وحيد عبد المجيد
مصر تبحث عن نفسها مجدداً. هذا هو عنوان الأيام الحاسمة المقبلة، التى قد لا تتجاوز عدة أسابيع، وربما تمتد لأشهر قليلة. فهذه أيام حاسمة، مثلما كانت أياماً عاشتها مصر عام 1954، وتحديداً فى الفترة من 25 فبراير إلى 29 مارس، وإن ظل الحسم معلقاً بشكل أو بآخر حتى 14 نوفمبر عندما صدر قرار إقالة محمد نجيب من رئاسة الجمهورية.
ولا يعنى ذلك أن التاريخ يكرر نفسه أو يعيد إنتاج أحداثه. فلا يوجد الآن مجلس قيادة ثورة يتولى الحكم بشرعية ثورية، ولا رئيس يستقيل (فى 25 فبراير 1954) احتجاجاً، فيزلزل الأرض ويفرض على مناوئيه المسيطرين على ذلك المجلس إعلان إجراءات ديمقراطية تعيد السلطة إلى الشعب.
ومع ذلك يوجد الآن ارتباك لا يختلف فى خطره عن الاضطراب، الذى أتاح الارتداد على تلك الإجراءات بعد 24 يوماً على إعلانها (إرجاء تنفيذ القرارات التى صدرت فى 5 مارس حتى نهاية فترة الانتقال).
فلا مجال للحديث عن تشابه بطبيعة الحال. فقد تغيرت مصر جذريا. كما اختلف العالم فى مجمله إلى حد لا يتيح أكثر من استخلاص دروس عامة من حالة الاضطراب السياسى، التى حدثت بعد ثورة 23 يوليو، وبلغت ذروتها فى مطلع 1954 لعلها تفيد فى معالجة الارتباك الشامل، الذى وقع بعد ثورة 25 يناير، وسيبلغ ذروته فى الأيام المقبلة.
سيكون المصريون على موعد بعد أيام مع حدثين كبيرين تاريخيين لا يفصلهما أكثر من 48 ساعة. ففى 23 يناير الجارى ستُعقد الجلسة الافتتاحية للبرلمان المنتخب فى انتخابات حرة بالرغم من كل ما شابها من سلبيات.
وسيكون لهذه الجلسة أثر جوهرى ليس فقط فى الصورة التى ستنطبع فى أذهان كثير من المصريين عن البرلمان الجديد، لكن أيضا فى مسار الأيام الحاسمة التى ستلى يوم انعقاده، وقد لا يكون مبالغاً القول بأن دور هذا البرلمان سيتوقف إيجاباً أو سلباً على هذه الجلسة، التى قد تظهر فيها مكوناته قادرة على التوافق، وطرح رؤية واضحة تؤكد أن الثورة بدأت فى بناء مؤسساتها، أو يتبين فور انتهائها أنه ليس مؤهلا للارتفاع إلى هذا المستوى من المسؤولية الوطنية.
ولذلك ربما يرتبط بعض تفاعلات الحدث الكبير الثانى يوم 25 يناير بأداء البرلمان فى جلسته الافتتاحية. فالبون شاسع بين أن تحل الذكرى الأولى لثورة مجيدة لم يتحقق الكثير من أهدافها فى وجود مؤسسة قادرة على إقناع الشباب الغاضبين بأنها قادرة على حمل الأعباء، وأن تأتى هذه الذكرى فى ظل انطباع شائع بأنها لا تستطيع ذلك.
وستكون لوقائع يوم 25 يناير والطريقة التى سينتهى بها هذا اليوم المنتظر أثر جوهرى أيضا فى تحديد المسار السياسى خلال الأيام التالية، التى سيتقرر فيها مصير مصر لعقود مقبلة.
وينطوى التزامن بين افتتاح البرلمان، الذى شارك ملايين فى انتخابه وإحياء الذكرى الأولى للثورة، التى ساهم فيها ملايين أيضا على مغزى عميق، لأنه يثير السؤال الأكثر جوهرية فى الأيام الحاسمة المقبلة وهو: هل تستطيع الأحزاب والقوى السياسية الممثلة فى البرلمان بأوزانها النسبية المختلفة أن تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار وتتوافق على خطة واضحة ومقنعة لنقل السلطة وتجاوز الانقسام حول مسألة الدستور، والعمل المشترك يداً بيد لتحقيق أهداف الثورة، والقصاص العادل لشهدائها ومصابيها؟
فما أبعد الفرق بين برلمان يرتفع إلى مستوى المسؤولية فتبدأ مع انعقاده عملية «مأسسة» الثورة أى تحويلها إلى عمل مؤسسى وانتقالها من الشارع إلى المؤسسات الدستورية دون أن يعنى ذلك إنهاء دور ميدان التحرير وغيره من ميادين الثورة، وبرلمان يغرق فى صراعات، وينغمس فى استقطاب يُضعف دوره.
وهذا فرق بحجم المسافة الشاسعة بين الخيارين، اللذين قد يُفرض على قطاع واسع من المصريين الاختيار بينهما، وهما الثورة والدولة. فإذا فشلنا فى إنجاز معادلة تجمع بناء المؤسسات الديمقراطية، واستمرار الثورة من خلالها أو مرتبطة بها، ربما نضع شعبنا أمام اختيار بالغ الصعوبة بين ثورة يرى جزء منه أن استمرارها مقدَّم على كل شىء، ويعتقد جزء آخر أن تواصلها بات متعارضاً مع مقومات المحافظة على الدولة.
ولأن التاريخ ينصح، دون أن يكرر نفسه، فقد وُضع المصريون فى أيام حاسمة مرت عليهم عام 1954 فى موقف الاختيار بين الثورة بلا ديمقراطية، والديمقراطية دون ثورة. فهل نعتبر ونستخلص الدروس؟
0 comments:
إرسال تعليق