وكان سركيس سوغانليان المُسلِّح الأبرز لميليشيات «الأحرار» و»الكتائب» (باعتراف السفير غودلي). وكان يستعمل إسم الحكومة الأميركيّة في أعماله ومعاملاته (ممّا أزعج السفارة الأميركيّة في بيروت ربّما لأنها كانت تريد ان يبقى التسليح سريّاً أو لأنها لم تكن على إطلاع كامل على أعمال المخابرات الأميركيّة، وربّما خشيت ان تؤثّر مجاهرة سوغانليان على علاقتها بالأطراف المختلفة في لبنان). وفي ٨ تمّوز حطّت طائرة بوينغ ٧٠٧ كان يملكها سوغانليان في مطار بيروت وأفرغت حمولتها في شاحنات ذات لون زيتي (ص. ١٥١). وأبلغ سوغانليان شركة «بان أم» ان الحكومة الأميركيّة وافقت على استعمال معدّات «بان ام»، وان كل الوثائق المتعلّقة بعمليّة النقل يجب ان تُرسَل إلى السفارة الأميركيّة. وأبلغ السفير غودلي المدير العام للقصر الجمهوري بطرس ديب أن «الشحنة» ليست «من شأني» (ليست من اختصاص السفارة، بل من اختصاص أجهزة أخرى في الحكومة الأميركيّة). وأفادت مصادر المخابرات الأميركيّة ان الشحنة تضمّنت بنادق كلاشنيكوف تم شراؤها من وارسو وشُحنت عبر مدريد لصالح ميليشيا الكتائب. ويبدو من ردّ فعل السفير الأميركي انه كان هناك تضارب بين عمليّات المخابرات الأميركيّة ومواقف الديبلوماسيّين الأميركيّين في سفارة بيروت. (كان السفير الأميركي في
 لبنان في أواخر 
السبعينات ريتشارد باركر لا ينظر إلى بشير الجميّل إلا كـ «أزعر»، كما 
اخبرني في سنوات تقاعده في واشنطن، عندما عملَ رئيس تحرير مجلّة «ميدل إيست
 جورنال»، فيما كانت حكومته تعمل مع الحكومة الإسرائيليّة على دعمه بقوّة، 
وبالطبع زاد هذا الدعم في ولاية رونالد ريغان).زادت وتيرة طلبات التسليح من قبل ميليشيات اليمين. كما كانت الحكومات الرجعيّة في المنطقة تحثّ الحكومة الأميركيّة على مساعدة هذه الميليشيات. فقد أخبر وزير البلاط الإيراني أسد الله علم نائب السفير الأميركي في طهران أن السفير اللبناني في إيران خليل الخليل (إبن كاظم الخليل الذي كان يشغل منصب نائب رئيس حزب «الأحرار») طلب مساعدة من إيران لميليشيا «الأحرار». وهنا، استفسر عَلَم من الديبلوماسي الأميركي ما إذا كان هناك مبادرات من قبل أميركا أو غيرها في هذا الشأن. وفيما لم تذكر السفارة الأميركيّة في تقريرها ما إذا تم الاستجابة لطلب الخليل، ذكر تقرير لوكالة الاستخبارات الأميركيّة ان الحكومة الإيرانيّة قدمت تسليحاً إلى «الميليشيات المسيحيّة». كما أشار السفير اللبناني في عمّان إلى مساعدة عسكريّة أردنيّة، لكن من دون توضيح طبيعتها.
كانت الميليشيات اليمينيّة ــــ كما ينقل ستوكر عن رواية كمال الصليبي في تأريخه للحرب الأهليّة والتقارير الأميركيّة عن الحرب ــــ تسعى إلى إستجلاب التدخّل الخارجي أو على الأقل تدخّل الجيش اللبناني إلى جانبها. وكان قصف منطقة الأسواق في صيف ١٩٧٥ جزءاً مهماً من هذا المخطّط. وقد حاول شمعون إبلاغ السفارة الأميركيّة بنيّته إنزال الجيش إلى الأسواق (بحجّة حمايتها بعد ان قدمّت ميليشيات اليمين الذريعة)، إلا أن السفارة الأميركيّة تنصّلت من قرار شمعون ــــ على الأقل وفق تقارير السفارة. لكن طلب التدخّل الأميركي لم يتوقّف ومن جهات مختلفة. فقد دعا غسّان تويني السفير غودلي إلى مأدبة عشاء في منزله، وسأله (بتكليف من سليمان فرنجيّة بحسب قراءة غير برغرسون هوز للوثائق الأميركيّة في أطروحته الجامعيّة في جامعة أوسلو، ص. ٤١) ما إذا كان يمكن للحكومة الأميركيّة النظر في طلب «تدخّل عسكري أميركي في لبنان» (ص. ١٥٥). وكان جواب غودلي (في تقريره) انه كان يظنّ ان تويني يعرف أميركا معرفة تتيح له الجواب عن سؤاله بنفسه. كما طلب تويني ان تصدر الحكومة الأميركيّة بياناً يؤيّد «وحدة أراضي لبنان». لكن السفير ذكّره بأن الإدارة الأميركيّة في عهدَيّ فورد ونيكسون فعلت ذلك في رسائل إلى فرنجيّة. وفيما تعاملت الخارجيّة الأميركية مع طلب تويني (الثاني) بإيجابيّة، كان رأي غودلي معاكساً لأن بياناً في دعم الاستقرار في لبنان «يمكن ان يُشجّع التعنّت المسيحي وسياسة حافّة الهاوية من قبلهم»، كما يمكن «أن يُفهم كتهديد من قبل السوريّين والمتطرّفين المسلمين اللبنانيّين». وقدّر السفير أن «النشاط المسيحي اليميني يتحمّل مسؤوليّة تتعدّى الخمسين في المئة عن تفجير الجولة الرابعة» (في صيف ١٩٧٥) من الحرب الأهليّة.
لكن ماذا كان الكولونيل مورغان يفعل في بيروت في ظلّ أجواء الحرب؟
ذكرت الصحافة الأميركيّة في حينه ان مورغان (الذي وصل إلى بيروت من قاعدة عسكريّة في باكستان) كان في مهمّة لتسليح الكتائب. (ورد ذلك في وثيقة أميركيّة ــــ لم تنشر في كتاب ستوكر ــــ ذُكرت في أطروحة ماجستير في جامعة أوسلو لغير برغرسون هوز عام ٢٠١٤، تحت عنوان «عرض جانبي خطير: أميركا والحرب الأهليّة اللبنانيّة، ١٩٧٥ ــــ ٧٦»). وكانت الصحافة اللبنانيّة اليساريّة (كما ورد بالتفصيل في التقارير الأميركيّة المنشورة بعد خضوعها للرقابة، والتي كما أسلفنا لا ترد في كتاب ستوكر) اتهمت مورغان بالعمل لحساب المخابرات الأميركيّة، وأنه كان في مهمّة لتسليح الميليشيات اليمينيّة. وكان خطف مورغان موضع اهتمام كبير من قبل الحكومة الأميركيّة. وتتطرّق وثيقتان من «ويكيليكس» من سنة ١٩٧٥ إلى الأمر وتشيران إلى «حساسيّة» الموضوع ودقّته بطريقة يُشتم منها بأنها مسألة عسكريّة أو استخباريّة غير عاديّة.
