وترفض الواقع الإقليمي المجزّئ للعرب كما ترفض الطروحات القومية الأوروبية العنصرية والفاشية أو أسلوب الضمّ العسكري، وتنطلق من أرض مصر التي هي موقع جغرافيّ وسط يربط إفريقيا العربية بآسيا العربية، وتعيش على ترابها أكبر كثافة سكّانية عربية تملك كفاءاتٍ وقدراتٍ بشرية ضخمة قياساً بسائر الأقطار العربية الأخرى. حرب السويس عام 1956 ثمّ إعلان الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958، وقبل ذلك إعلان تأسيس حركة عدم الانحياز ورفض سياسة الأحلاف الاستعمارية، كلّها كانت مصادر إشعال لتيارٍ جديد قاده جمال عبد الناصر من خلال موقع مصر وثقلها القيادي، وحقّق للمرّة الأولى صحوةً قوميةً عربية تؤكّد ضرورة التحرّر الوطني والاستقلال القومي والانتماء إلى أمَّةٍ عربيةٍ واحدة، وتدعو إلى وحدة وطنية شعبية في كلّ بلد عربي، وإلى استخدام الوسائل السلمية في الدعوة للوحدة العربية، وإلى نهضةٍ عربيةٍ شاملة في الأطر كلّها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن هذه الصحوة القومية العربية كانت في غالبيتها «حالةً شعبية» أكثر منها «حالة فكرية» أو «تنظيمية». فالشارع العربي كان مع جمال عبد الناصر «القائد»، لكن دون «وسائل سليمة» تؤمّن الاتصال مع هذه القيادة. فأجهزة المخابرات كانت هي في معظم الأحيان «وسائل الاتصال» بدلاً من البناء التنظيمي المؤسساتي السليم للمجتمعات ولهذه الملايين العربية في بلدان المشرق والمغرب معاً.
طبعاً هذه الأمور كلّها لم تكن بمثابّة قضايا هامّة لدى الشارع العربي، فسمة المرحلة كانت «معارك التحرّر الوطني من الاحتلال والاستعمار»، وهذه المعارك لم تسمح كثيراً بـ «الحديث عن الديمقراطية» خاصّةً أنَّ العالم آنذاك كان قائماً على تجربتين: التجربة الرأسمالية في الغرب، وهي التي تقوم على تعدّد الأحزاب والحريات العامَّة مع النظام الاقتصادي الحر، بينما التجربة «النموذجية» الثانية التي كانت سائدة هي التجربة الشيوعية (السوفييتية أو الصينية) والتي كانت ترفض أساساً وجود حزبٍ آخر غير الحزب الحاكم ولا تقبل بأيّ نوعٍ من الحريات العامة في المجتمع، وتقوم على الاقتصاد الاشتراكي الموجَّه والمُسيطَر عليه من قبل الدولة. لذلك كان من الطبيعي في منطقةٍ عربية تريد التحرّر من الغرب الرأسمالي (كحال معظم دول العالم الثالث) أن تطلب المساندة من «الشرق الشيوعي» وأن تتأثّر بمفاهيمه للحكم سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وألا تقبل الجمع بين التحرّر الوطني من الغرب وبين تبنّي صيغه الدستورية والاقتصادية والثقافية في أنظمتها. وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وقبلها هزيمة عام 1967، وقبل هذا وذاك: ضعف البناء الفكري والسياسي والتنظيمي لتيّار القومية العربية مقابل قوّة دور «المخابرات» وسط هذا التيَّار.. كلّها عناصر أسهمت بلا شكّ في ضعف التيَّار القومي العربي نفسه لعقودٍ لاحقة. وصحيح أن هذه المرحلة قد انتهت الآن، لكن دروسها للحاضر والمستقبل أنَّ القومية العربية هي حالة انتماء وليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته، وبأنَّ النهضة العربية الشاملة تحتاج إلى دور مصري فاعل وإلى تكامل بين وضوح الهويّة العربية وبين البناء الديمقراطي السليم. لكن السلسلة التي امتدَّت من هزيمة 1967، إلى وفاة ناصر، إلى توقيع أنور السادات لمعاهدات كامب ديفيد، إلى عزل مصر، إلى حرب لبنان، إلى الحرب العراقية ـ الإيرانية، إلى اجتياح لبنان عام 1982، إلى غزو الكويت وحرب الخليج الثانية، إلى الصراعات الحدودية المسلَّحة بين بعض الدول العربية، ثم إلى أحداث سبتمبر 2001 وما بعدها من حروب وصراعات أخطرها احتلال العراق. كلّها عوامل امتزجت كسلبيّات لتضعف الجسم العربي عموماً ولتضع الصراع العربي ـ الإسرائيلي في حالة «الثانوية» أو خانة التسويات الثنائية!. رحم الله تعالى جمال عبد الناصر، فقد دفعته معلومات مصدرها موسكو (مايو 1967) عن حشوداتٍ إسرائيلية ضدَّ سوريا إلى إعلان حالة التعبئة العامَّة وإغلاق مضائق تيران في سيناء، ثم تعرّضت مصر لهزيمةٍ عسكريةٍ كبيرة كان وراءها استهتار المشير عامر والتركيبة الهشَّة آنذاك للمؤسسة العسكرية