الأربعاء، أبريل 14، 2021

بوسطة عين الرمانة وسوابقها.. بين الفلسطينيين والمسيحيين


 
  تعارف اللبنانيون على أن حروبهم الأهلية بدأت بما سموه حادثة أو مجزرة بوسطة عين الرمانة في ظهيرة الأحد 13 نيسان 1975. والمعروف أن مسلحين من حزب الكتائب اللبنانية في حي عين الرمانة المسيحي، هاجموا في تلك الظهيرة حافلة ركاب متوجهة إلى مخيم تل الزعتر الفلسطيني، فقتلوا 27 من ركابها الفلسطينيين... وانفجرت الحرب الأهلية.

لكن تلك  الحادثة - المجزرة، سبقتها، أقله منذ العام 1969، حوادث مماثلة، ومجابهات كثيرة بين المنظمات الفلسطينية المسلحة، التي أيدها وولاها الشارع الإسلامي، وبين الجيش اللبناني الذي أيده ووالاه الشارع المسيحي. وهكذا راح يتفاقم انقسام اللبنانيين وشقاقهم الطائفي والأهلي ويتسعان، وخصوصاً في بيروت ضواحيها المختلطة طائفياً. وقد لابس ذلك الشقاق احتقان وأحقاد وثارات راحت تتناسل في مناطق لبنانية كثيرة.

محمد أبي سمرا

عملاء وخطف ورصاص
أثناء اشتباكات أيار 1973 بين الجيش اللبناني ومسلحي المنظمات والميليشيات الفلسطينية في بيروت، حصلت موجة نزوح مسيحية مشهودة من حارة حريك. وخصوصًا بعد حادثة خطف ثلاثة شبان من أبناء عمتي التي كان منزلها وبستانها الكبير على تخوم مخيم برج البراجنة. فقد دهم فدائيون مسلحون بيت عمتي الذي كان أبو أسعد الفلسطيني المقيم في المخيم، يعمل في مزرعته بقّاراً (يعتني بالأبقار)، وجاء مع المداهمين، ربما ليدلهم إلى البيت. والأرجح أنه هو من صوّر لهم أن أبناء عمتي يملكون أجهزة اتصالات يتجسسون بها على اتصالات الفدائيين. ومصدر تصوره الساذج هذا - ولربما لابسه شيء من حقد "طبقي" على المسيحيين، أيقظته قوة الفدائيين الفلسطينيين الصاعدة - أن أحد الإخوة الثلاثة كان موظفًا فنيًّا في شركة أركسون لأجهزة الاتصالات الهاتفية وغير الهاتفية. وكان وأخويه يهوون تفكيك تلك الأجهزة وتركيبها واختبارها في بيتهم، الذي دهمه الفدائيون لخطفهم إلى المخيم، بتهمة اتصالهم بإسرائيل، بواسطة أجهزة لاسلكية متطورة لديهم في منزلهم. ولأن أحدهم كان يعاني من وهن في قلبه، أدت رجاءاتُ أمه وتوسلاتها الملتهبة فزعًا، إلى حمل المسلحين على تركه في حضنها، مكتفين باعتقال أو خطف أخويه.

لا أذكر مدة اختطاف الأخوين وغيابهما. لكنني متأكد من أن عمتي وزوجها وابنها المعتل القلب، هجروا منزلهم ومزرعتهم على تخوم المخيم الفلسطيني، ولجأوا إلى بيتنا، وأقاموا عندنا صامتين صمتًا مأتميًا شاركناهم فيه، حتى عودتهم إلى بيتهم بعد إطلاق سراح الأخوين. لكني لا أنسى ما حييت منظرهما حين عودتهما من الاحتجاز في المخيم: ثيابهما ممزقة، دم ينزف من وجهيهما، ورضوض وكدمات ظاهرة في مواضع من جسميهما. وهكذا تحققت في ابني عمتي نبوءة جارتها أم حسن الفلسطينية. فعمتي وأولادها أخبرونا أن أم حسن كانت أثناء زياراتها بيتهم، وتناولها القهوة معهم، تررد على مسامعهم ساخرة مازحة: "والله حتذوقوا زي ما ذقنا يا لبنانيي". وفي زياراتها تلك، كانت أم حسن تصطحب معها ابنتها الشابة أحيانًا. وحينما كان أبناء عمتي يسمعون أزيز رشقات نارية في الجوار، فيشتكون خائفين، متذمرين ومتسائلين عن أسباب إطلاق النار، كانت ابنة أم حسن تجيبهم قائلة: ما في رصاص، وين الرصاص؟! مش عم أسمع رصاص. آذانكم وتوهمكم أنكم تسمعون أصوات رصاص.