أما الرواية الرسميّة لمجيء الضابط الأميركي إلى بيروت فغير مُقنعة البتّة. إذ تقول إن مورغان (قاتل في حربيْ فيتنام وكوريا) وصل إلى بيروت وأقام في فندق ملكارت، في طريقه إلى مهمّة في تركيا. وهو زعم أنه غادر الفندق يوم الأحد متوجّهاً إلى مكتبة المطار لشراء صحف أجنبيّة، علماً أن المكتبة تُقفل في هذا اليوم. وقد تشكّلت لجنة خاصّة في وزارة الخارجيّة الأميركيّة (بقيادة المسؤول عن مكافحة الإرهاب) للعمل على إطلاق سراح الكولونيل. وتُظهر التقارير الأميركيّة، بما فيها «التقرير الإخباري اليومي» الذي تعدّه المخابرات الأميركيّة للرئيس الأميركي، جهل الحكومة الأميركيّة بواقع منظمّات اليسار والمقاومة الفلسطينيّة في لبنان. إذ يشير التقرير إلى ان المنظمّة الخاطفة إجراميّة غير سياسيّة، وإن تخفّت وراء شعارات يساريّة. لكن كيف تكون المنظمّة إجراميّة وهي لم تطلب أمراً لنفسها؟ وكان تقرير مماثل قد زعم ان منظمّة «إجراميّة» كانت وراء عمليّة «بنك أوف أميركا» التي نفّذتها «المنظّمة الاشتراكيّة اللبنانيّة الثوريّة» عام ١٩٧٣. ووصف تقرير آخر، مثلاً، جريدة «الشعب» (المعروفة بناصريّتها المتزمّتة) بأنها «موالية للسوفيات». وتتضح أهميّة دور مورغان في «تقرير إخباري رئاسي يومي» تضمّن فصلاً عن موضوعه، لكن نصفه خضع لمقصّ الرقيب. وهناك تقارير من كيسنجر، في حينه، تطلب من الديبلوماسيّين الأميركيّين عدم التحدّث في الموضوع. ونحتاج الى مزيد من الوثائق كي نعرف أكثر عن مهمّة مورغان الذي توفي عام ٢٠٠١، وذكر نعيه الرسمي في مقبرة «ارلنغتون الوطنيّة» الخاصّة بالقوّات المسلّحة انه تخرّج من «كليّة الاستخبارات» التابعة للجيش الأميركي. (حاول ياسر عرفات عبر وسيطه خليل خوري، ابن بشارة الخوري وشقيق ميشال خوري، مبعوث شارل حلو السرّي لدى السفارة الأميركيّة في بيروت، استغلال مساعيه «الحميدة» لاطلاق مورغان من أجل التقرّب من الحكومة الأميركيّة، كما فعلت الحكومة السورية الأمر نفسه للغاية ذاتها).
وطالب قائد الجيش اللبناني حنّا سعيد بتدخّل الحكومة الأميركيّة، واقترح على السفير غودلي حثّ الحكومات الكويتيّة والسعوديّة والمصريّة للضغط على سوريا لوقف تدفّق السلاح إلى لبنان. أما خليل أبو حمد، الذي ورد ذكره سابقاً في صدد إبلاغ الحكومة الأميركيّة عن مفاوضات سريّة بين لبنان والعدوّ الإسرائيلي في بداية عهد فرنجية، فقد اقترح على الحكومة الأميركيّة «مساعدة تلك القوى بين اللبنانيّين التي تسعى إلى الحفاظ على المجتمع الليبرالي الموالي للغرب في لبنان»، في إشارة إلى الميليشيات الانعزاليّة. لكن ستوكر يذكر ان السفارة في بيروت عارضت ذلك. وكان الجميل وشمعون لا يزالان يأملان بتدخّل أميركي في لبنان.
وفي تشرين الأول عام ١٩٧٥، وبعد احتدام المعارك، عقدت «مجموعة العمليّات الخاصّة» في البيت الأبيض اجتماعاً لإجراء مراجعة رسميّة للموقف الأميركي من الحرب في لبنان. واستمرّت الاجتماعات على مدار ثلاثة أيّام. وكانت إدارة فورد قلقة من احتمال تدخّل سوري في لبنان قد يؤدّي إلى تدخّل إسرائيلي مقابل. ويقول ستوكر (المُتحفّظ عادة في توصيف الموقف الأميركي) ان القلق الأميركي كان فقط إزاء التدخّلات الخارجيّة وليس حول «الموت والدمار في لبنان» (ص. ١٥٨). لا بل أن كسينجر كان صريحاً في قوله في الاجتماع ان «الهم الأميركي الأساسي لا يكمن في التوصّل إلى حل للمشاكل اللبنانيّة الداخليّة بحدّ ذاتها، بل في منع التدخّلات الخارجيّة» (غير الأميركيّة طبعاً) التي قد تؤدّي إلى حرب شرق أوسطيّة.
(يتبع)

الأحد, يوليو 21, 2019




 Posted in:  
0 comments:
إرسال تعليق