان امتناع النظام المصري عن
التدخّل في الانتخابات النيابيّة ورفض النظام الناصري تبنّي أي من
المرشحين، سمح للدول الغربيّة بتزكية ترشيح فرنجيّة، فيما كان جنبلاط يسعى
(بحسب زعم شارل حلو والسفير السوفياتي) إلى تمديد ولاية حلو. لكن انتخاب
فرنجيّة سرّ الحكومة الأميركيّة، فدعا الرئيس الجديد السفير الأميركي إلى
عشاء عائلي في دارته في إهدن. وخلال اللقاء أخبر فرنجيّة الرئيس الجديد ان
مخاوفه تتركّز على اعمال الفدائيّين «والردود الاسرائيليّة». واقترح عليه
السفير بورتر ان ينتدب عنه رجلاً كي يكون الواسطة في العلاقة بينه وبين
الحكومة الأميركيّة. اختار فرنجيّة في البداية شارل مالك، الذي ذكّر بورتر
بحديثه مع نيكسون قبل أشهر والذي حثّ فيه على تسليح «ميليشيات محدّدة».
وربما لأن السفير الأميركي لم يرتح إلى مالك، عيّن فرنجيّة بعد أسابيع صهره
لوسيان الدحداح صلة الوصل مع السفير الأميركي.فور بدء المجازر في الأردن، بدأ فرنجيّة بتكرار روتين سلفه في المنصب الرئاسي. إذ جسّ نبض الحكومة الأميركيّة حول إمكانيّة «تقديم مساعدة» للبنان في حال اندلاع مواجهة مماثلة لما يجري في الأردن. وقبل يوم واحد من تسلّمه مهامه الدستوريّة، سأل فرنجيّة الحكومة الأميركيّة (عبر وسيط «مقرَّب») عن «فعلها وردّة فعلها» في حال اشتعال حرب أهليّة في لبنان نتيجة «اعمال فلسطينيّة أو سوريّة»، وفي حال طلب فرنجيّة رسميّاً من أميركا التدخّل العسكري. ورغم أن الديبلوماسي الأميركي ذكّره بأن هذه الطلبات قُدمَت في الماضي ولم تستجب لها الحكومة الأميركيّة، إلا أن طلبه نُقل إلى واشنطن. وبالفعل، جرى بحث التدخّل العسكري الأميركي في لبنان في اجتماع لـ»مجموعة العمليّات الخاصة في واشنطن». وقال مدير المخابرات الأميركيّة ريتشارد هلمز في الاجتماع: «إن الأمر يحيّر الخيال. كان الأمر سيئاً بما فيه الكفاية عام ١٩٥٨…». فيما سأل كيسنجر: «إذا لم نقم نحن بذلك، ألا يمكننا جعل الاسرائيليّين أو غيرهم يقومون به؟». وهنا ذكّرهما هارلدساوندرز بأن «لدينا خيارا إسرائيليا» جاهزا في شأن لبنان. أي ان خططاً للتدخّل العسكري الأميركي المباشر أو الإسرائيلي كانت في حوزة الحكومة الأميركيّة فور تبوّؤ فرنجيّة سدّة الرئاسة. والطريف ان الحكومة الأميركيّة كانت متردّدة في شأن التدخّل الإسرائيلي المباشر في الأردن (أو في لبنان) لخوفها من عدم انسحاب القوّات الاسرائيليّة من الأراضي العربيّة (الأردنيّة أو اللبنانيّة) التي تتدخّل فيها.

الأحد, يوليو 21, 2019




Posted in:
0 comments:
إرسال تعليق