الحديث عن موت عبد الناصر لا يتوقف منذ لحظة رحيله في 28 ايلول/سبتمبر 1970. وهذا العام طرحت الأسئلة مجددا عن ملابسات الموت وألغازه، وشهدت الفترة الأخيرة اتهاما موجها من إبنة الزعيم الكبرى بتورط السادات فيما سمته قتل والدها.
بجانب أن ما حدث لقائد حركة حماس خالد مشـعل وإنقاذه من موت محقق، وما جرى للراحل ياسر عرفات يكشف أن أيدي المخابرات الغربية بأنواعها، صهيونية وغير صهيونية، ممتدة، منذ ما قبل اغتيال باتريس لومومبا وبعد تصفية غيفارا في ستينات القرن الماضي. مات عبد الناصر بعد اغتيال الأول بخمس سنوات وبعد تصفية الثاني بثلاث سنوات. ولا ينفصل هذا عن إسقاط إحمد سوكارنو وعزل كوامي نيكروما في نفس الفترة، ووفاتهما فيما بعد. وكنت ممن يرجعون موت عبد الناصر إلى الأمراض التي عانى منها. وفي سيل الكتابات الجديدة بمناسبة حلول ذكرى الوفاة توقفت أمام قصتين نشرتا في صحيفة 'العربي' القاهرية. عدد 13 ايلول/سبتمبر 2009. تقول القصة الأولى أنه في دورة رمضانية لكرة القدم أقامها مركز شباب قليوب المحطة التابع لمحافظة القليوبية، شمالي القاهرة. شارك فيها 48 فريقا بينهم فريق اسمه الفريق الناصري، وبعد أول مباراة لعبها هذا الفريق قامت القيامة لأن ملابسه تحمل صورة عبد الناصر.. أوقفت الدورة، واستُدعي المشرف على الفريق، وطلب منه تغيير اسم الفريق وملابسه أو تلغى الدورة. وأمام رد الفعل الرافض كان الحل في أن يلعب الفريق الناصري بملابسه مقلوبة لإخفاء صورة عبد الناصر. القصة الثانية نشرت في نفس العدد عن السيناريست محمد صفاء عامر الذي طرد.. تحت حماية الشرطة.. من ندوة رمضانية بالأقصر. نظمها الملتقى الفكري والثقافي لأبناء الصعيد. لتطاوله على ثورة يوليو وزعيمها جمال عبد الناصر. وكان قد قال ان حركة يوليو أتت بالخراب وأن الإصلاح الزراعي مصيبة.. اعتبر الحاضرون كلامه استفزازا لأهالي الصعيد الذي أنجب جمال عبد الناصر وأنصفت ثورته فلاحين مصر وفقراءها. ألا يعني العداء للصورة والتطاول على الثورة اغتيالا للذكرى وقتلا للذاكرة؟ وألا يعني أن المستمرين في هذا امتداد طبيعي لمن تحوم حولهم شبهة الاغتال الجسدي؟ فهل من المستبعد على من لا يحتمل صورة زعيم رحل منذ ما يقرب من أربعة عقود أن يكون من هؤلاء الذين يستكملون مهمة القتل التاريخي والسياسي للزعيم الراحل وكل ما يرمز له؟
كانت هذه الأسئلة تدور برأسي حين وصلتني رسالة من الأخ والصديق كمال خلف الطويل. الطبيب العربي المقيم في أمريكا عبر البريد الألكتروني. أعاد فيها نشر الوثيقة رقم المنشورة 28 بملحق وثائق كتاب 'بين الصحافة والسياسة ' للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل . الصادر في 4891 . والوثيقة عبارة عن مذكرة بخط الوزير سامى شرف قدمت للرئيس جمال عبد الناصر بتاريخ 3 حزيران/ يونيو 1970م ، ترصد التحركات ضد مصر على الصعيدين الداخلى والخارجى، ولفت النظر إلى تأشيرة بخط الرئيس عبد الناصر على أعلى الصفحة من اليسار نصها : ' لقد تقابل علي أمين في روما مع أحد المصريين المقيمين في ليبيا، وقال له ان الوضع في مصر سينتهى آخر سنة 1970 وهو تاريخ يتكرر في كل الوثائق كحل لمشكلة جمال عبد الناصر . وذكر أن علي أمين هرب من مصر بعد إدانة أخيه مصطفى أمين بالتجسس لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت الشبهات تحيط به أيضا، ففضل أن يظل خارج مصر . وسأل عن كيفية معرفة على أمين أن الوضع في مصر سينتهى آخر 1970. وفعلا توفي جمال عبد الناصر فى 28 ايلول/ سبتمبر 1970م ، وبوفاته انقلبت أوضاع كثيرة في مصر وفي الوطن العربي. وفي نهاية رسالته قال: 'الآن بتجميع كل هذه الوثائق معًا وبالمعاني الواضحة التي نستشفها منها ألا يمكن أن نتساءل ما هو سر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر في 8 2 ايلول/ سبتمبر 1970؟ هل توفي بفعل فاعل؟.. هل هناك أسرار لم تكشف بعد عن وفاته؟'.