المصرية. رغم ذلك، أعلن جمال عبد الناصر يوم 9 يونيو (بعد أقلّ من أربعة أيام على بدء الحرب) استقالته من المواقع الرسمية كافّة وأنّه كقائدٍ أعلى يتحمَّل المسؤولية كلّها عمَّا حدث. وما حدث في مصر لم يكن عدواناً من حكومتها على بلدٍ عربيٍّ آخر ولا حتى على إسرائيل، بل كان عدواناً عليها من إسرائيل وأميركا و«غضّ نظر» من القطب الدوليّ الآخر ومن أجل محاولة الدفاع عن بلدٍ عربيٍّ آخر، سوريا. جمال عبد الناصر حرص كردٍّ على هزيمة عام 1967 على أن يوقف أيّة صراعات عربيةـ عربية وعلى أن يبني تضامناً عربياً فعالاً، فسحب القوات المصرية من اليمن، وصالح كلَّ من عاداه من العرب، ورفع شعار أولويّة المعركة مع العدوِّ الصهيونيّ. فالقيادة الناصرية لمصر أدركت بعد هزيمة عام 1967 أهميّة إعطاء الأولويّة الكاملة للصراع مع إسرائيل، وأنّ هذا الصراع يقتضي تكاملاً بين هذه العناصر الثلاثة:
1- بناء تضامن عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء من جهة (كمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ينزلق أيّ طرفٍ عربي في اتفاقيات منفردة، وبوقف كلّ الصراعات العربية ـ العربية والمعارك الهامشية داخل المجتمع العربي. وبذلك حسم ناصر: «لا صوت يعلو على صوت المعركة مع العدوّ الصهيوني»، وبأنّ معيار المرحلة هو «موقف أيّ طرف عربي من العدوّ». إنّ التضامن العربي إنّما يكون فاعلاً حينما لا يكتفي بترديد ما هو «مرفوض» بل حينما يضع خططاً لما هو مطلوب إنجازه في المعركة. لقد كانت قرارات قمّة الخرطوم عقب هزيمة 67، هي الأرضيّة الصلبة للدعم العربي الذي تقرّر لدول المواجهة ولمنظمة التحرير الفلسطينية، وقامت حصيلة ذلك جبهة عربية واسعة جمعت «دول النفط» مع «دول المدفع» في إطارٍ تضامنيٍّ عام، ساعد على إعادة بناء القوات المسلحة المصرية وخوضها لمعارك حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، ثمّ كان هذا التضامن ذاته وراء القرار في حرب أكتوبر عام 1973، الذي جمع بين استخدام السلاح والاقتصاد والسياسة، فكان قرار حظر النفط متساوياً في أهمّيته مع قرار المواجهة العسكرية مع إسرائيل
2- بناء جبهة داخلية متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية، ولا تلهيها معارك هامشية عن المعركة الرئيسية مع العدوّ الصهيوني. طبعاً، مع إعادة بناءٍ كاملٍ للقوات المسلحة واعتماد عنصر «الكفاءة» لا «الولاء» في مواقع المسؤولية داخل الدولة عموماً، والجيش خصوصاً. وكان نموذج هؤلاء الشهيد الفريق عبد المنعم رياض (رئيس أركان القوات المصرية) أحد شهداء حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية عام 1969
. 3- بناء أهداف سياسية مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط. فقد رفض جمال عبد الناصر إغراءات التسوية كلّها مع إسرائيل، بما في ذلك العرض الأميركي ـ الإسرائيلي له بالانسحاب الكامل من كلّ سيناء مقابل عدم تدخّل مصر في الجبهات العربية الأخرى، وإنهاء الصراع بينها وبين إسرائيل (وهذا ما فعله أنور السادات فيما بعد باتفاقية كامب ديفيد). وكان ناصر يردّد «القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء»، و«لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة». وأصرَّ ناصر على هذه الأهداف السياسية رغم قبوله بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن ثمَّ لما كان يُعرَف باسم «مبادرة روجرز»، وكان يتحرّك دولياً في مختلف الاتجاهات (رغم ظروف الحرب الباردة واضطراره لعلاقةٍ خاصّة مع موسكو) بدون تفريطٍ أو تنازلٍ عن الأهداف السياسية المرحلية، وبشكلٍ متزامنٍ مع البناء العسكري والمعارك المفتوحة على الجبهة المصرية ومع أقصى درجات التضامن العربي والدعم المفتوح لحركة المقاومة الفلسطينية. هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973، فكانت السنوات الأخيرة من حياة ناصر زاخرة بالبناء الداخلي وبالتضامن العربي وبالمواقف الصلبة والتي أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وكرامتها. لكن بعد وفاة جمال عبد الناصر وبعد «انتصار أكتوبر 73» اتّسمت المرحلة بتحوّلات خطيرة لدى بعض
بقلم : صبحي غندور
0 comments:
إرسال تعليق