الأربعاء، مارس 11، 2020

الطاعون السياسي: من هتلر الى ماو والأسد

مع انتشار فيروس الكورونا المستجد، كان بديهياً أن تكتبَ المنابر والصفحات الثقافية عن تطرق الروايات والقصائد والأفلام إلى الأوبئة ومدلولها وزمنها، وكانت المفارقة أن رواية "الطاعون" للكاتب فرنسي الجنسية، جزائري المولد، ألبير كامو، التي نشرها العام 1948 في زمن الاحتلال الفرنسي وحصدت جائزة نوبل للأدب 1957، شهدت زيادة كبيرة في المبيعات بالتزامن مع انتشار كورونا، لا سيما في إيطاليا، التي تعد بؤرة الفيروس في أوروبا. ورواية "الطاعون" نفسها عرفت انتشاراً واسعاً في اليابان العام 2011 بعد كارثة فوكوشيما النووية التي قامت على إثرها السلطات بفرض حصار على المدينة واخضاعها للحجر الصحي. 

واذا ما اختصرنا مضمون الرواية، فهي تبدأ من سؤال في غاية الحدة لكنه من ضمن أسلوب كامو البديع: "ماذا بإمكانك أن تفعل إزاء طاعون يجتاح مدينتك التي أعلنت مغلقة ومعزولة.. لا مغادرين ولا قادمين.. وأنت في حالة ترقب وانتظار". يروي كامو في طاعونه كيف تحولت مدينة وهران الجزائرية، بحسب تعريف الرواية، "من مدينة وادعة لا همّ لها، إلى سجنٍ حقيقيٍّ لا يدخل إليه ولا يخرج منه أحد، منذ أن قطعت الاتصالات في المدينة أصبح سكانها كالأشباح المتحركة، فصفاتهم التي نقرأها في الشوارع وفي المنازل توحي لنا بأنهم أناسٌ ينتظرون حتفهم، تماماً كالمعتقَل الذي يعلم أنه سيُعدم، لكنه لا يدري متى سيُنفّذ فيه حكم الإعدام".

والحال أن الحديث عن مضمون "الطاعون" بات مألوفاً، ولا جدوى من العودة إليه بالتفصيل. المهم قراءة الأبعاد التي تتجاوز أحداث الرواية الظاهرة. فمن خلال قراءة الكثير من المطالعات والدراسات حول الرواية "الأسطورة"، يتبين أن كامو بنى أحداثها بطريقة التَّورية والرمزيات والمجازات... فالطاعون عند كامو ليس حقيقياً، كما يتوهم بعض المعلقين. وهران لم تعرف الطاعون في أواخر أربعينيات القرن الماضي، عرفت وباء الكوليرا قبل ذلك التاريخ بمئة عام، وطاعون كامو، بحسب الإجماع النقدي، رمزي ومجازي. ولا علاقة له بالجزائر، بل بأوروبا عموماً، وفرنسا خصوصاً، التي كانت قد اجتاحتها القوات النازية الهتلرية من دون مقاومة تذكر، والجيش الألماني الذي غزا أوروبا بسرعة تشبه تفشي الوباء. بمعنى آخر، الإيديولوجيا في مرات تتحول وباءً قاتلاً وفتاكاً، وهي تذكرنا بـ"الكتب القاتلة"("كفاحي" نموذجاً) أو الكتب التي تقدسها بعض الجماعات فتكون مصدراً فكرياً للكثير من المجازر والجرائم الجماعية والتطهيرية والعرقية...

الغزوات الكبرى والحروب الإيديولوجية هي الطاعون في مجاز كامو، ولا أحسب أن المجاز في الرواية يحتاج جهداً نقدياً لإبرازه وتبيانه. يقول الطبيب "ريو"، وهو من الشخصيات الرئيسية في الرواية: "ما لم ندركه نتيجة استغراقنا الدائم في ذواتنا، أن الطاعون والحروب تحصد الناس على حين غرة". وكامو بذاته أوضح مضمون روايته. فقال، في رد على مقال كتبه الناقد رولان بارت، عن الرواية: "رواية الطاعون، التي شئت أن تُقرأ على مستويات عديدة، تحوي مضموناً واضحاً، هو معركة المقاومة الأوروبية ضد النازية". ففي العام 1955 نشر بارت مقالة حول "الطاعون" تحت عنوان "حوليات وباء: رواية للعزلة"، لكنها لم تعجب الروائي فدخل معه في نقاش أدبي طويل.

وبعيداً من المجازات والكتابات الروائية، إذا تأملنا في الوقائع، ماذا نجد في الصين في زمن ماو تسي تونغ و"ثورته الثقافية"؟ وفي روسيا، وزمن "زوزو" ستالين واشتراكيته؟ وفي كمبوديا بول بوت وثوريته؟ وفي أووربا في زمن أدولف هتلر وعرقيته؟... أيهما أشد فتكاً: الطاعون الإيديولوجي والسياسي والديني؟ أم الطاعون البيولوجي؟ من يقرأ بعض الروايات الصينية ("بجعات برية" نموذجاً)، والتاريخ الصيني، سينتبه إلى أن ماو تسي تونغ، كان أشد فتكاً من الأوبئة و"الموت الأسود"(الطاعون). وفيروس كورونا، مقارنة بأفعال "الرفيق ماو"، ليس أكثر من صداع عابر ينتهي بحبة بنادول. لا يختلف الأمر مع هتلر. حتى الديكتاتور الصغير، أو "السيد الرئيس" بحسب توصيف أدونيس، و"المنتخب" بشار الأسد، تحصد طائراته من المواطنين، بدم بارد، وأمام مجتمع دولي بارد، أكثر بكثير من الكورونا...
ربما علينا أن ننهي هذه العجالة بعبارة الطبيب ريو: "كل منا بداخله الطاعون؛ لا أحد، لا أحد في العالم متحرر منه".. و"الجميع يعلم أن الأوبئة لها طريقة للتكرار في العالم". 

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية