لا يزال رئيس الجمهورية ميشال عون في حالة إنكار تامة. يخلط بين موقعه الرئاسي، وبين دور ربما يطمح لأن يلعبه كما فعل داخل تياره، حيث له الكلمة الإرشادية النهائية. يتحدث كطارئ على الحياة السياسية اللبنانية. وهذا نهج متعمد في مواقفه لا سيما في مقابلاته الخارجية. يتحدث وكأنه ليس في السلطة منذ 15 سنة، ولم يشارك الطبقة السياسية التي تحمي الفساد، حتى أضعفها جميعها وتسيد عليها مدعياً إنه الرئيس القوي وصاحب العهد القوي. وربما يغيب عن باله الصفة التي أطلقه على نفسه "بيّ الكل". الأبوة هنا تشمل الساسة والناس وطبقة الفساد ومنظومة المحسوبيات، والتي يدفعه إنكاره إلى فصل نفسه عنها. مع تصميمه على أنه الأفضل في هذا الموقع، لأنه لا يتراجع أمام المسؤوليات (ومن ينسى تصريحه عقب انفجار بيروت؟!).
يعلن أنه يريد الإصلاح والتحقيق والشفافية. وينزع عن نفسه لقب الرئاسة،
ويلبس ثوب الطهرانية في اتهام الآخرين. حمل ميزانه للعدل حاكماً بأن ليس في
أسرته من متورطين، بينما الآخرون جميعهم من المرتكبين (العودة إلى ديباجة
"ما خلّونا").
لا يزال عون على دعمه المطلق لحزب الله. مانحاً
كالعادة ودوماً صكوك البراءة للحزب، معلناً أن كل تقارير الأجهزة الأمنية
لم تتحدث أبداً عن أي اعتداء من قبل الحزب على المتظاهرين اللبنانيين! ربما
لا يزال رئيس الجمهورية في مرحلة العام 2006، وكأنه لم يتسلم مقاليد
الرئاسة، ولم يدخل حزب الله إلى سوريا، ولم تحصل ثورة 17 تشرين. كأنه للتو
يستعد للانخراط في العمل السياسي. وفوق ذلك، عاد وأحال كل الكوارث إلى
اللاجئين الفلسطينيين والسوريين.
انعدام الندم
- هل انتم نادمون على كونكم رئيساً للجمهورية اللبنانية؟
- قطعاً لا. إن البعض من مؤيديّ يأسف لكوني اجتاز هذه الفترة الصعبة والدقيقة، في حين أن البعض الآخر يعتقد، على العكس من ذلك، أن وجودي في موقع الرئاسة يشكل فرصة، كونهم يثقون بي وبإراداتي في بلوغ المستحيل من أجل إنقاذ بلدي. وهناك مجموعات واقعة تحت تأثير الغضب، نتيجة الأحداث التي وقعت في لبنان، تنادي برحيلي من السلطة. يبقى أمر واحد بديهي بالنسبة إلي، وهو أني ما تهربت يوماً من تحمل المسؤولية. هذا ما كنت عليه كعسكري وصولا إلى تبؤو منصب قيادة الجيش. كما كنت كذلك في التزامي السياسي.. ولن أتغير اليوم وأنا في قصر بعبدا".
الفساد.. الفساد
- كيف تنوون وضع حد للفساد المستشري؟
- من خلال تطبيق القوانين. لقد انطلقت مرحلة أولى وأساسية على طريق محاربة الفساد من خلال إقرار تحقيق مالي جنائي "Forensic Audit" في المصرف المركزي اللبناني. وهذا لأمر مهم من أجل كشف ما إذا حصلت انتهاكات طاولت الوضع المالي للدولة. وسيشمل التحقيق المؤسسات الرسمية كافة من أجل تحديد مسؤولية كل منها بطريقة شفافة، على أن تتم محاسبة جميع الذين ارتكبوا مخالفات عبر استفادتهم من الدولة أمام القضاء المختص.
المساعدات والإصلاحات
- هل غدت الضغوط الدولية المشروطة بتقديم المساعدة الملحة أمراً من شأنه أن يمس سيادة لبنان؟
- إنني لا أنظر إلى كل هذا الاهتمام الدولي كوسيلة ضغط ولا كتدخل مباشر في الشؤون الداخلية اللبنانية. دول العالم ترغب في مساعدتنا، وهي تسدي إلينا التوجيه والنصح. يبقى أن القرار النهائي هو للبنان وشعبه. الملحّ اليوم النسبة إلينا هو التوصل إلى تحقيق مجموع الإصلاحات التي تعهدنا بها في مؤتمر "سيدر". وإننا نأمل أن توازي المساعدات الدولية حاجات لبنان، ما يتيح عملية النهوض به من جديد".
- هل يمكن للبنان أن يتجاوز مساعدة فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وبشكل أوسع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؟
- لا يمكن للبنان أن يتجاوز ذلك، وهو غير راغب بمثل هذا الأمر، طالما أنه هو من بادر إلى طلب دعم هؤلا الشركاء كافة. ومن جهتي، فلقد أصريت، في 9 آب الحالي، أثناء المؤتمر الدولي لمساعدة لبنان الذي انعقد بمبادرة من الرئيس ماكرون، على أن توضع إدارة كل المساعدات تحت إشراف الأمم المتحدة، حرصاً على الشفافية من جهة، وللتأكد من حسن التنفيذ من جهة ثانية".
- هل تعتقدون أن هذه المساعدات يمكن أن تقدم من دون إجراء الإصلاحات؟
- موقف فرنسا إلى جانب سائر الدول الأخرى حول هذه المسألة واضح تماماً، لا مساعدة من دون إصلاحات. لقد وصلت الرسالة ونحن متفقون حيالها، إلا أن ذلك يتطلب تشكيل حكومة. نحن في ظل نظام برلماني، ويعود للمجلس النيابي أن يمنح ثقته إلى الحكومة، كما يعود إليه أمر مهمة إقرار الإصلاحات. هذا المسلك الشرعي قد يعيق المسار المنشود، ذلك أن بعض الجهات السياسية تصر على وضع العصي في الدواليب امام أي إصلاح. لكنني من جهتي ساواصل النضال من أجل وضع الإصلاحات موضع التنفيذ".
كسر الحلقة
- عندما تقدم رئيس الحكومة الدكتور حسان دياب باستقالة حكومته، أعلن أن أيدي الدولة مكبلة أمام منظومة الفساد، هل هذا الأمر صحيح؟
- معضلة الفساد مزمنة في لبنان. وهناك منظومة سياسية تحمي الفاسدين وتتستر على ممارساتهم، كونها مستفيدة من ذلك بطريقة مباشرة. ومن الصعوبة بمكان كسر هذه الحلقة المتينة والمتجذرة التي تتخطى الانقسامات السياسية لتلتف حول مصالح مالية. أجل، إنه لأمر صعب الذهاب حتى النهاية في القضاء على هذه المنظومة، لكنني مصمم على متابعة النضال من أجل تفكيك هذا الكارتل المافيوي. لقد سعيت جاهداً إلى ذلك، خلال السنوات الأربع المنصرمة من ولايتي، لكنني أقر إنني لم افلح دائماً، بسبب أن العديد ممن يمسك بهذه المنظومة يحتل مواقع أساسية في الدولة".
- إذا ما ثبت أن أفراداً من عائلتكم متورطون في مسائل فساد، على ما يدعي البعض، هل أنتم على استعداد لتوقيفهم؟
- ما من احد من أفراد عائلتي متورط في الفساد. ولكن إذا ما فرضنا عكس ذلك، فإنني سأتعامل مع أي فرد منهم كما أتعامل مع الآخرين، بمعنى أنني سأحيله أمام التحقيق القضائي لكي ينال الجزاء الذي يستحق إذا ما ثبت تورطه.
الانفجار والتحقيق
- بماذا تجيبون ضحايا انفجار المرفأ الذين يشكون غياب الدولة؟
- أتفهم تماماً معاناتهم نتيجة هذه المأساة، وليس بوسعي إلا أن أشاطرهم هذا الألم الذي لا يوصف. ومما لا شك فيه أن باستطاعتي بلسمة جراحهم إلى حد ما من خلال أمرين: السهر على أن تجرى عملية التحقيق بشفافية تامة لتحديد المذنبين، أيأ كان موقعهم أو نسبة مسؤولياتهم. ولقد التزمت، خلال جلسة مجلس الوزراء قبل أن تتقدم الحكومة باستقالتها بأن تتم محاكمتهم. والأمر الثاني، بذل كل الجهود المطلوبة بهدف طلب مساعدة الدول الصديقة للتعويض على الضحايا. نحن سنعيد بناء بيروت ومرفئها، وأنا سأسهر على أن يتم ذلك من دون المس بالتراث الثقافي للمدينة.
- هل سجل التحقيق تقدماً؟
- إرادتي أن يتوصل التحقيق إلى خواتيمه بأقصى سرعة ممكنة. لقد وقعت الكارثة منذ أسبوعين، وحتى اليوم هناك نحو 25 مسؤولاً مباشراً أو غير مباشر في المرفأ قد تم توقيفه. يبقى أن الأهم هو في تحديد كيفية وصول هذه الكمية من نيترات الأمونيوم إلى المرفأ، ولماذا بقيت فيه منذ العام 2013 حتى تاريخ الانفجار؟ إن علامات الاستفهام كثيرة مطروحة ولا يجب إهمال أي من الفرضيات. وإنني أسهر شخصياً على ذلك، وأتابع التفاصيل ساعة بساعة وسأواصل السعي لمعرفة الحقيقة".
المئوية
- في الأول من أيلول يحيي لبنان الذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير، فأي مستقبل تحلمون لهذا البلد؟
- حلمي هو تنظيف لبنان من الفساد الذي ينخر فيه حتى العظم وإرساء أسس دولة علمانية. حلمي هو إرساء عقد اجتماعي جديد حول "العيش معا" مع كل القوى الحية. وإذا كان من الصعوبة بمكان ان نكون متحدين، فلنجد نظام عيش معا ونوقف حفر خنادق لا تساهم في حمايتنا من بعضنا البعض ولا من أنفسنا. إلا أنه من أجل تمتين أسس هذا البلد، على المجتمع الدولي أن يساعدنا في إيجاد حل لمسألة الوجود الكثيف للاجئين وللنازحين على أرضنا. لقد انطلق هذا الأمر في العام 1947 مع الفلسطينيين، ثم استتبع في العام 2011 مع موجة من نحو مليون ونصف من النازحين السوريين. واليوم، وعلى الرغم من كل النداءات التي أطلقت من أعلى المنابر الدولية من أجل عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، التي أصبحت أكثرية مناطقها آمنة، فإن هؤلاء لا يزالون في لبنان. لقد قمنا بمساعدتهم، وهذا أمر بديهي، إلا أن ذلك كان ولما يزال فوق طاقتنا. وإنه ليس من الطبيعي ولا من الأخلاقي بمكان أن يدع المجتمع الدولي بلداً صغيراً يتحمل عبئاً مماثلاً بما له من تداعيات على استقراره".
حزب الله والحرب السورية
- لماذا لا يقوم "حزب الله" المشارك في الحرب السورية إلى جانب بشار الأسد، في التفاوض من أجل تأمين عودة هؤلاء؟
- ليس حزب الله الوحيد الذي شارك في هذه الحرب، فالعديد من الدول ساهموا فيها. وبات الجميع اليوم، جزءاً لا يتجزأ من الأزمة في سوريا، كما من حلها ومن مسألة عودة النازحين".
- يأخذ الشارع غالباً على حزب الله، الأكثري، بأنه لا يجعل من لبنان أولويته نتيجة ارتباطه بإيران التي باتت منهكة نتيجة العقوبات الدولية المفروضة عليها ودورها العسكري المتعاظم في المنطقة. ما هو رأيكم تجاه ذلك؟
- لو كانت أولويته إيران عوضاً عن لبنان، لما كان مشاركاً في الحياة السياسية اللبنانية من خلال كتلة نيابية وعبر حكومات عدة وذلك منذ سنوات. إن حزب الله ملتزم القوانين اللبنانية والأنظمة اللبنانية، وهو لا يستخدم أسلحته إلا كمقاومة للدفاع عن البلد ضد إسرائيل".
-هذا أمر خاطئ، فالحزب اطلق سواعده الكبرى ضد المتظاهرين المعارضين وهو يستخدم أسلحته لمساندة النظام السوري بناء على طلب من ايران؟
- لا، حزب الله لم يعتد على المتظاهرين السلميين في بيروت. وما من تقرير للقوى الأمنية أشار إلى ذلك. أما بخصوص مشاركته في الحرب في سوريا، فلقد أجبت على سؤالكم حينما أوضحت انه ليس الوحيد".
-جنرال، لقد عايشتم الحروب اللبنانية كافة، إلا أنه ما من مرة دمرت فيها بيروت كما حصل نتيجة انفجار المرفأ، هل تعتقدون بأن لبنان يجتاز اليوم أقسى مرحلة من تاريخه؟
- لقد سبق لبيروت أن اجتازت صعوبات مماثلة نتيجة أسباب مختلفة. إلا أنه في كل مرة، نجح اللبنانيون في إزالة كل آثار الحروب وأعادوا بناء عاصمتهم. وإني لواثق أنهم سينجحون في ذلك من جديد. أجل، ستنهض بيروت من جديد بمساعدة جميع اللبنانيين وبدعم الدول الشقيقة والصديقة، وعلى الأخص بمساعدة فرنسا الرئيس إيمانويل ماكرون".
0 comments:
إرسال تعليق