لم تكن فرنسا راغبة في احتلال أفريقيا، بل كانت ترغب في محو أفريقيا
وخلق فرنسا جديدة ممتدة الأطراف في قلب قارة تُدعى أفريقيا. ففي أواخر
القرن التاسع عشر كانت فرنسا تسيطر على ثلاث دول أفريقية هي أفريقيا
الوسطى، والجابون، والكونغو. هذه البلاد المحتلة التي أصبحت تُسمى
المستعمرات الفرنسية؛ أطلق عليها الفرنسيون أفريقيا الاستوائية الفرنسية.
في قلب هذا المثلث وُجدت دولة كانت تنغص الحلم الفرنسي الهاديء، تشاد.
حيث كان المد الإسلامي يتزايد وما يرافقه من خلق روح قومية ترفض الاستعمار
بالقوة وتناهض حملات التنصير بالفكر. كذلك كانت السيطرة على تشاد تمنح
فرنسا سيطرةً كاملةً على نبات القطن التشادي، علاوة على الأيدي العاملة
التشادية الرخيصة. فخرجت القوات الفرنسية متوجهة لقتال رابح الزبير بن فضل
الله.
كان رابح سودانيًا، لكنه أسس دولةً قويةً غرب بحيرة تشاد، وجعل من
الشريعة الإسلامية القانون الرسمي لدولته الفتيّة. قاومته فرنسا بحملات
قليلة العدد، لكنه استطاع هزيمتهم، وقتل عددًا من قادة الحملات التي خرجت
لمواجهته.
فداهمته فرنسا عام 1894 بقوات أكبر عددًا وسلاحًا، لكنّ رابح هزمهم وقتل
قائدهم. شعر الفرنسيون بالإهانة فقرروا أن تكون حملتهم اللاحقة هي نهاية
رابح أو نهاية وجودهم. انتصر الفرنسيون وطردوا رابح، ثم طاردوه عبر نيجيريا
والكاميرون. لم يكتف الفرنسيون بما دون رأس رابح، فدفعوا بجنود إضافية من
الجزائر وأفريقيا الوسطى في المعركة حتى انتهت الحرب عام 1900 بقتل رابح.
فرنسا.. الاحتلال العسكري وحده لا يكفي
بعد قتل رابح تولى ابنه فضل الله القيادة، وواصل ما بدأه أبوه، تراوحت
سنواته بين انتصارات وهزائم ضد الفرنسين، لكن ضحكة النهاية كانت من نصيب
الفرنسيين فقتلوا فضل الله عام 1909. مات الأب والابن، لكن الجنود استمروا
في القتال عامين إضافيين دون اكتراث بعدم وجود فرد في القيادة. الهدف واضح
قتال الفرنسيين، وخطط المعركة هم أدرى بها، فآثروا الاستمرار حتى عام 1911،
تاريخ سقوط جميع الأراضي التشادية في قبضة فرنسا.
بسطت فرنسا نفوذها العسكري على كامل تشاد، لكن ذلك لم يكن كافيًا، ومضت
في طمس الهوية الكاملة للبلد. وفي سبيل تلك الغاية؛ بدأت فرنسا الإنسانية
إلغاء القوانين الإسلامية ومنع استخدام اللغة العربية. كذلك دمرت الآثار
الإسلامية التي تركها السابقون الذين حكموا تشاد. إضافةً لهدم المساجد وحرق
نسخ القرآن الكريم وإغلاق أية مدرسة أو كُتّاب لتعليم وتحفيظ القرآن.
كانت فرنسا تسير في اتجاهين مختلفين تجريف التربة الإسلامية وغرس البذور
الفرنسية. فتم فرض اللغة الفرنسية لغة رسمية، وفُرضت الديانة المسيحية
ديانة رسمية يحصل أصحابها على مميزات كبيرة في مقابل التضييق على أصحاب
الديانة الإسلامية.
في عام 1923 وصلت أول بعثة تبشيرية مسيحيّة تابعة للكنيسة
البروتستانتية، ثم بعد ست سنوات وصلت الحملات التبشيرية الكاثوليكية. منحت
فرنسا المُبشّرين المسيحيين كل وسائل الحماية والدعاية، وعلى النقيض طاردت
مُحفظيّ وحافظي القرآن الكريم حتى غادور تشاد للأبد. وجعلت العلاج وسيلةً
للابتزاز الديني، فلم يكن المواطنون يتلقون العلاج من أي مرض إلا إذا تركوا
الإسلام واعتنقوا المسيحية.
كل هذه التجاوزات الفرنسية لم تكن إلا تمهيدًا لمجزرة بشعة ارتكبتها فرنسا؛ «مجزرة كبكب»، مجزرة القتل الجماعي لمدنيّين عُزل.
«مجزرة كبكب».. دعوة للحوار على الطريقة الفرنسية
في 15 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1917 قام القادة الفرنسيون بدعوة
العلماء الإسلاميين في ربوع تشاد كافة للقائهم. كان الإعلان الرسمي يقول إن
اللقاء يهدف إلى النقاش والوصول إلى حل وسط بخصوص إدارة البلاد. وبالفعل
اجتمع في مدينة أَبْشة بإقليم واَداي ما يُقارب 400 عالم دين مرموق
المكانة، بالإضافةً إلى العديد من الزعماء المحليين المسلمين.
لكن القادة الفرنسيين لم يجتمعوا بالعلماء المسلمين، ولم يدخل على هؤلاء
العلماء إلا جنود بسواطير حادة في أياديهم. إذ لم يُردهم الفرنسيون قتلى
بالبارود ولا بالسم؛ بل بالذبح بدمٍ بارد عالمًا تلو الآخر. ثم جُمعت
الرؤوس المتساقطة والأجساد التي فقدت ملامحها في حفرة كبيرة في منطقة أم
كامل، أحد المناطق في مدينة أَبشة. ولولا ضخامة العدد لربما طمس الفرنسيون
أي أثر لمكان دفن هؤلاء العلماء. لكن المقبرة لم تزل باقية حتى اليوم.
لم يُنكر الفرنسيون آنذاك ارتكاب هذه المجزرة بل اعترفوا بها مبررين
جريمتهم بأنها كانت للقضاء على الرجعية وأوكارها. عرفت تشاد هذه المجزرة
باسم «مجزرة كبكب» أي مجزرة الساطور.
لكن إذا كان الفرنسيون يرونها مبررة ولا يصفونها مجزرة كبكب بالمجزرة،
فهذا طبيعي لأنهم الجناة. وإن كان التشاديون يرونها مجزرةً وجريمة ضد
الإنسانية، فهذا طبيعي أيضًا؛ لأنهم المجني عليهم، لكن مع من يقف القانون
الدولي؟
تذكر المادة السابعة (1) (أ)، أن القتل العمد الذي يشكل جريمة ضد
الإنسانية، مستندة إلى أركان محددة، من بينها: 1 – أن يقتل المتهم شخصًا أو
أكثر.
2 – أن يُرتكب السلوك كجزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي موجَّه ضد سكان مدنيين.
3 – أن يعلم مرتكب الجريمة بأن السلوك جزء من هجوم واسع النطاق أو منهجي
موجه ضد سكان مدنيين، أو أن ينوي أن يكون هذا السلوك جزءًا من ذلك الهجوم.
إذًا فوفقًا لتعريف قانون المحكمة الجنائية الدولية فإن مجزرة كبكب
جريمة ضد الإنسانية، ولا يتفق القانون الدولي ولا التاريخ مع الفرنسيين في
قولهم إن ما قاموا به مُبَرر.
تجريف الإسلام وغرس بذور الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب
بعد وقوع «مجزرة كبكب» استولى الفرنسيون حقًا على تشاد، فقد دانت لهم
السلطة الرسمية والسلطة الروحية. ولم تعد القوات الفرنسية تلقى مقاومة
عسكريةً أو ثقافية في تشاد. بدأت بعض الجمرات المشتعلة تظهر من تحت رماد
الجثث على يد عددٍ من المسلمين الذين رفضوا إلحاق أبنائهم بالمدارس
المسيحية الفرنسية. ونشأت مجموعة من المدارس الأهلية لا يتقاضى معلموها أي
أجر، فقط يفعلون ذلك للحفاظ على اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
حين علمت فرنسا بتلك الجمرات التي قد تؤرقها مستقبلًا سكبت عليها الماء
لكي تطفئها للأبد. فمن الأهالي من رضخ للإجبار وأرسل أبناءه للمدارس
الفرنسية، ومنهم من رفض، ومنهم من دفع لخَدَمه المسيحيين ليدخلوا هذه
المدارس على اعتبار أنهم أبناؤه.
وكخطةٍ طويلة الأمد منحت فرنسا اهتمامها الكامل للجنوب المسيحي على حساب
قبائل الشمال المسلمة، فتركز 80% من المدارس التي بنتها فرنسا في الجنوب
ما أتاح الفرصة لأبناء الجنوب للوصول لمراكز صنع القرار. لا يعني أن ذلك
فرنسا عملت على تنوير الجنوب، لكنها ربطت التعليم بما تريده من الطلّاب.
فإذا كانت تريد عمالة في مجال معين، سواء في تشاد أو في فرنسا، علّمتهم
الحد الأدني المطلوب لكي يستطيعوا أداء مهمتم دون أن يؤثر على جودة المُنتج
أو يزيدهم ثقافةً.
وبهذا قتلت فرنسا عصفورين بسهمٍ واحد سام؛ همّشت الشمال وأشعلت في
صدورهم مرارة الشعور بالظلم والتجاهل. لذلك لم يكن مستغربًا أن تقوم الحرب
الأهلية بين الشمال والجنوب بعد استقلال تشاد عام 1960. وظلت تحت ويلات
الحرب الأهلية 30 عامًا كاملة، ولم تنعم بالسلام إلا عام 1990. حتى أن ذلك
السلام كان هشًا لم يصمد إلا ثماني سنوات فحسب، ثم انفجر الوضع في الشمال
عبر ثورات داخلية لا تنتهي.
لا مكانة لفرنسا بدون أفريقيا
قد تبدو كلمة الاستقلال ظالمةَ بعض الشيء حين تُستخدم لوصف المصير
الحالي للدول التي كانت ترضخ للحكم الفرنسي. تشاد واحدة من 14 دولة أفريقية
كانت تحت الاحتلال الفرنسي، وواحدة من 14 دولة أفريقية تم إجبارهم وضع 85%
من احتياطهم النقدي في البنوك الفرنسية تحت رقابة مباشرة من وزير المالية
الفرنسي. بجانب أن تلك الدول ملزمة لدفع مبالغ سنوية لفرنسا تحت مسمى ديون
فترة الحرب، أي أن الدول المُستعَمَرَة تدفع للدولة المُستعِمرة تكلفة
استعمارها.
فالقائد الأفريقي الذي يرفض هذه الشروط المجحفة يكون مصيره القتل
والانقلاب، أو تُخرب بلده مثلما حدث مع سيكوو توري رئيس غينيا عام 1958 حين
قرر التمرد على هذه الأوضاع. فأصدرت السلطات الفرنسية قراراها للجالية
الفرنسية بالخروج من غينيا وحمل كل ممتلكاتهم وتدمير كل ما بنته فرنسا في
فترة استعمارها. فأحرقوا المدارس والمزارع والحيوانات والكُتب، وفتّتوا
السيارات، وسمموا الطعام الذي لم يستطيعوا حمله.
ما حدث في غينيا كان رسالةً مباشرةً لباقي دول أفريقيا؛ الخضوع
للاستعمار أو الموت. فعندما أراد بعض القادة على مدى 50 عامًا تلت أحداث
غينيا، الحصول على الاستقلال الحقيقي، كان مصيرهم الموت أو الانقلاب أو
الموت على يد المُنقلبين. إذ شهدت أفريقيا في الخمسين عامًا الأخيرة قرابة
70 انقلابًا في 26 دولة أفريقية، 62% من تلك الانقلابات حدثت في دول كانت
خاضعة للاستعمار الفرنسي، والمصادفة أنها تحدث مباشرة بعد حديث المُنقَلَب
عليه عن ضرورة الاستقلال. تشاد وحدها كان نصيبها ثلاثة انقلابات.
لأنه وكما قال الرئيس الفرنسي الأسبق، جاك شيراك، «بدون أفريقيا سوف
تنزلق فرنسا لتكون دولةً من دول العالم الثالث»، نرى أن فرنسا لا تزال تقبض
بيد خفية على أفريقيا، كي تظل صاحبة تاريخ ومكانة.
المصدر: ساسة بوست
0 comments:
إرسال تعليق