على مدى أربعة قرون، بسط شعب الفايكنغ نفوذه على أجزاء مما يعرف اليوم بجمهوريات روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا. وقد حدث أكبر توسع لدولتهم في عهد أوليغ العراف أمير نوفغورود وكييف “أم المدن الروسية” كما كانت تسمى وقتها، خلال أواخر القرن التاسع وبداية القرن العاشر الميلادي.
ويشتهر الفايكنغ، الذين انحدروا من شبه الجزيرة الإسكندنافية شمال أوروبا، بمآثرهم البطولية في الغرب. لكن أولئك التجار المحاربين شقوا طريقهم أيضا إلى أوروبا الشرقية حيث ساهموا في تشكيل كيان سياسي بمنطقة تعرف اليوم باسم بيلاروسيا أو روسيا البيضاء.
وأُطلق على ذلك الاتحاد الفضفاض المكون من إمارات مختلفة اسم “روس الكييفية” أو خاقانات الروس، والذي بقي صامدا قرابة أربعمئة عام قبل أن ينهار في النهاية إثر الغزو المغولي في القرن 13.
إسكندنافيو الشرق
شكل الفايكنغ اتحاد “روس الكييفية” منتصف القرن التاسع، إلا أن المستوطنات الإسكندنافية بأوروبا الشرقية يعود تاريخها إلى عام 750 ق.م على أقل تقدير، عندما استوطن إسكندنافيو ما قبل الفايكنغ مدينة ستارايا لادوغا (لادوغا القديمة) بالقرب من بحيرة لادوغا تجاه الحدود مع فنلندا.
وبحسب الصحفية الأميركية بيكي ليتل -في مقالها بالموقع الإلكتروني لقناة “التاريخ” (History TV)- فإن من بين القطع الأثرية التي اكتشفها علماء الآثار بمدينة لادوغا القديمة تعويذة يظهر فيها وجه أوردين إله الحرب في الميثولوجيا النوردية.
وتنقل ليتل عن المؤرخ الأميركي توماس إس نونان أن الإسكندنافيين الأوائل انجذبوا إلى لادوغا بعد ظهور نقود أو دراهم فضية إسلامية فيها، والتي بدأ تدفقها بانتظام من مناطق روسيا إلى إسكندنافيا عبر لادوغا مطلع القرن التاسع الميلادي.
ووفقا لنونان، فإن تلك العملات الإسلامية تمثل دليلا آخر على وجود الفايكنغ في لادوغا قبل عام 840 بكثير.
والتقى الفايكنغ بالمسلمين في مناطق أذربيجان الحالية وبالقرب من بحر قزوين الذي عرف الثقافتين التركية والعربية ذلك الوقت، ووصف الرحالة أحمد بن فضلان في مخطوطه أجسادهم الطويلة وشعرهم الأشقر وأسلحتهم وكذلك عاداتهم وطباعهم.
وعرف الفايكنغ في المصادر العربية بتجارتهم الواسعة مع التجار المسلمين وخاصة مناطق وادي الفولغا (غرب روسيا الحالية) كما يتضح من الكمية الكبيرة من الدراهم العربية المكتشفة في كنوز بمواقع في جزر البلطيق شرق السويد وبالقرب من ضفاف النهر الروسي، وكان التجار المسلمون يدفعون الدرهم العربي مقابل سلع الجرمانيين و”النورثمان الإسكندنافيين” مثل الفراء والجلود والعنبر والجواري.
الأمير أوليغ يضم أراضي لدولته وينقل العاصمة إلى كييف (ويكي كومنز)
الأمير أوليغ يضم أراضي لدولته وينقل العاصمة إلى كييف (ويكي كومنز)
حدث بعد عام 840 أن بسط الفايكنغ الإسكندنافيون –الذين عُرفوا في أوروبا الشرقية باسم “الفارانجيون” أو “روس”- سيطرتهم على القبائل السلافية القاطنين في الأرض التي سُميت فيما بعد “روس الكييفية”.
وقد قُسمت المنطقة بادئ الأمر بين ثلاثة من الإخوة النبلاء، حيث استقر أكبرهم ويُدعى روريك بمدينة نوفغورود، والثاني واسمه سينيوس بمدينة بيلوزيرسك. أما الأخ الثالث تروفر فأقام بمدينة إيزبورسك.
وجاء في السجل الأساسي للتاريخ الروسي -الذي أنجزه كهنة كيفان بالقرن 13 أنه “حسب رواية أولئك الفارانجيين، أصبحت مقاطعة نوفغورود (غرب روسيا الحالية على نهر الفولغا) تعرف باسم “أرض روس”. وروس كلمة اشتق منها اسم “روسيا” ومعناها باللغة النوردية القديمة “الرجال الذين يجدفون” لأن التجديف كان الطريقة الرئيسية للتنقل في أنهار أوروبا الشرقية.
وبعد وفاة أخويه الاثنين في غضون عامين، ضم روريك أراضيهما وجعل نوفغورود عاصمة لملكه. وعندما توفي روريك، استولى خليفته أوليغ أمير نوفغورود على مدينة كييف عام 882 ونقل إليها عاصمته.
وإلى جانب استيلائه على مناطق جديدة لتوسيع حدود دولة روس الكييفية، استطاع أوليغ أن يراكم ثروة عبر التفاوض مع القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية على صفقة تجارية مناسبة.
آلام ملكية بعد أوليغ
تدعم الاكتشافات الأثرية بالمنطقة رواية سجل المؤرخين الروس بشأن وجود الفايكنغ هناك، على الأقل في جزء منها. وينصح المؤرخون القراء بالتعاطي مع روايات ذلك السجل بقدر من الشك، ذلك أن بعض القصص والأخبار الواردة فيه مبالغ فيها وذات طابع أسطوري.
وعقب وفاة أوليغ، تعرضت العائلة المالكة لمحنة. فقد خلفه إيغور ابن روريك وأمير كييف الذي تزوج امرأة تُدعى أولغا. وكما فعل أوليغ قبله، جمع إيغور الجزية من الشعوب التي قهرها، لكنه على خلاف سلفه فرض عليهم مبالغ باهظة مما حدا بإحدى القبائل لاغتياله فكان أن تولت الأميرة أولغا زمام الحكم.
غير أن ما حدث بعد ذلك مع أولغا قصة أقرب ما تكون إلى الخرافة أو الأسطورة. فقد استشاطت غضبا من قبيلة الدريفليان السلافية التي قتلت زوجها.
فعندما ذهب رسل قبيلة الدريفليان للقاء أولغا لبحث أي أمير من أمرائهم ترغب في الزواج منه، احتالت عليهم ودفنتهم أحياء، بحسب السجل الأساسي للتاريخ الروسي.
ويورد السجل الروسي أيضا أن أولغا دعت رهطا من حكماء الدريفليان لزيارتها، ثم أحرقتهم أحياء داخل حمام.
نهاية روس الكييفية
كانت روس الكييفية في أغلب أرجائها دولة وثنية حتى أواخر القرن العاشر الميلادي عندما تولى فلاديمير الأول السلطة وأدخل المسيحية إليها. وقد كان ذلك التحول في الواقع نتاج اتفاق بين فلاديمير والإمبراطور البيزنطي.
فقد وافق فلاديمير في تلك الصفقة على اعتناق المسيحية، وأرسل إلى الإمبراطور ستة آلاف جندي للدفاع عن عرشه مقابل تزويجه شقيقته.
وبنى فلاديمير الكنائس والمدارس لمحو الأمية وربما لنشر المسيحية كذلك. وفي عهده، انتعش الاقتصاد وواصلت دولة روس الكييفية توسعها. وبلغ هذا الازدهار الثقافي والاقتصادي على الأرجح ذروته في عهد ياروسلاف ابن فلاديمير الذي شرع في بناء كاتدرائية القديسة صوفيا بمدينة نوفغورود.
وبعد ذلك، عانى اتحاد روس الكييفية من اقتتال أفراد الأسرة المالكة على السلطة، حتى دقت طبول الغزو المغولي بالقرن 13 في وقت كانت الدولة قد تضعضعت وتشرذمت لتنهار بسهولة.
المصدر: الجزيرة
0 comments:
إرسال تعليق