عادت بي الذاكرة إلى أيام الشباب، وتحديدا في حزيران/يونيو 1970. كان المبعوثون المصريون للدراسات العليا في الخارج في دورة تأهيلية. صارت تقليدا منذ المؤتمر الأول للمبعوثين في صيف 1966 بالإسكندرية واستجابة لتوصيات المؤتمر لتأهيل المبعوثين قبل سفرهم للخارج، وكانت الحالة التي شاهدت فيها الراحل العظيم عن قرب باعثة على القلق. ومع ذلك سأسمح لنفسي بالقفز إلى عام 1976. في هذا العام تقابلت مع شخص كان في حالة نفسية سيئة، وقال لي إنه يبحث عن شخص بعينه وذكر اسمي.. قلت ماذا تريد منه؟ فرد بانفعال ما شأنك؟ أنا أريده في أمر خاص جدا. وبدا على شفا الانهيار. وجدته يعرف اسمي ولا يعرف شكلي. قلت له لماذا تطلب مقابلة شخص لا تعرفه؟ رد قائلا: أنا في ورطة وقيل لي أنه يستطيع مساعدتي. لحظتها أفصحت له عن نفسي. فطلب الانفراد بي. وعرفني بنفسه كصحافي مخضرم من جيل يكبرني في ذلك الوقت. وحكى عن لقاء له مع مدير المخابرات المصرية الراحل صلاح نصر لعدة ساعات. وحكى عن أسرار كثيرة خرج بها. ولن أتوقف أمام ما قاله على لسان صلاح نصر من أن المخابرات المركزية الأمريكية 'بقرت بطن' المخابرات المصرية، وتفتش في أحشائها عن سر تفوقها وهزيمتها لها ولغيرها، خاصة الموساد الصهيوني.. كيف توفرت لها القدرات؟ ومن أين جاءت بالكفاءات؟ وحكى عن الألم النفسي لصلاح نصر مما تقوم به المخابرات الأمريكية على هذا الصعيد في ذلك الوقت المبكر. كان السر الذي شدني يتعلق بوفاة عبد الناصر. وذكر أنه مات مسموما.. قلت ليس في هذا جديد. فقد نسب هذا إلى ملك عربي، وإلى أخصائي تدليك. قال لا هذا ولا ذاك. فصلاح نصر يجزم بأن السم انتقل لجسم عبد الناصر عن طريق خاتم صمم خصيصا كان في اصبع حاكم خليجي.. قلت كلام مرسل ليس عليه دليل.. فرد دليلي هو التسجيلات التي تحوي التفاصيل، ومعززة بمجموعة صور أثناء التسجيل، وكنت أنوي نشرها في كتاب.
طلبت الاطلاع على التسجيلات. رد أنها سلمت لدولة عربية. اشترت المادة المسجلة ومعها الصور. دفعت الجزء الأول من الثمن المتفق عليه، ووجهت له الدعوة لاستلام الجزء الباقي. ترك في الفندق في بلد لم يكن زارها من قبل، ولا يعرف فيها أحدا دون سؤال من مضيفيه. وهذا أثار في نفسه الرعب. فخففت عنه وأردفت: قطعا لديك نسخة من التسجيلات والصور، ونفى ذلك. فاستطردت لا يعقل أن يسلم صحافي مخضرم تسجيلات بهذا القدر من الأهمية ولا يحتفظ بنسخة! قال هذا ما حدث ثم دمعت عيناه.. وقال أخاف أن يحدث لي مكروه. واتصلت بصديق مسؤول في ذلك البلد الشقيق، فبادر بطلبه واستمع له. وحدد له موعدا في اليوم التالي لمقابلة شخصية نافذة قادرة على التعامل مع هذا الموضوع، وحين ذهب للموعد المحدد في صباح اليوم التالي. ومجرد أن جلس في مكتب المسؤول دخل رئيس أركان الجيش دون سابق إنذار. فبادر المسؤول وعرض عليه الموضوع، وأشار له أنه من طرفي، وعلى الفور اتصل رئيس الأركان هاتفيا بالجهة المعنية قائلا لهم أن الصحافي في حمايته وطلب حل مشكلته وصرف المستحقات. بعد حصوله على مستحقاته قلت له انك محظوظ للغاية. فحضور رئيس الأركان صدفة سهل الأمر. ومثل هذا الأمر لايتكرر. وعليك أن تعود من حيث أتيت. 'فلا تسلم الجرة في كل مرة'. ويبدو أنه تصور أنني 'صاحب سر باتع' كما نقول في مصر، وأن تعرفه علي سيوفر له الحماية ويمنع عنه المكروه. ولم يكن تصوره حقيقيا، وما هي إلا شهور قليلة حتى واجه مشكلة جديدة مع نفس الجهة. فاتصل بي قلت له الصدف لا تتكرر. وهذه قصة مختلفة قد تروى في مناسبة أخرى.
أثبت تدخل رئيس الأركان وتعليماته للجهة المعنية صحة وجود التسجيلات والصور في أرشيف الدولة الشقيقة. لكنها لم يفرج عنها لثلث قرن. مع ما قد يكون في نشرها من فائدة قد تفسر لغز موت زعيم بحجم عبد الناصر. تغيرت الدنيا بظهوره، وانقلبت رأسا على عقب برحيله.
وأعود إلى دورة المبعوثين قبيل وفاة عبد الناصر بشهور معدودة. كان البرنامج يشمل التعريف بثقافات وعادات البلاد التي يتوجه إليها المبعوثون، إما بلقاءات مع مبعوثين عائدين، أو مسؤولين ومختصين من السفارات والمراكز الثقافية الأجنبية يقومون بهذه المهمة. وكانت سكرتارية التثقيف المتفرعة من السكرتارية المركزية لمنظمة الشباب مسؤولة عن إعداد المواد الفكرية والسياسية وتنفيذها. وتختم الدورة بلقاء مغلق مع عبد الناصر. وبصفتي المسؤول السياسي عن هذه الدورة أسندت إلي مهمة المسؤولية السياسية عن قاعة اللقاء مع المسؤول الأمني، وكان المرحوم اللواء زكي علاج مدير أمن القاهرة وقتها. وهو تقليد بدأ من منتصف ستينات القرن الماضي بتعيين مسؤول سياسي للاجتماعات والتجمعات السياسية لسرعة التصرف والتخفيف من صرامة التعليمات الأمنية. وهو تقليد انتهى بعد انقلاب ايار/مايو 1971، والتقى عبد الناصر بالمبعوثين في 16 حزيران/يونيو 1970 وكانت هيئته باعثة على القلق. بدا متعبا ومرهقا، وعزا البعض هذا لظروف النكسة ومتابعته الشخصية لمعالجة أسبابها، وجهده الخارق في إعادة بناء القوات المسلحة. ومن جانبي شعرت أنها آلام مرض شديد، ونقلت إحساسي إلى أصدقاء مقربين، واستمر هذا الانطباع مسيطرا أثناد اللقاء وبعده. مما أشعرني بأن ما قاله كان خطبة وداع ترك فيها نفسه على سجيتها.. استمع لنقد الشباب وعتابه، ورد بأبوة حانية على النقد بنقد والعتاب بمثله. سمع منه الشباب ما لم يسمعوه من قبل. وسعيت للحصول على نص هذا الحديث، الذي لم ينشر وفشلت. ومؤخرا سألت الوزير الأسبق سامي شرف كاتم أسرار الزعيم الراحل عن نسخة منه. فرد أن كل ما عنده بخصوص هذا الموضوع سلمه لزميل في قيادة حزب التجمع. أنوي الاتصال به في زيارتي القادمة للقاهرة إن شاء الله. صورة عبد الناصر الأخيرة مع المبعوثين استمرت عالقة في ذهني حتى سمعت خبر الوفاة الصاعق في الثامن والعشرين من مثل هذا الشهر لتسع وثلاثين سنة خلت. كنت على قناعة أن المرض وحده وراء الرحيل المبكر للزعيم حتى عرفت برواية صلاح نصر فتسرب الشك إلى نفسي.
' كاتب من مصر يقيم في لندن
0 comments:
إرسال تعليق