إنَّه عمرو سليمان، قرشهم الأبيض الذي خبَّأوه ليومهم الأسود، عيَّنَّه مبارك، في رُبْع الساعة الأخير من حُكْمِه، نائباً له، ثمَّ فوَّض إليه سلطاته وصلاحياته، لعلَّ سفينة نظام الحكم تنجو من الغرق في بحر الثورة، ثمَّ كلَّفته المؤسَّسة العسكرية بمهمة "إعلان تخلِّي مبارك عن منصب رئيس الجمهورية، وتكليف (هذا الرئيس المعزول) للمجلس العسكري الأعلى بإدارة شؤون البلاد"، ثمَّ دعاه "المجلس العسكري الأعلى"، وبصفة كونه المتوفِّر، سِرَّاً وعلانيةً، على إعداد العُدَّة للانتقال بمصر من "عهد الثورة" إلى "عهد الثورة المضادة"، إلى التواري، والاعتصام بحبل الصَّمت، والاستراحة التي تشبه استراحة المُحارِب، ثمَّ أخرجه، وعلى حين غرة، من الظلمات إلى النور، مُلْبِساً إيَّاه لبوس "المُنْقِذ" و"المُخلِّص" لـ "الدولة"، أيْ لنظام الحكم فاقِد "الرأس"، إذا ما سُيِّرت رياح انتخابات رئاسة الجمهورية بما يَضْمَن له الفوز بكرسيِّ الرئاسة؛ وإنَّه لكرسيٌّ لو تَعْلمون عظيم!
وإنِّي لأشْهَد لـ "المجلس العسكري الأعلى"، الذي عَرَف كيف يحكم مصر "حُكْماً بونابرتياً"، بـ "حُسْن (وبرعاة ومهارة) الأداء"؛ فهو لَعِبَ اللعبة بحذقٍ وذكاءٍ، إذ أوْهَم "ميدان التحرير" أنَّه مِنْ ثوَّاره، ولهم، صادِق ومُخْلِص في نصرته لهم، منتصِرٌ لمطالب الثورة وأهدافها، ولسوف يؤدِّي، عمَّا قريب، وعلى أنْ يصبروا؛ لأنَّ الصبر مفتاح الفرج، الأمانة إلى من ائتمنوه؛ فاستبدَّ الوهم بالثوار، واستحدثوا لوهمهم هذا شعاراً من جنسه هو شعار "الجيش والشعب يَدٌ واحدة"، فإذا بـ "المؤتَمَن" يَجْعَل شعارهم على هيئة "خنجر"، وُضِعَ في يد بروتوس، فلم يبقَ لهم إلاَّ أنْ ينطقوا بما نطق به "المغدور".. "حتى أنتَ يا بروتوس!".
أمَّا القائلون بشعار "الإسلام هو الحل" فغالوا وأفرطوا في ثقتهم بـ "أبي سفيان"، فدخلوا بيته؛ فمن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، وشرعوا يبيعون له "25 يناير" بثلاثين من الفضة، لعلَّهم يقتسمون معه فقط، أي مع "المجلس العسكري الأعلى"، "كعكة السلطة"، ولعلَّ "المشير" يهتدي أخيراً، فَيَقْبل "قِسْمَةً عادلةً"، يعطي فيها ما لله لله، مُسْتَبْقِياً له ما لقيصر.
وسرعان ما جَعَلَهم الوهم ضحية لعاقبة من عواقبه ألا وهي "الحماقة"؛ فلمَّا ارتفع فيهم منسوبها ظَنُّوا أنَّ السلطة كلها أتتهم منقادةً، إليهم تجرجر أذيالها، وكأنَّها لم تكن تصلح إلاَّ لهم، وكأنَّهم لم يكونوا يصلحوا إلاَّ لها؛ وشرعوا يتعرُّون من كل ثيابٍ "جميلة" لبسوها عن اضطِّرار، فأخافوا وأفزعوا "الآخر"، المختلف عنهم، والمخالِف لهم، فتمزَّقت "الثورة"، بسيفهم، جسداً وروحاً، سلاحاً وهدفاً، فما كان من المتربِّصين بها الدوائر إلاَّ أنْ خرجوا على الشعب وثورته شاهرين عمرو سليمان لعلَّه يأتي بمعجزة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء!
إنَّه لجَبَل الثورة يتمخَّض؛ فهل يَقْبَل "ميدان التحرير" لهذا الجَبَل العظيم المُتمخِّض أنْ يَلِدَ فأراً؟!
"الحلُّ" في متناوَل الأيدي، أيدي الحريصين على الثورة، وعلى بلوغها هدفها النهائي والذي هو على مرمى حجر من "ميدان التحرير"؛ فما على أولئك الذين اتَّحَدوا في الثورة، وبها، إلاَّ أنْ يعودوا جميعاً، وسريعاً، إلى اتِّحادهم (الثوري) ضدَّ نظام الحكم نفسه، وضدَّ عمرو سليمان، بصفة كونه الجسد الذي فيه حلَّت روح مبارك، وليستأنفوا الصراع من "الميدان" نفسه، وليزجُّوا الآن بـ "مجلس الشعب"، وبـ "الجمعية التأسيسية"، في هذا الصراع، "شعارهم" الآن "لا انتخابات رئاسية قبل دستور جديد يُقَرُّ في استفتاء شعبي"؛ وعلى مُعدِّي مشروع الدستور الجديد أنْ يُضمِّنوه من النصوص والبنود والمواد ما يَجْعَل منصب رئيس الجمهورية كمنصب ملكة بريطانيا لجهة ما يتمتَّع به صاحبه من سلطات وصلاحيات، وما يَضْمَن، في الوقت نفسه، تركيزاً للسلطة التنفيذية في حكومة منبثقة من البرلمان؛ وليأتِ، بعد ذلك، من يأتي إلى منصب رئيس الجمهورية؛ فإنَّ "فَرْعَنة" سلطات وصلاحيات صاحب هذا المنصب هو الطَّامة الكبرى؛ وعندئذٍ، يَرُدَّ "ميدان التحرير" كَيْد لاعبي ورقة "عمرو سليمان" في نحورهم!
جواد البشيتي
0 comments:
إرسال تعليق