وبعد حادثة خطف ابني عمتي، استأجر والدي منزلاً صيفياً في عشقوت في كسروان، لا لنصطاف فيه فحسب، بل لنلجأ إليه كلما تجددت الحوادث المفاجئة والخوف من الفدائيين في حارة حريك. قبل ذلك كنا نهرب إلى بيت جدي لأمي في بزبدين بالمتن الأعلى. لكن والدي أخذ يتجنب أن نلجأ إلى بزبدين كلما دهمنا الخوف في بلدتنا الساحلية. فهو رأى مرة أخوالي المنتسبين إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي ينقلون السلاح والذخائر في سيارتهم إلى بيت جدي ويخزنونه فيه. وما زال مشهد السيارة تلك، المزينة بالزوبعة وبشعارات الكفاح المسلح، حاضرًا في ذاكرتي، لمّا أبصرتهم يخرجون منها السلاح.

خوف وتعريب
ثم اختفى اسم مدرستنا سيدة الملائكة عن الأتوكار الذي كان ينقلنا إليها في بدارو، ويعيدنا منها إلى بيتنا في حارة حريك، مروراً في الشياح والغبيري. وكان الأتوكار يمرُّ في أحد أحياء الغبيري الشعبية الداخلية المكتظة، ليوصل تلامذة من السريان السوريين من آل معمرباشي. وأثناء مروره في ذاك الحي، أخذت زمرة من فتيان الشوارع ترشق أتوكارنا بالحصى. ثم طورت هذه الزمرة تقنيات شقاوتها الحاقدة على ما يمثله اسم المدرسة المدوّن باللغة الفرنسية على الأتوكار: راح بعض الفتيان يستخدمون "نقيفات" كاوتشوكية في رمايته بالحصى. ومرة أصابت حصاةٌ وجهي، فوصلت إلى بيتنا منتفخ العين. وبعد مدة قصيرة على تكرار مثل هذه الحوادث، أزالت إدارة المدرسة اسمها عن الأتوكار، ودوّنت في مكانه بالعربية: باص مدرسة. كأنما ما حدث لأتوكار مدرستنا كان خطوة أولى على الطريق الطويلة التي أدت أخيراً إلى تعريب لبنان.

وفي ذلك الوقت تضاعف تغيّر مظاهر الحياة اليومية وملامح العمران في حارة حريك: حلّ في حيّنا ساكنون جددًا، منهم عائلة جنوبية نزلت في الطبقة التي تعلو بيتنا في البناية. كانت تلك العائلة تضم عدداً كبيراً من أولاد جعلوا هدأة العيش في البناية من الذكريات. ومرة هوى صحن من شرفة بيت العائلة الجنوبية، فكاد أن يصيب أمي على شرفة بيتنا، قبل تحطمه على بلاطها وتطايره شظايا أمامها. وحين نزلت جارتنا للاعتذار من أمي، رأيت للمرة الأولى امرأة محجبة على نحو لم أره من قبل في نسوة حارة حريك، اللواتي لم يكن مظهر معظم المسلمات الخارجي منهن يختلف عن مظهر المسيحيات. فالمسلمات السافرات كنَّ كثيرات. أما اللواتي تضعن إشاربات على رؤسهن، فلم تكن هذه لتحجب شعرهن كله. وفي مناسبات العزاء المشتركة بين السكان "الأصليين"، غالبًا ما كان التمييز معدومًا بين مظهر المسلمات والمسيحيات اللواتي كان بعضهن يضع على رؤوسهن إشاربات في أوقات ذهابهن إلى الكنيسة.

ولا أدري اليوم لماذا يرتبط في ذاكرتي تغير حال جارنا جودت البسطاوي - زوج المرأة التي كانت تبدو في هيئة "أرتيست" تائبة أو متقاعدة - بتغير ملامح الحياة المحلية في الحارة، وتفشي الصخب والخوف فيها. فالنساء في حيّنا صرن يجفلن ويتراجعن عن شرفات بيوتهن، كلما أبصرن جودت على شرفة بيته، إذ أخذن يشاهدنه يخرج إلى الشرفة عارياً ويقوم بحركات نابية.

حرب على أعياد المسيحيين
اشتبكوا، نغّصوا العيد: هذه هي العبارة التي رحت أسمع أهالي حارة حريك المسيحيين يرددونها ويتبادلونها في النصف الأول من السبعينات، في أعياد الميلاد والجمعة العظيمة وعيد الفصح، وسواها من المناسبات، كالكرمس السنوي الذي كان يُنظّم في باحة الكنيسة أو في ملعب مدرسة راهبات حارة حريك. لا أدري لماذا راحت الحوادث والاشتباكات والاستنفارات المسلحة، تتكاثر في الأعياد المسيحية. حتى أن الأهالي أخذوا يعتبرون توقيتها مقصود، لتسميم حياتهم وترويعهم وحملهم على النزوح من بيوتهم وبلدتهم. وفي واحدة من حوادث إطلاق النار، أصيب شاب برصاصة في عموده الفقري، فانشلّت قدماه، ثم لم يلبث أن توفى بعد أشهر أمضاها مقعداً.

من نافذة صالون بيتنا رأيت مرة، شابًا دونجوانيًا يقود سيارته "الشلانجر السبور" منطلقًا "يشّفط" مختالًا بها في الشارع. وفجأة سمعتُ صوت رشقات نارية من جهة المخيم، وأبصرت الدونجواني يوقف سيارته ويخرج منها غاضبًا، ويغلق بابها بقوة، متلفتًا ومحدقًا في اتجاه المخيم. ثم سمعته يرفع صوته ويقول حانقًا: عالقة؟! عالقة ما هيك؟! عالقة؟! فعلمت أن مروره صادف أثناء استنفار المسلحين الفلسطينيين واشتباكهم في مخيم البرج وعلى تخومه القريبة من الحارة. نعم عالقة، أكيد عالقة، قال رجل كان يجلس على كرسي على الرصيف، مجيبًا الشاب، الذي التفت إلى الرجل، ثم أدار رأسه مجدداً ورفع يده مشيرًا نحو المخيم، وقال: عالقة، خلّيها عالقة، وك.... أختا ما تروق. وفي غضب دونجواني صعد الشاب إلى سيارته، وانطلق بها مسرعاً عائداً إلى حيث أتى.

مسخرة السلاح المأسوية
مشهد حارة حريك الصامت والحزين، ذاك الذي كنت أبصره بين العصر والمغرب من نافذة مطبخ بيتنا، راسخ رسوخًا أبديًا في ذاكرتي، كأنه المشهد الأخير لتلك البلدة ولطفولتي وصباي فيها. وهو مشهدٌ - حالةٌ متكررة راحت تنتابني، تشجيني وتقلقني، بعد عودتي من مدرستي في شارع بدارو إلى بيتنا في عصاري النهارات. لا أدي كم من الوقت والأيام ظل ذاك المشهد يتكرر: شحوب شفيف يفلِّف العالم، فيما يزوغ بصري، عبر نافذة مطبخنا، عائمًا على بيوت وبنايات تتخللها قطع من حقول وبساتين تتراءى ممتدةً متباعدة حتى حدود مطار بيروت الدولي. لكن الأكيد أن ذاك المشهد - الحالة انطبعا في حواسي وكياني سنوات قبل حادثة أو مجزة 13 نيسان 1975 بفلسطينيي بوسطة عين الرمانة الشهيرة، وظلا يتكرران طوال أيام حرب السنتين (1975 - 1976).

ومن الحوادث التي تزامن ذاك المشهد - الحالة، أتذكر سعيَ شبان مسيحيين من حارة حريك للحصول على بطاقات تفيد أنهم ينتسبون إلى منظمات فلسطينية مسلحة، ليتداركوا بها قلقهم وخوفهم أثناء تنقلاتهم اليومية بين بلدتهم وسائر أنحاء وجهات بيروت وضواحيها. وهي بطاقات يحملونها ويبرزونها لتؤمن لهم الحماية من الخطف في أوقات نصبِ حواجزَ مسلحةٍ فجأةً على الطرق، لخطف العابرين المتبادل على الهوية الطائفية. وكذلك من الحواجز الثابتة التي نصبتها بين الأحياء والمناطق المنظماتُ المسلحة الفلسطينية، وسواها اللبنانية اليسارية والعروبية الحليفة. وسختْ تلك المنظمات في توزيع بطاقاتها العسكرية التي تحمل أحيانًا رتبا عالية.

قبل ذلك كان أشخاص يقيمون ويعيشون على هوامش مجتمع حارة حريك المحلي، قد أخذوا يماشون تمدّد النفوذ الفلسطيني وسلاحه في بلدتنا، فيما كانت وتائر تحولها العمراني والسكاني تتسارع لتصير دائرة بلدية من ضواحي بيروت الجنوبية. ومن أولئك الأشخاص فلسطينيٌ مسيحي يدعى تادرس سطاس، متزوج من امرأة مسيحية من أهل الحارة "الأصليين"، ويسكن الزوجان قريبًا من البناية التي فيها بيتنا. وكان تادرس متواضع الحال، ويعمل دهانًا مثل سواه من فلسطينيي مخيم برج البراجنة المسلمين الذين كان بعضهم عمالًا زراعيين ووراقين وعمال ورش بناء. وبعض الجيران في حيّنا كانوا يشفقون على تادروس، فيما يعامله آخرون معاملة دونية مذِلَّةً، أسوة بسواه من العمال الفلسطينيين المسلمين. وبعد حيازة تادروس على قطعة سلاح من منظمة فلسطينية وبطاقة انتساب إليها، بدا كما لو أنه يسلك سلوكا ثأرياً من مذلّة وضعه السابق، فأخذ أحيانًا يحمل بندقيته الحربية ويتمشى بها في شوارع المحلة.

وأذكر من الساعين في الحصول على بطاقات منظمات عسكرية فلسطينية، شابًا من آل الشويفاتي، هاجر لاحقا إلى أستراليا. وكان على الحاصلين على تلك البطاقات أن يختاروا أسماء "حركية" تُدوّن على بطاقاتهم، ويُفترض أنها تخفي أسماءهم الأصلية المسيحية. لكن الشاب الشويفاتي جعل اسمه الطفولي الذي يدلّعُه به أهلُه وجيرانه (زوزو)، اسمًا "حركيًا" له، وهو تصغير لاسمه الأصلي (جوزف). والأغرب والأشد كاريكاتورية من اسم الشويفاتي الحركي، حصوله على بطاقة عسكرية برتبة عقيد في جيش التحرير الفلسطيني. ولمّا علم الدركي المسلم الذي يسكن فوق بيتنا في البناية برتبة زوزو العسكرية هذه، أخذ يسخر منه ويناديه: العقيد زوزو. ثم يسأله: كيفك سيادة العقيد زوزو اليوم، كيف أحوالك، أيمتى بدك تحرر القدس؟ وبدوره أخذ العقيد المزعوم يغيظ الدركي ممازحاً، فيجيبه: هلق واحد متلك دركي بشريطة واحدة (عريف)، صار لازم يضربلي سلام ويأديلي التحية العسكرية، يالله تأهب لشوف. لكن الدركي سرعان ما يجيب زوزو قائلًا: روح من وجهي وليه، واحد لاجىء فلسطيني، غور عن وجهي. وغالبًا ما كان هذا الحوار الهزلي يطلق قهقهات سامعيه من الجيران.

ومن حوادث تلك الأيام استدعاء والدي مرة مصلِّح أعطال أجهزة التلفزيون، الذي كان يعرفه ويستدعيه كلما طرأ عطل على تلفزيوننا في البيت. وكان المصلح شابًا شيعيًا من أبناء برج البراجنة. وحين حضر في تلك المرة الأخيرة إلى بيتنا، كان يحمل عدّة التصليح في جعبة عسكرية تحوي - إضافة إلى العدّة - طلقات أسلحة حربية وقنابل يدوية. فأثار ذلك استغراب والدي وخوفه، فقال له الشاب إنه يحمل بطاقة خاصة من أبو عمار (ياسر عرفات) الذي يصلّح له أجهزة الاتصال اللاسلكية في مكتبه. ولم يلبث الشاب أن أخرج علبة معدنية صغيرة من جعبته، وقال لوالدي: وهذه هدية خاصة من أبو عمار. ثم فتح الشاب العلبة وعرض علينا محتوياتها قائلًا: شوفو شوفو، هي مسدسات كاتمة للصوت. لم يصدّقه والدي، لكنه ظل مضطربًا خائفًا، فيما هو ينظر إلى تلك الأشياء المعدنية الصغيرة التي في أحجام وأشكال مستحضرات الزينة التي تضغها النساء في حقائبهن اليدوية في أوقات خروجهن من المنازل.

فجر التحرير والعودة
وأتذكر مشهد مظاهرة مسلحة لملثمين تسير وسط شارع حارة حريك الرئيسي في نهار عيد رأس سنة 1975. خلف المسلحين الملثمين مجموعات من شبان وأولاد، متجهين نحو ساحة البلدة. في مقدمة التظاهرة لافتة مدونة عليها عبارة: عام 1975 فجر جديد، عام التحرير والعودة.
وفي نهار الأحد 13 نيسان 1975، عادت أمي من سفرة سياحية، فاصطحبنا والدي في سيارته للغداء في مطعم في الجبل. عندما عدنا مساء من طريق غاليري سمعان متجهين نحو كنيسة مار مخايل في الشياح، رأينا رجال قوى الأمن الداخلي منتشرين بكثافة في الطرق والشوارع. وبدا الناس على حال من الترقب والقلق والحذر في حينا. فأخبر الجيران أمي وأبي بما حدث في عين الرمانة. وبينما جلست وأختي نشاهد التلفزيون في بيتنا، ذهب والدايّ إلى منزل أحد الجيران. وفي لحظة احتباس أنفاسنا حيال مشهد مرعب من المسلسل التلفزيوني، دوى انفجار هائل أرعد فرائصنا، واندفع جسمانا، أختي وأنا، من تلقائهما عن المقعد الذي كنا جالسين عليه في الصالون قبالة التلفزيون.

وكان ذلك الانفجار فاتحة زخات متقطعة من الرصاص، لم تلبث أن أخذت تعنف وتتواصل وتتخللها سلسلة من الانفجارات المتتالية في ساحة حارة حريك وعلى طول الشارع الرئيسي فيها. ومثل غيرنا من الأهالي خرجنا إلى شرفة بيتنا، فرأينا النيران تشتعل في المبنى القديم الذي فيه مركز حزب الكتائب وفي استديو التصوير تحته. وظلت الانفجارات وزخات الرصاص تتوالى حتى ساعة متأخرة من الليل، فيما الأهالي ينزرعون خلف نوافذ بيوتهم تنتابهم موجات من القلق والذعر حيال ما يحدث من حولهم ويشاهدونه: تفجير الصيدلية القريبة من الكنيسة، نهب المحال التجارية وحرقها، سرقة الأتوكارات من ملعب مدرسة الراهبات، إشعال النار في محطة المحروقات... ولمّا توقفت الانفجارات وزخات الرصاص، أنزلنا أبي وأمي من البيت إلى السيارة، وانطلق بها والدي إلى بيت جدي لأمي في بزبدين بالمتن الأعلى، فنمنا بقية ليلتنا هناك.
قبور للغرباء في ديار الخائفين
..وتزايدت موجات النزوح السكاني المسيحي من حارة حريك في حرب السنتين وتوسعت، بعدما رسمت جولاتها الأولى خطَ التماس الحربي وثبّتته المنظمات والميليشيات المسلحة في بيروت وضواحيها التي انقسمت شطرين طائفيين، غربية وشرقية. ونزح كثيرون من أهالي الحارة، فأقاموا في بلدة الحدث القريبة، وانخرط شبانهم في حزبي الكتائب والوطنيين الأحرار. أما أسرتنا فعاشت جولات تلك الحرب وهدناتها متنقلة بين بيتنا في الحارة والبيت الذي استأجره والدي في بلدة عشقوت الكسروانية.

وفي حرب السنتين عرفتْ حارة حريك ظاهرة جديدة: استضافت مقبرتها قرب كنيستها دفن كثيرين من القتلى المسيحيين الغرباء، الذين لا يعرفهم بقايا سكانها وأهلها "الأصليين". كان أولئك القتلى مسيحيين غادروا بلداتهم وديارهم المسيحية في جبل لبنان، أو نزحوا منها خائفين، أو طاردتهم فيها وطردتهم منها الميليشيات المسيحية في بدايات الحرب وفي جولاتها المتلاحقة. فأقاموا وعاشوا مقاتلين متفرغين في أحزاب "الحركة الوطنية اللبنانية" و"قواتها المشتركة" إلى جانب ميليشيات المنظمات الفلسطينية، وسقطوا على جبهات القتال في بيروت الغربية وضواحيها وفي جبل لبنان، ولا أهل لهم في المناطق التي حاربوا وقتلوا فيها ليتعهدوا مراسم دفنهم.

وكان معظم القتلى الذين استضافتهم مقبرة حارة حريك من مسيحيي الحزبين الشيوعي والسوري القومي. وقتلوا كما دفنوا مهجّرين، لأن الميليشات المسيحية تسيطر على ديار أهلهم المسيحية. لذا راح مسيحيو حارة حريك -الخائفون و"الصامدون" في ديارهم التي تسيطر عليها أحزاب أولئك القتلى- يستقبلون مرة كل أسبوع أو أسبوعين قتيلًا مسيحيًا شيوعيًا أو سوريًا قوميًا مهجرًا من دياره ويستحيل دفنه فيها.

أما لغة حرب السنتين الأهلية وشعاراتها فكانت تقول إن أولئك المسيحيين المحازبين المهجرين، سقطوا في معركة "النضال الوطني"، "دفاعًا عن المقاومة الفلسطينية وعروبة لبنان وديموقراطيته ووحدته"، ضد من "يطعن المقاومين الفلسطينيين في الظهر"، و"لإحباط المؤامرة الانعزالية (المسيحية) الرجعية والصهيونية والإمبريالية لتقسيم لبنان".

ولم أدرِ آنذاك ولا أدري اليوم، ماذا كان يفكر أهالي حارة حريك المسيحيون ويشعرون، فيما هم يشيّعون أولئك القتلى إلى مثواهم الأخير في مقبرتهم القريبة من كنيستهم القديمة التي هجرتها مناسبات الفرح. وفتحت المقبرة والكنيسة أبوابهما لمآتم مستعجلة بائسة، موتاها شبانٌ مقاتلون "غرباء" لا يعرفهم أهل الحارة، بل يعرفون فقط أنهم مسيحيون قاتلوا وقتلوا في صفوف الميليشيات التي تخيفهم وتروعهم في بلدتهم المتأهبين للهجرة منها، والمتأهبة للأفول.

ولكن ليس من الصعب تخيّل مقدار القسوة والوحشة اللتين شعر بهما بقايا أهالي الحارة، فيما هم يشيّعون أولئك الغرباء إلى المقبرة. وكذلك القسوة والوحشة اللتين كابدهما أهل أولئك القتلى، فيما هم يتلقون أخبار مقتل أبنائهم الفارين من ديارهم، ودفنهم في مقبرة غريبة، بعد قتالهم وإطلاقهم نيران أسلحتهم على مناطق أهلهم، ديار الأعداء "الانعزاليين". وكان على أهلهم هناك في ديارهم، أن يكتموا أخبار مقتل أبنائهم حتى عن جيرانهم، وعدم إظهار حزنهم وحدادهم عليهم، لأن إظهارهما يعني أنهم يتعاطفون مع الأعداء. وقد يعرضهم هذا للطرد من ديارهم إلى ديار الأعداء.

ومثلما كانت مقبرة حارة حريك مثوى أخيراً لأولئك الغرباء، كانت أيضًا محطة للراغبين في الهجرة من سكان المناطق المسيحية إلى خارج لبنان. ومنهم أهل أولئك اليساريين المسيحيين، غرباء المقبرة والقبور، الذين يزور أهلهم قبورهم فيما هم يتهيأون للهجرة. فحينما كان مطار بيروت الدولي يُقفل في أوقات من حرب السنتين، كان الراغبون في الهجرة يأتون من مناطقهم المسيحية إلى الحارة، فيمكثون فيها بعض الوقت لانجاز معاملات هجرتهم، منتظرين أن يفتح المطار القريب ويُتاح منه السفر والهجرة إلى خارج لبنان. وما تزال أطياف وجوه كثيرة من أولئك العابرين في ديارنا حاضرة في ذاكرتي حتى اليوم.

نزوح أخير وانتحار
انتهت حرب السنتين بدخول القوات السورية إلى بيروت في خريف 1976، فأخذ ضباط سوريون أقاموا حواجزهم العسكرية ومراكزهم الأمنية في بلدتنا، يزورون بقايا سكانها المسيحيين في بيوتهم، لـ"طمأنتهم" وحضِّهم على "البقاء في ديارهم". أتذكر واحداً من أولئك الضباط جالسًا في صالون بيتنا، ويتحدث إلى والدي الذي كان صامتاً شارد الذهن تقريبًا. ومما قاله الضابط ذاك: نحن وإياكم قلب واحد. ورئيسكم المنتخب الياس سركيس سيوقع معاهدة دفاع مشترك مع الرئيس حافظ الاسد. وغداً سيشترك ابنك (أي أنا)، في دورات تدريبية معنا.

واشتد لون الحياة الرمادي في تلك السنوات بين أعوام 1976 و1980، على الرغم من بقاء بعض رفاقي في الحي وفي مدرسة سيدة الملائكة في بدارو، فيوصلنا والدي معًا إليها صباحًا في سيارته، ويعيدنا منها إلى الحي في عصاري النهارات. وكان لي في المدرسة رفاق يقيمون في شارع سامي الصلح ورأس النبع، فنتبادل الزيارات البيتية. وفي أعياد ميلادنا كان المحتفى به يقيم له أهله حفلة "بارتي" بيتية، يُدعى إليها تلامذة وتلميذات الصف. وكنت أشعر أن أهلنا يوهموننا ويوهمون أنفسهم بأن الحياة ليست رمادية، ولا زالت على سابق عهدها.

وفجأة وصل والدي مرة إلى مدرستي في بدارو، قبل موعد انصرافنا المعتاد منها، ومصطحباً في سيارته جارنا الدركي المسلم المقيم في البناية التي بها بيتنا. وكان قلقاً خائفاً، وقال إنه أتى لاصطحابي وأختي من المدرسة، خشية منه علينا من موجة خطف اجتاحت بعض المناطق القريبة من خطوط التماس التي اندلعت عليها اشتباكات مفاجئة. ومن بدارو إلى حارة حريك في السيارة، أخذ جارنا الدركي يدل والدي إلى الطرق الداخلية والفرعية التي عليه أن يسلكها، ليتلافى الرئيسية التي قد تكون أُقيمت عليها حواجز للخطف الطائفي. وقرب معمل لافروتا في الشياح، رأيت من نافذة السيارة واحداً من المشاهد التي لا أنساها: رجال وشبان معصوبو العيون، أيديهم خلف ظهورهم، مصطفون ووجوههم إلى جدار أمامهم، وخلفهم جمع من المسلحين الغاضبين الموتورين. لا أدري لماذا تخيلتني في مكان أحد أولئك الشبان المصطفين أمام الجدار، والموشكين في استسلام على مغادرة الحياة والعالم، عالمنا الذي لا تفصله عن صخب الحياة ودبيبها وفوضاها ورعبها فيه، أكثر من بضعة أمتار.

ولم نعد نطيق الحياة في حارة حريك. حتى جيراننا المسلمون أخذوا ينصحوننا صراحة بأن نغادر: إذا حصل شيء سينكِّلون بكم، أخذ بعضهم يقول لنا، لحملنا على المغادرة. ولأن والدي كان يحدس، ربما، ما يخبئه لنا القدر في حال مغادرتنا نهائيًا بيتنا وبلدتنا، كان يقول لناصحيه: ولو! نحن أخوة، ونحن في حمايتكم. ولمّا قال مرة جارنا الشيعي الأقرب لوالدي: العين بصيرة واليد قصيرة، يا جار، ونحن مثلكم لا نستطيع أن نفعل شيئاً؛ قرر والدي الرحيل للإقامة نهائياً في بيتنا الصيفي في عشقوت الكسروانية.

لكننا لم نغادر وحدنا، بل في موكب من عشرين سيارة من بقايا عائلات حارة حريك المسيحية. كان الجميع موقنين أن خروجنا هذا هو الأخير الذي لا عودة لنا بعده إلى حارة حريك.

شقيق الرجل البسطاوي الذي يسكن في الحارة قريباً من بيتنا، ويعمل محاسباً في مجلة "الحوادث"، كان في تنظيم "المرابطون" العسكري، ومن عناصر الحاجز المشترك مع المسلحين الفلسطينيين، في محلة الطيونة، حيث كان علينا أن نعبر خط التماس متجهين إلى المناطق المسيحية. أمر مسؤول الحاجز سائقي السيارات العشرين بالنزول من سياراتهم واللحاق به إلى مقره، فمشوا خلفه صامتين واجمين. بعض النساء والأولاد في السيارات، اجتاحتهم نوبة من البكاء، فجلب لهم شقيق الرجل البسطاوي أكواباً من الشاي.
وحين عاد والدي إلى سيارتنا مطأطئ الرأس صامتاً، رأينا دموعاً حبيسة في عينه، ثم بكى فيما هو يروي لنا ماذا جرى في المكتب. قال إن عناصر الحاجز أخذوا يؤنبون الرجال المزمعين على المغادرة، قائلين لهم: أنتم تتركون دياركم وبيوتكم بملء إرادتكم، وغدًا يُقال وتقولون إننا نحن من يهجر أهالي حارة حريك المسيحيين ونطردهم ونحتل بيوتهم. لذا لن نسمح لكم بالمغادرة، إلا إذا وقّع كل منكم مستنداً يفيد أنه غادر من تلقاء نفسه وبإرادته ورغبته الكاملتين، من غير ضغوط ولا إكراه. وقال والدي إنه وقع المستند، كمن يوقع قرار إعدامه، لكن بلا اكتراث.

ووصلنا إلى عشقوت حاملين بعض الثياب والكتب وكل ما لدينا من صور فوتوغرافية. وبعد مدة قصيرة علمنا أن منزلنا في حارة حريك احتلته عائلة شيعية من الجنوب.

ولم يشأ أبي وأمي أن نتابع تعلمنا، أختي وأنا، في مدرسة جديدة بعشقوت أو قريبة منها، حرصًا منهما على عدم أشعارنا بانخلاعنا النفسي من بيئتنا التربوية والاجتماعية. وظل والدي يستيقظ ويوقظنا في الخامسة فجرًا، ليوصلنا بسيارته إلى مدرستنا سيدة الملائكة في بدارو، ويذهب إلى عمله في شركة رسامني لبيع السيارات في الشياح، جنوب عين الرمانة.

لكن جو مدرستنا في بدارو سرعان ما بدأ يتغير: غاب عنها زملائي القدامى، وانتهى الاختلاط الطائفي السابق بين تلامذتها، فصاروا في غالبيتهم الساحقة مسيحيين، من فرن الشباك وعين الرمانة وبدارو، فلم يبق في صفي سوى تلميذ واحد من قدامى رفاقي المسلمين. كان منزل أهله في محلة الطيونة. لكنه سرعان ما تغيب عن المدرسة، وهاجر مع أهله إلى السعودية. وبعد سنة دراسية، عاد إلى مدرستنا، لكنه بدا شخصًا آخر غير الذي كانه من قبل. وربما غيرته إقامته في السعودية، فصار منطوياً على نفسه، وأطلق لحيته عن تديّن جديد غامض لا عهد لنا به نحن التلامذة. وقد يكون هذا ما حمل الخوري في مدرستنا على أن يقول له مرة إنه راغب في تعميده في الكنيسة. فجاوبه ذاك التلميذ قائلاً: شو بدك ياني احترق بالنار؟! وبعد مدة قصيرة انقطع عن الحضور إلى مدرستنا، وقيل إنه انتقل إلى مدرسة أخرى. وفي مطلع العام الدراسي التالي، سألت تلميذًا مسلمًا في المدرسة عن رفيقنا القديم وأحواله، فصمت ثم قال فجأة: انتحر.

 

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية