الأحد، مايو 10، 2020

السيرك الأرثوذكسيّ الكبير

لم تصل تداعيات المشهد الأرثوذكسيّ الذي شهدناه طيلة الأسبوع إلى خواتيمها بعد. من راقب هذا المشهد ولم يكن متورّطاً فيه شعر وكأنّه أمام ما يشبه فقرةً تهريجيّةً في سيرك أو وصلةً سيّئةً في مسرح الساعة العاشرة. فالأرثوذكس الذين تداعوا إلى دارة المطران الياس عودة من أجل الدفاع عن حقوق «الطائفة» كانوا أشبه برهط من الموتورين الذين يتشبثّون بعالم يتداعى. من السهل قراءة دلالات السلوك «الأرثوذكسيّ». فحين تتهاوى العوالم القديمة، يهرع البشر إلى هويّاتهم الضيّقة يلوذون بها لاعتقادهم أنّها تحميهم. ولبنان، بلد المئة سنة، يتهاوى اليوم بمنظومته السياسيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة. من هذا المنظور، يبدو دفاع الأرثوذكس عمّا يعتبرونه حقوقاً لهم مرآةً للأزمة العميقة التي يتخبّط فيها حرس المجتمع القديم بعد انتفاضة 17 تشرين، وإحالةً مبطّنةً إلى ما اجترحه الحكّام حين أفرغوا السياسة من مخزونها القيميّ وحوّلوها إلى أداة لاقتسام الغنائم.


ولكن كان الأجدر بالأرثوذكس الملتئمين في الدارة البيروتيّة العريقة أن يستلهموا العراقة، وأن يعطوا اللبنانيّين والسوريّين وسائر أهل المشرق درساً ينسجم مع تراثهم الفكريّ المضيء. هذا التراث ينطوي على خطّ بيانيّ رسمه المفكّرون الأرثوذكس في غالبيّتهم منذ أواخر القرن التاسع عشر على اختلاف انتماءاتهم القوميّة ومشاربهم العقائديّة. وهو يتلخّص بضرورة تغليب البصيرة الواسعة على الحسابات الضيّقة، والانفتاح الحقيقيّ على الآخر ونبذ الطائفيّة وفصل الدين عن الدولة. هل قرأ المتجمهرون في الدارة الأسقفيّة فرح أنطون وجرجي زيدان وميشال عفلق وأنطون سعادة؟ هل قرأوا قسطنطين زريق وشارل مالك وجورج خضر وكوستي بندلي؟ هل قرأوا جبرائيل تويني وسمير قصير وجورج مسّوح وأديب صعب والياس خوري؟ لا ريب عندي في أنّ بعضهم قرأوا، وقرأوا جيّداً. ولكنّ العزائم تأتي على قدر أهل العزم، كما علّمنا شاعر العرب الأكبر. ويبدو أنّ العزم النبويّ كان غائباً في تلك الساعة. لقد فشلت «القيادات» المسمّاة أرثوذكسيّة في كسر الصورة النمطيّة التي تحيق بكلّ طوائف لبنان اليوم: صورة الطائفة المتشنّجة المتقوقعة التي تخاف من احتمالات التغيير، ومن احتمالات الحرّيّة حين تنكسر شوكة النظام الطائفيّ. وأتى هذا الفشل عظيماً في وقعه.


على الضفة الأخرى، سمعنا خطاباً أرثوذكسيّاً يثني على رئيس الحكومة حسّان دياب ويؤكّد دعمه في مسعاه إلى تنظيف إدارة الدولة من الفاسدين وإعلاء شأن الكفاءة والنزاهة. إنّ المتتبّع للشأن الكنسيّ الداخليّ لدى الأرثوذكس في الآونة الأخيرة من الصعب عليه ألاّ يستنتج أنّ مثل هذا الخطاب هو حقّ يراد به باطل، ويهدف بالدرجة الأولى إلى نوع من «التمريك» التكتيكيّ على مطران بيروت للروم الياس عودة. ويتناسى هذا الخطاب أنّ حسان دياب، إذا افترضنا لديه حسن النيّة، لم ينجح حتّى اليوم في محاسبة فاسد واحد من طغمة السياسيّين العتاق الذين يتحكّمون بمصير البلد، لا بسبب الخطوط الحمر التي توضع في وجهه فحسب، بل أيضاُ بسبب منطق المحاصصة المقيت الذي يتربّع على عرش الممارسة السياسيّة في لبنان. يضاف إلى ذلك أنّ خطاب الكفاءة والنزاهة في الأوساط الأرثوذكسيّة العليا بات يفتقر اليوم إلى قدرته على الإقناع. فالكلّ يعرف أنّ المؤسّسات الأرثوذكسيّة، شأنها شأن غالبيّة المؤسّسات الكنسيّة الأخرى، تعاني من آفات لا تعدّ ولا تحصى، بدءاً بالتسلّط والتفرًد في الرأي مروراً بالمحسوبيّات والزبائنيّة وصولاً إلى غياب ثقافة المساءلة القائمة على العقل وهدر الأموال والطاقات. ومن بيته «من زجاج»، كما يقول المثل العامّيّ، «لا يراشق الناس بالحجارة».


لقد آن لهذا السيرك الأرثوذكسيّ أن ينتهي، وآن لنا أن نفهم جميعاً أنّ اختزال الناس في طوائف ومناصب ومرجعيّات لا يختزل شيئاً. وحان الوقت أن تخرج «القيادات» الأرثوذكسيّة من حساباتها التكتيكيّة التافهة، سواء في السياسة أو في الحياة الكنسيّة، وأن تنصرف سريعاً إلى وضع استراتيجيا شاملة تليق بالتغيّرات السراع التي يشهدها المشرق العربيّ، والتي يبدو أنّ الرئاسة الكنسيّة بالذات لم تلتقط بعد جسامة دلالاتها. ما ترتكبونه اليوم من أخطاء يا سادة، سيدفع المجتمع برمّته ثمنه غداً، لا الأرثوذكس فقط. وثمنه هو مزيد من الهجرة والشرذمة وانعدام الثقة بمؤسّساتكم والثورة على حرّاس الهيكل وتعمّق الشرخ بين إنجيل يسوع وقيادة الكنيسة. وفي نهاية المطاف ربّما ينهار الهيكل على رؤوس الجميع. ومن له أذنان للسمع، فليسمع...

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية