السبت، أبريل 14، 2012

الدوامة


يستهويني البحث في مكنونات لغتنا العربية لزيادة اقتناعي بالترابط بين اللفظ والمعنى وبين الشكل والمضمون ، وفور انتهائي من ذلك أشعر بسعادة عارمة فلقد أسعفتني الكلمات بحوائها الكبير لما أريد،ولما أنشده ، فالدوامة هي التحليق في السماء بعيداً عن الواقع في حركة دورانية لا تتوقف إلا بفعل إرادي ، وكثرة الدوران يؤدي ويوصل للدوام ، وهو الدوار المُفقد للمرء جزءاً كبيراً من قدراته الفكرية.

تقصدّت العنوان،وكان الأجدر والحريّ بي أن أطلق اسم الدوامات بديلا ً،فلقد كثُرت في عالم السياسة العربية ، وباتت كموجات البحر العاتية في سرعة تدفقاتها ، و آثارها المُدمرة.

أكثر من ستين عاماً مرّ على النكبة الفلسطينية،وأكثر من ثلاثين عُمر ما سُمي "بالمسيرة السلمية" والأوضاع تزداد سوءاً على صعيد النتائج شبه المعدومة وعلى مستوى التراجعات والتنازلات التي تقدم عند كل مباحثات ، والغريب فوق كل ذلك القدرة الخارقة وغير الطبيعية للسياسيين المعنيين بها في "إحيائهم " للعملية السلمية بعد نعيّها كل مرة،وتشييعها،ومن ثم دفنها لتُعاد للحياة مجدداً..!!

بدايات الحديث عن السلام كانت في عام1948عند قيام ما سُميّ"بدولة إسرائيل"...يومها وَقعّ ديفيد بن غوريون أول رئيس للوزراء مع العديد من المسؤولين " الإسرائيليين " وثيقة تحدثت عن حرصهم على السلام مع الفلسطينيين وحتمية حسن العلاقات مع الجيران ، وبعدها استمرت مسيرة الكذب.... ،واللف والدوران حاصدة مكاسب لدولة العدوان، عبر عنها كاتب " إسرائيلي " قائلا ً:"مسيرة السلام التي بدأت بعد حرب " يوم الغفران " عام1973لم تنهِ النزاع،ولم تنشئ شرق أوسط جديد،ونحن أمام أمرين : إما إنهاء النزاع ونهاية المطالب،وإما أن نَفُضّ الأيدي،وحرب أبدية،فالحياة رمادية اللون. كانت"إسرائيل"التي نشأنا فيها سجناً مُحاصراً مع مَنفذِ هرب صغير في مطار بن غوريون،لقد منحت مسيرة السلام الإسرائيليين أكثر من كل عامل آخر توجهاً إلى الأسواق،وإلى المواقع السياحية في الخارج،وربطت الاقتصاد الإسرائيلي بالاقتصاد العالمي،وأفضت إلى قبول إسرائيل البطيء على أنها جارة شرعية في الشرق الأوسط،وأسفار"نتينياهو"إلى القاهرة تخدم المصلحة الإسرائيلية رغم عدم زيارة مبارك"لإسرائيل".

ويبدو لنا أن نهجاً أُقرّ،واعتمد في المفاوضات العبثية لدى كل المشاركين الإسرائيليين فيها ، فبعد حرب تشرين عام1973قاد وزير الحرب موشيه دايان حملة التقرب من مصر ،والتقى في المغرب بمندوب الرئيس السادات....في تلك الفترة كان مناحيم بيغن رئيس الوزراء معارضاً لتحركاته،لكنه أقنعه في وَضعِه لسؤال ما هي المفاوضات؟!..وأجاب عليه بنفسه قال وفق ما جاء في صحيفة هآرتس9-1-2010:"المفاوضات...هو سيطلب وأنا سأرفض، نحن نعرض وهو سيرفض"وبذلك اقتنع بيغن فالعملية ليست سوى مضيعة للوقت من أجل كسب المزيد لصالح العدو.

،وقد مرّت أربعة عقود زمنية منذ ان  كتب"دروأيدر":لقد عُدت إلى موشيه شارون المستشرق الهام الذي نَشر في العام1994مرشداً للمفاوضات في الشرق الأوسط،وفيه يضع نقاطاً أساسية:

" اكتسب المعرفة،ولاتبع أبداً..لا تكن أبداً أول من يقترح شيئاً على الطرف الآخر..إذا تحدثت أولا ًفقد خسرت..أجّل دوماً...لا توافق دوماً.استخدم قولا"هذا لا يقترب من الحد الأدنى"وانصرف عن الطاولة...الزبون العنيد يحقق أسعاراً جيدة...لا تسارع إلى اقتراحات مضادة،وإنما سيكون هناك وقت لذلك..دع الطرف الآخر يُجري تعديلات كنتيجة"خيبة أملك"..الصبر هو عنوان اللعبة...امتنع دائماً عن الصياغات الإبداعية..لامكان للمشاعر لا في السوق،ولا حول طاولة المباحثات في الشرق الأوسط..لا تدفع من جيبك على الكلمات..كلمات ودّية مثلما هي انفجارات الغضب..اللمسات الجسدية مثل مسك الأيدي..القبلات..تقريب الخدود،والعناق...كلها مناورات مقبولة،ولا ينبغي تفسيرها كممثلة للسياسة".

لكن الأهم ومع أهمية تحديد أسلوب المفاوضات،والتي رأينا صوراً عديدة منها عبر شاشات التلفاز،وقرأنا العديد عن محاورها التضليلية فالكاتب يؤكد"على إعداد خطة عمل مسبقة مفصّلة مع خطوط حمراء، مشددا :لا تُري ذلك لطرف ثالث فهو سيُوصل ذلك إلى خصمك بسرعة كبيرة".

كَثرَ الحديث عن"إحياء عملية السلام" في البداية وافق الحليف الأمريكي على وقف بناء المستوطنات، إلا أنه تراجع وبسرعة إلى التجميد لفترة محددة، وعن التجميد قال كاتب إسرائيلي:"تجميد المستوطنات لعشرة أشهر هي مثل الأسبرين لمريض السرطان".

ومع تراخي الموقف العربي أعلن الحليف الأمريكي عن استئناف لمهزلة "الكلام" دون شروط مسبقة،وحدّد مدة زمنية لاستغراقها،وهي عامان،وبذلك أضاف عمرا جديدا ليصبح عمر"الأضحوكة"ما يقارب ربع القرن من الزمن - ،وفي التاريخ لم نقرأ عن مفاوضات استمرت هذه المدة - والتجميد لبناء المستوطنات الذي وافقت عليه "إسرائيل " لمدة عشرة أشهر فقط عنى المشاريع الجديدة ، لكن استكمال القديمة منها سيبقى،وأيضا لم يشمل القدس ،والغرض من ذلك أن تصبح عاصمة أبدية للدولة اليهودية ، والموقف الأمريكي الصامت عن كل ذلك يُعزز وجهة نظر الإدارة الأمريكية بأن القدس لا تشكل جزءاً أصيلا ًمن حدود الدولة الفلسطينية،وأنها بحاجة

الى حل قد يكون عبر تدويلها .

إن نهج المماطلة والتسويف الذي تحدثنا عنه،وعن أسسه عاد ليؤكده"عوفر شيلح"في صحيفة (معاريف) تحت عنوان لا تسوية للنزاع بين الفلسطينيين والإسرائيليين في الأمد القريب في عددها الصادر في6-1-2010كتب : "قال بعضهم ذلك علناً فقد تحدث أيهود باراك منذ زمن عن سلام ليس قبل2028،بينما تكلم رئيس الحكومة عن"سلام اقتصادي"يُبنى من أسفل إلى أعلى،أي أن تساعد " إسرائيل " في تحسين وضع الفلسطينيين الخاص،لكن لا تساعد في تحقيق مطامحهم الوطنية"شارحاً أنه لا يوجد في - أمان،أو الشاباك،أو الموساد - أي صوت ذي شأن يعتقد إمكان التوصل إلى تسوية مستقرة مع الفلسطينيين في المستقبل القريب , كانت مقاربة نتنياهو للقضية الانتظار الى أن يتخلى أوباما عن ذلك ولقد تخلى على نحو حتمي فللرئيس مشكلات أخرى وقد أخذ يصوغ انجازا تاريخيا بإجازة الإصلاح الصحي , وينصحه قدامى المفاوضين وأصحاب أعمدة صحفية بأن يسحب يديه من الوحل الدامي في المنطقة



وعن الموقف الأمريكي من"أسطورة السلام"فلا شيء تبّدل منذ الاعتراف الأمريكي عام1948بقيام “إسرائيل , في تلك الفترة كان الرئيس هاري ترومان يفخر بأنه"قورش"الجديد،وقورش من أعاد قديماً اليهود من السبي البابلي إلى"أرضهم"في فلسطين،وعَبّرَ السنين تبارى الرؤساء الأمريكيون بدعم إسرائيل بكل أنواع الدعم حتى في اعتداءاتها على الأمة العربية،وجميعنا يذكر ما قدّم من دعم في السنين الأخيرة لعدوانها على حزب الله،وعلى غزة ، واليوم وبعد طرح فكرة التفاوض مجدداً بلا شروط مسبقة تستمر لمدة عامين،والضغط على الجانب العربي يُخيّل لنا أن لا جديد سيُقدم فالرئيس الأمريكي الحالي"أوباما"لم،ولن يخرج،ولن يكون بإمكانه الخروج عن الاستراتيجية الأمريكية التي ترى في تحالفها الاستراتيجي مع"إسرائيل"مصلحتها الإقليمية في المنطقة،ففي عام2007وفي مجلس الشيوخ،وكان عضواً فيه رَكز على أن"لا أحد يعاني أكثر من الشعب الفلسطيني"لكنه ما لبث أن صرّح بفعل الضغوط الانتخابية بأنه"مثل اليهود الذين عانوا من أزمة الهوية في المهجر،وبحثوا عن هوية ووطن يجمعهم فعثروا على الصهيونية وإسرائيل"وقال منوّهاً بالتنازلات المؤلمة التي تقدمها " إسرائيل " من أجل السلام،وأن الإسرائيليين يريدون السلام في حال وجود شريك فلسطيني مسؤول ، والثوابت العائمة والتراجعات المعتادة ظهرت في خطابه منذ حوالي عام في القاهرة قائلا ً:"إن متانة الرابطة بين أمريكا وإسرائيل معروفة على نطاق واسع،ولا يمكن قطع هذه الأواصر أبداً،وهي تستند إلى علاقات ثقافية وتاريخية،وبأن رغبة اليهود في وجود وطن خاص لهم هي رغبة متأصلة في تاريخ مأساوي لا يمكن لأحد نفيه"وبعد استعراضه لمأساة الفلسطينيين طالبهم "بالتخلي عن العنف،وأن المقاومة عن طريق العنف والقتل أسلوب خاطئ،ولا يؤدي إلى نجاح"وطالب حماس بوقف العنف،والاعتراف بالاتفاقات السابقة وبحق إسرائيل في الحياة،مضيفاً:"إننا لا نقبل مشروعية استمرار المستوطنات الإسرائيلية،وأن عمليات البناء تنتهك الاتفاقات السابقة،وتقوض من الجهود المبذولة لتحقيق السلام..لقد آن الأوان لكي تتوقف هذه المستوطنات"وعن غزة يقول:"إن أمن إسرائيل لا يتوفر عن طريق الأزمة الإنسانية في غزة التي تصيب الأسَر الفلسطينية بالهلاك"ويطالب إسرائيل بتحقيق تقدم في هذا المجال،وكذلك في الضفة الغربية.

وكالعادة،الكلمات تذروها الرياح،ويطوي النسيان معظمها فتعود إلى حلقات الدوامة،فالشروط الأمريكية الجديدة حددت إجراء مباحثات بلا شروط مسبقة،وكانت قبلا ًتطالب بوقف التوسع الاستيطاني يقابله تطبيع عربي مع إسرائيل.

لقد جُففت سريعاً"الدموع الكاذبة"على أهل غزة،ودعمت أمريكا بناء الجدار الفولاذي المصري الذي يُقام حالياً دراسة وتمويلا ً وتطويراً لتقنيات المراقبة لمنع مرور الغذاء والدواء إلى القطاع لا من خلال المعابر الإسرائيلية،ولا عَبر معبر رفح المصري،ولاحتى الأنفاق التي حُفرت تحت الأرض لتمرير الاحتياجات الإنسانية عبرها جميعها،لقد صدقت المقولة القديمة التي كانت رمزاً معرّياً لكل أنواع الدجل والرياء...قيل"اقرأ تفرح..جرّب تحزن".

وعن الموقف العربي الرسمي فالسِمة المميزة له التراجع السريع المستمر...قديماً كان"لا صلح...لا تفاوض...لا سلام"ثم هبط إلى الأرض مقابل السلام،ثم كانت المبادرة العربية،وراح الصمت يُغيّب شرطاً من أهم بنودها وهو حق العودة،وفي أيام السوء يُحاصر الفلسطينيون في قطاع غزة ببناء الجدار الفولاذي على الحدود المصرية لمنع وصول الغذاء والدواء لأهلنا عبر الأنفاق بعد أن أغلق معبر رفح لسنوات عدة تحت حجج واهية،ومؤخراً أعلن عن بناء مرسىً جديدً في محافظة شمال سيناء لتعزيز دوريات الزوارق المصرية على الحدود البحرية مع غزة لمنع استخدام التهريب،ومنع زوارق الصيد الفلسطينية من الاقتراب من المياه الإقليمية المصرية،وهي المُحاصرة أصلا ًمن قِبل إسرائيل ضمن حدّ مائي غير بعيد لا يُسمح لها بتجاوزه،وبالتالي حرمان الجوعى حتى من صيد الأسماك،والأردن تنَبّه مؤخراً لاستكمال تنفيذ معاهدة وادي عربة الموقعة مع الإسرائيليين بإعفائه حوالي2500سلعة إسرائيلية من رسوم الاستيراد المترتبة عليها،وكان قبلها بأشهر أجاز بيع منتجات المُغتصبات"المُستوطنات" في أسواقه رغم اعتراضات المواطنين في شوارع عمّان. وأجهزة الإعلام تتناقل خبر مشاركة وزير البنى التحتية " الاسرائيلي " ولأول مرة في مؤتمر دولي يعقد في أبو ظبي

إنها أطراف المعادلة الثلاثية، لكن أضيف لها مؤخراً طرف رابع ضد الجميع، وخارجا عنهم:
الطرف الأول:نَهم وشره بتوسع لا ينتهي، وهضم للأراضي والحقوق، وتلاعب بالخيارات السياسية، والتضليل بها من أجل كسب الوقت.
الطرف الثاني:مؤيد بلا حدود"لإسرائيل"وآخر ما قاله الرئيس الأمريكي"أوباما"كان عن دعمه لها في دفاعها عن نفسها ناسياً،بل متناسياً أنها قامت على العدوان،وبالعدوان استمرت،وأنها قوة عسكرية كبيرة يكمن منطق القوة والعنف في تلافيف أدمغة مسؤوليها وتابعيهم ومؤيديهم.
الطرف الثالث:أغلب الأنظمة الرسمية العربية سلاحها الوحيد في المواجهة..الكلمة..عبر التفاوض،ولا شيء غيرها فقد غيّبت الحكمة القائلة بأن الحق لا قيمة له إن لم تدعمه القوة،ومؤخراً أتقن الجميع نشاط التنازلات, وتوزعوا بين أقطار غير مكترثة وغير معنية،وأخرى تنفذ الإملاءات الأمريكية المطلوبة منها بصمت وهدوء،وأخرى تهرول في خدمة ما يُرسم ويُنصب لها.

وصورة قاتمة تُدمي القلب عندما يُعلن تقرير أعدته جمعية"إعمار"للتنمية والتطوير الاقتصادي داخل فلسطين المحتلة عام48عن التبادل التجاري القائم بين إسرائيل ودول عربية وإسلامية حيث تصل قيمة مبادلاته حسب أرقام الإحصاء الإسرائيلية إلى عدة مليارات يتصدر الأردن قائمة الدول العربية إذ تبلغ حجم مستورداته عام2008ما يبلغ288,500,000دولارا،بينما موريتانيا تستورد ما قيمته514,000دولارا،لكن مدير معهد التصدير" الإسرائيلي " "ديفيد أرتسي"يّبين أن البضائع الإسرائيلية موجودة في كل الدول العربية والإسلامية عدا إيران،سوريا،ولبنان كونها دولا ًمعادية.

وأمام هذه الأطراف ،الطرف المجرم المناور،والطرف الداعم بلا حدود،والثالث المدمن على قدرة التراجع الأبدي...أمامهم جميعهم وفي مقابلهم بدأ تكوّن الطرف الرابع:

وهو الشعب العربي، وشرف له أن يكون لوحده...هو المُعاني والمُصاب في كل جوانب حياته...منهم الفلسطيني وآلامه، والعراقي وجراحاته، والسوداني ومشاكله...وكلما زادت مآسيه ازدادت قناعته بأن المقاومة هي السبيل الوحيد لدفع الغبن عنه، وفن السياسة تابع وملحق لها، ولذا فهو مع المقاومة اللبنانية، والفلسطينية، والعراقية، والصومالية...زاده في كل ذلك إيمان كبير لا يتزحزح قيد أنملة عن حقوقه وأمانيه...مؤمناً بنصر الله في قوله عزّ وجل:"يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"سورة محمد..الآية7.

إنه طريق الخروج من الدوامات، ولا أمل إطلاقاً في أضحوكة السنتين القادمتين من المفاوضات، أو حتى السنين القادمة كما لم يكن عبر السنين الماضية إن لم نجعل القوة عنواناً لكل جوانب حياتنا العسكرية..الاقتصادية..والعلمية والتمسك بهدف وحدة هذه الأمة فلقد كفاها ما عانته من مآسٍ عبر عمر طال أمده.

محمد علي الحلبي

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية